البناء من منطلق الانتماء.. أوضاع التعليم العالي في العالم الإسلامي

TT

تأكد اليوم على وجه اليقين، ان ثمة أزمة خطيرة تعاني منها الجامعات، سواء في الوطن العربي، أو في العالم الاسلامي، وان عددا قليلا من هذه الجامعات هو الذي يسير في الاتجاه الصحيح. وهذا ما يعبر عنه بالازمة الحضارية، لأن الجامعة هي صانعة الحضارة.

إن أوضاع اغلب الجامعات في العالم الاسلامي لم تتطور بالقدر المطلوب، لذلك لم يرتق التعليم الجامعي والعالي الى المستوى الذي نرغب فيه والذي يجب علينا ان نهتم بالغ الاهتمام بتمهيد السبل واتخاذ الوسائل الى بلوغه. وان من اهدافنا التي نعمل لها، ما وسعنا العمل، سواء في المنظمة الاسلامية للتربية والعلوم والثقافة أو في اتحاد جامعات العالم الاسلامي، تقوية علاقات التعاون بين جامعاتنا في شتى المجالات، وتنسيق الجهود التي تبذل من أجل ذلك، واقامة أسس قوية لتبادل الخبرات والكفاءات على جميع المستويات، وايجاد أجواء من الثقة المتبادلة تنبثق من روح الاخوة الاسلامية والزمالة العلمية والاكاديمية، والحرص على تحقيق المصالح الحيوية المشتركة بين الجامعات، بما يصب في اتجاه دعم جهود التنمية الشاملة والمستديمة في بلدان العالم الاسلامي.

وإذا كان العالم الاسلامي يعاني من مشكلات التخلف في ميادين كثيرة، فإن للجامعات دورا بالغ الاهمية في البحث عن الحلول العلمية لمعالجة الكثير من هذه المشكلات، لذلك فإن أمامنا مهاما كبيرة علينا ان نضطلع بها في اطار التعاون والتكامل والتنسيق، حتى ننهض برسالة الجامعة، ونوجد مجتمع المعرفة الذي ينشأ ويترعرع في رحابها.

إن ازمة مناهج التعليم في العالم الاسلامي نشأت من الظروف السياسية والفكرية والاقتصادية التي مرت وتمر بها المجتمعات الاسلامية، لذلك فهي ازمة قابلة للمعالجة والتغلب عليها، إذا ما توفرت ارادة التغيير الايجابي والاصلاح الفعال في المقام الاول.

ولسنا نقول جديدا، حينما نوضح هنا ان معدلات النمو في العالم الاسلامي في هذه المرحلة تتراجع بشكل مطرد، وان التنمية البشرية لا تسير في الخط الذي ينبغي ان تسير فيه، لاسباب كثيرة، لا تعود كلها الى العوامل الخارجية، وانما معظمها يرتبط بالاوضاع المحلية والظروف الاقليمية، وبتباطؤ العمل الاسلامي المشترك في مجال تقوية أواصر التعاون والتكامل والتنسيق، والمضي قدما في طريق بناء القواعد المتينة لتنمية العالم الاسلامي من النواحي كافة.

وإذا كان التعليم الجامعي والعالي، وكل ما يرتبط به من قضايا وموضوعات، هو احد مجالات عمل الايسيسكو واتحاد جامعات العالم الاسلامي، فإن من الحقائق الثابتة ان الجامعة التي هي مصنع العقول، تعكس الصورة الحقيقية للمجتمع، وهي تتأثر، سلبا وايجابا، بما تحفل به الحياة العامة من تطورات، وبما تعرفه من متغيرات، وبما تعيشه المجتمعات الانسانية عموما من تحولات سياسية واقتصادية وثقافية وفكرية، وبما تضطرب الحياة به من مشاكل تتفاقم، أو تستعصي على الحلول لتهدد استقرار المجتمع. ومعنى ذلك اننا حين نهتم بأمور الجامعة وننشغل بقضاياها، نجد انفسنا امام مشاكل المجتمع التي تعرض علينا تحديات شتى، يتعين علينا ان نفهمها حق الفهم أولا، ثم نعد العدة للتعامل معها بما يجب من حكمة وتبصر، للتغلب عليها ولتجاوزها بالمنهج العلمي، وبالرؤية الشمولية والأفق المستقبلي.

ومهما تحلينا بالحلم وتريثنا في الحكم على الظواهر وعلى حقائق الاشياء، فإن من الصدق مع انفسنا ان نقول بكل صراحة، ان اغلب جامعاتنا ليست في وضع مريح، وليست في مستوى الطموح الذي يحدونا جميعا، فلا تزال هناك فجوات كثيرة تفصل بين جامعاتنا وبين التقدم الحقيقي في المجالات جميعا، على مستوى المناهج والنظم، وعلى مستوى الادارة وتوفير الموارد المالية، وعلى مستوى تأهيل الكفاءات العلمية المقتدرة التي تتولى مهمة التدريس الجامعي. وعلى مستوى مواكبة البحث العلمي وملاحقة التطور العقلاني. وليس في جهرنا بهذه الحقيقة، من منطلق النقد الذاتي، ما يشين او يعيب، بل على العكس من ذلك، اننا نحسن صنعا حينما نعترف بالضعف والقصور اللذين يطبعان العمل الجامعي في معظم بلداننا. فهذه هي الوسيلة الوحيدة لتطوير الاوضاع في الجامعة، وللتغيير النافع الذي نحن في اشد الحاجة اليه.

إن العالم الاسلامي ينتظر منا جهودا كثيرة ومتواصلة، لأنه في حاجة الى كفاءاتنا وقدراتنا العقلية وامكاناتنا العلمية، كما يتطلع الى النهضة المرتقبة التي لا سبيل الى تحقيقها إلا بالعمل الجدي الدؤوب المخلص، وبالتعاون الفعال المثمر المنتج، وبالتضامن القوي القائم على مبادئ العمل الاسلامي المشترك، وبالارتفاع الى مستوى التحديات التي تواجه الامة في هذه المرحلة الصعبة، وهي تحديات بالغة الخطورة، تدعونا الى تطوير عملنا، وتنسيق جهودنا وتعزيز التعاون فيما بين جامعاتنا، للتغلب على المشاكل التي تعاني منها مجتمعاتنا.

في اطار الجهود التي نبذلها لتطوير مناهج التعليم وايجاد الحل الموضوعي لازمة التعليم في العالم الاسلامي، وبمبادرة من المنظمة الاسلامية للتربية والعلوم والثقافة، اجتمع اخيرا في الرباط، مجموعة من الخبراء لمراجعة وثيقة «نحو استراتيجية تطوير التربية في البلاد الاسلامية»، التي كان المؤتمر العام للايسيسكو قد اعتمدها في دورته الثالثة المنعقدة في العاصمة الاردنية عمان في عام 1988. وقد حدد هدف رئيسي لهذا الاجتماع، هو النظر في مشروع جديد لتطوير هذه الاستراتيجية من حيث المضامين والاهداف والوسائل، في ضوء التطور الذي تعرفه حقول التربية والتعليم، ليس في الدول الاعضاء فحسب، وانما في العالم بأسره. وكانت الحاجة الى تطوير هذه الاستراتيجية قد نشأت منذ سنوات، لاعتبارات كثيرة، أولها، ان الوثيقة التي اعتمدها المؤتمر العام الثالث للايسيسكو كانت تحمل عنوان: «نحو استراتيجية تطوير التربية في البلاد الاسلامية»، فهي بمثابة دليل عام للاستراتيجية التي يتعين تحضيرها ثم دراستها ومناقشتها قبل اعتمادها، وثانيها ان المتغيرات في العالم الاسلامي على شتى المستويات، تدفع نحو اعادة النظر في المناهج والنظم والفلسفة التربوية، حتى تتلاءم معها وتنسجم مع المستجدات المتلاحقة التي يشهدها عالم التربية والتعليم، وثالثها ان التجارب أكدت ضرورة معالجة اسباب التعثر وجوانب الضعف والقصور في السياسات التي تنهجها الحكومات في هذا المجال الحيوي منذ عقود، ابتداء من نشوء النظام الدراسي الحديث، والى اليوم.

وبرؤية متفتحة على مشكلات التعليم في العالم، عقد في امارة الشارقة المؤتمر العام الثالث لاتحاد جامعات العالم الاسلامي خلال الثلث الاول من شهر مارس (آذار) الماضي، وسبقه انعقاد الدورة التاسعة للمجلس التنفيذي للاتحاد. وكان من اهم القضايا التي بحثت فيهما، تعزيز التعاون والتكامل والتنسيق بين الجامعات، ووضع خطة متكاملة لتبادل الخبرات الاكاديمية من خلال تبادل زيارات اعضاء هيئات التدريس والبحوث والدراسات والرسائل الجامعية، والنهوض بمستوى البحث العلمي، والاهتمام المتزايد بذوي القدرات المتفوقة والمواهب المتميزة من الطلبة، والانفتاح على الجامعات في الدول المتقدمة علميا وتكنولوجيا، والعمل على الربط بين الجامعة وسوق العمل، وبينهما وقطاع الصناعة والبحث العلمي والتقني.

وفي ضوء هذه التحركات في هذه المجالات الثلاثة واستنادا الى الخبرة المكتسبة في هذا المجال، يمكن ان نقول ان تطوير مناهج التعليم ونظم التربية على صعيد العالم الاسلامي، قضية مستمرة دائمة الحضور، بشكل أو بآخر، تنال قسطا وافرا من الاهتمام على المستويات كافة، وهي ليست قضية مؤقتة، أو ظرفية تدخل في سياق التجاوب مع المتغيرات الدولية، لكنها قضية تستمد اهميتها وموجباتها والأسباب الموضوعية الداعية اليها، من الواقع الذي تعيشه المجتمعات العربية الاسلامية، باعتبار ان التطوير والاصلاح والتجديد، حلقة من حلقات النمو من مرحلة الى أخرى، مما يجعلها مسألة طبيعية، ليست مفروضة من جهة ما، أيا كانت هذه الجهة.

فهذا التجديد للمناهج التربوية، وهذا التطوير للنظم التعليمية، انما هما تعبير عن الارادة الجماعية في اعادة البناء من منطلق الانتماء الى الخصوصيات الثقافية والحضارية للمجتمعات العربية الاسلامية التي لا يمكن بأي حال من الاحوال، ان يتم تطوير، على أي مستوى كان، على غير اساسها. إن الاستفادة من التقدم الانساني في شتى الميادين، والانفتاح على التجارب الرائدة والاقتباس من الخبرات المتراكمة، على الصعيد العالمي، من شأن ذلك كله ان يوفر فرصا اكبر للنجاح في عملية التطوير، وان يعزز من الجهود المبذولة للانتقال الى مرحلة اكثر تواؤما وانسجاما مع متطلبات التنمية الشاملة والمستديمة، وهو تطوير ينبع من ذواتنا، ومن واقعنا، ويصدر عن ارادتنا، ويدخل ضمن سيادتنا على شؤوننا وممارستنا لحق مشروع من حقوق شعوبنا في التقدم العلمي والتقني وفي التفتح الحضاري والرقي الانساني.

وستواصل المنظمة الاسلامية للتربية والعلوم والثقافة، واتحاد جامعات العالم الاسلامي، بمشيئة الله ، القيام بمسؤوليتهما في هذا المجال، للوصول الى مستوى راق من التطوير والتجديد والاصلاح، تصوغه في استراتيجية جديدة تقوم على مقوماتنا وخصوصياتنا تهتدي بها الدول الاعضاء وتستأنس، وتبني عليها وتؤسس.

ونحن من الذين يقولون بإمكان حل ازمة التعليم في اقطار العالم الاسلامي بإعادة البناء الحضاري العام والشامل، من منطلق الخصوصيات الثقافية، التي يعد التشبث بها حقا من حقوق الانسان. ولسنا نرى في هذه الخصوصيات ما يعرقل التجديد أو يعوق التطوير، لكننا نرى، بل نؤمن بأننا سنسير في الطريق الصحيح نحو تحقيق التنمية الشاملة المستدامة، إذا ما نحن انطاقنا في البناء من قاعدة الانتماء، ونأينا بأنفسنا عن الارتماء في حضن من لا يريد خيرا لنا، ولا للانسانية.

لقد انطلق اصلاح مناهج التعليم في معظم اقطار العالم الاسلامي، منذ فترة طويلة، وهو عملية مستمرة، لا ترتبط بظرف دولي أو اقليمي. والعاملون في هذا الحقل من العرب والمسلمين هم أدرى بمتطلبات الاصلاح التربوي وليسوا في حاجة الى من يلقنهم دروسا في الاصلاح.

* المدير العام للمنظمة الاسلامية للتربية والعلوم والثقافة (الايسيسكو)