قياس عقد التأمين التجاري على الوعد الملزم ومناقشته

د. عبد الهادي الحكيم

TT

يحسن بي بادئ ذي بدء ان اقول بأن الاستدلال بالقياس فرع عن حجية القياس نفسه. وهناك خلاف بين الفقهاء المسلمين في حجية القياس، فهم بين قائل بحجية القياس القطعي دون الظني وقائل بحجية القياس القطعي والظني معا. والمقصود بالقياس القطعي ما كانت مقدماته كلها قطعية او قام على اعتبار علته دليل قطعي كالنص، وهو ما اصطلح عليه الاصوليون بـ«منصوص العلة»، وهذا في الحقيقة ليس قياسا، بل هو اثبات للحكم على موضوعه وتسميته قياسا من باب التوسع في التسمية، اما المقصود بالقياس الظني فهو ما كانت جميع مقدماته او بعضها ظنية او كانت علته ظنية او مستنبطة والمختار ان ما سمي بالقياس القطعي حجة، اما القياس الظني فهو ليس بحجة والقياس الذي استند اليه المجوزون هو من القياس الظني وبالتالي فهو ليس بحجة. وبذلك فقد انتفت دعوى المستدلين بالقياس الظني من اساسها. ولكني مع ذلك آثرت ان اتعرض لأدلتهم ومناقشتها على الرأيين: رأي القائلين بحجية القياس الظني ورأي القائلين بعدمها اتماما للفائدة وهذا ما سأتناوله فيما يأتي مبتدئا ببيان آراء الفقهاء بالوعد الملزم.

اختلف الفقهاء في ان الشخص اذا وعد غيره عدة بقرض او بتحمل وضيعة عنه «اي خسارة» او اعارة او نحو ذلك مما ليس بواجب عليه في الاصل، فهل يصبح بالوعد ملزما ويقضي عليه بموجبه ان لم يف له او لا يكون ملزما، فذهب فقهاء المذهب الجعفري والحنفي والشافعي والظاهري، بل ذهب الجمهور الى انه لا يلزمه شيء واختلف فقهاء المذهب المالكي في وجوب القضاء بالعدة على اقوال اربعة:

الاول: يقضي بها مطلقا «اي انها ملزمة له».

الثاني: لا يقضي بها مطلقا «اي انها غير ملزمة له».

الثالث: يقضي بها ان كانت على سبب وان لم يدخل الموعود بسبب العدة في شيء كقولك: اريد ان اتزوج فاسلفني كذا، فقال، نعم، ثم بدا له قبل ان يتزوج، فإن ذلك يلزمه ويقضي عليه بها. ولا يقضي عليه بها ان كانت على غير سبب، كما اذا قال: اسلفني كذا ولم يذكر سببا، فقال نعم: ثم بدا له، او قال هو من نفسه: انا اسلفك كذا، ولم يذكر سببا، ثم بدا له.

الرابع: يقضي بها ان كانت على سبب ودخل الموعود بسبب العدة في شيء، وهذا هو المشهور من الاقوال، كما اذا وعده بأن يسلفه ثمن شيء يريد شراءه فاشتراه فعلا، فالقول بالقضاء بالعدة مطلقا والقول بعدم القضاء بها مطلقا ضعيفان جدا (انظر: فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الامام مالك: الشيخ عليش: 254/1 وما بعدها)، وقد تابع الامام مالك على هذا القول غالب اصحابه وأهل مذهبه، ونقل القضاء به عن عمر بن عبد العزيز.

ولو اغمضت الطرف عما ذهب اليه فقهاء الجعفرية والاحناف والشافعية والظاهرية، بل الجمهور من عدم الالزام، وتجاوزت ما دار من خلاف حول ارادة المالكية للعموم من عدمه، كما ذهب الى ذلك الدكتور محمد سليمان الاشقر قائلا: ان المالكية لم يصرحوا بالعموم الذي نقله عنهم الشيخ مصطفى الزرقاء، ونظرت الى مذهب المالكية على ما عرضه به من يدعي ان المذهب المالكي يقول بالالزام كالشيخ مصطفى احمد الزرقاء، الذي صرح في كتابه (المدخل الفقهي العام: 114/2) الى ان الوعد بالعقد ملزم للواعد قضاء اذا دخل الموعود تحت التزام مالي بناء على ذلك الوعد (...) فإنه يجبر على تنفيذ وعده بحكم القضاء. اقول اذا ذهبت مع الشيخ الزرقاء في دعواه وحاولت ان اتلمس امكانية قياس عقد التأمين التجاري على الوعد، فسأقرب ذلك بما قربه به الشيخ الخفيف. يقول الشيخ علي الخفيف عن عقد التأمين التجاري، مقربا امكانية تخريجه على الوعد الملزم، ان فيه (التأمين التجاري) التزاما اقوى من التزام الوعد، وقد ذهب المالكية الى وجوب الوفاء به قضاء، وهذا الاستدلال غير صحيح اما على رأي النافين لحجية القياس فواضح لأنه على تقدير كونه قياسا على الوجه الصحيح، فهو قياس ظني، والقياس الظني محل خلاف، بل ليس بحجة كما تقدم.

واما على رأي المثبتين لحجية القياس فهو كذلك ايضا لأننا لا نذهب للمعقول الا لضرورة عدم المسموع ولا ضرورة هنا لوجود المسموع. ولو تنزلنا وذهبنا للقول بالقياس مع الذاهبين، فسنجد انه قياس مع الفارق لاسباب منها: 1 ـ ان الوعد الملزم تصرف يتم بإرادة منفردة، وهو كذلك تصرف ملزم لجانب واحد في حين ان التأمين تصرف يتم بإرادتين وملزم للجانبين، فالمؤمن يتعهد حقيقة في التأمين من الاضرار بتعويض ما يصيب المؤمن له من خسارة مترتبة على وقوع الخطر، لكن هذا التعهد يقابله ويقترن به تعهد آخر من جانب المؤمن له بدفع الاقساط، وهذان التعهدان يتمان بإرادتين يقوم بهما عقد التأمين، لذلك لا يصح النظر الى عقد التأمين على اساس أنه يقوم على تعهد من جانب المؤمن فقط، كما هو حال الوعد الملزم.

2 ـ ان العوض في الوعد الملزم معلوم عند الطرفين، اما ما تدفعه شركة التأمين فهو مجهول لا يعلمه احد الطرفين الا بعد الخطر، فلا يقاس مجهول على معلوم كما يقولون.

3 ـ ان اساس الزام الواعد بالوفاء اذا قام الموعود بمباشرة السبب او العمل بناء على الوعد، هو دفع الضرر الذي تسبب فيه الواعد، لانه لولا الوعد ما اقدم الموعود على مباشرة هذا العمل ولا شيء من ذلك في التأمين، فالمؤمن لا يدفع المؤمن له الى القيام بعمل ولم يعلق تنفيذ التزامه على قيامه بهذا العمل.

4 ـ الوعد الملزم لا يجب الا اذا تسبب الوعد بالدخول في الامر الموعود به، اما التأمين فإن المؤمن له اذا دخل بنفسه فأتلف المؤمن عليه قصدا فلا يستحق التعويض في هذه الصورة، ويستحقه فيما عداها، فالصورتان مختلفتان في تحقيق المناط فلا يصح القياس، اضافة الى ان الوعد الملزم عند من قال به، تبرع محض لا معاوضة فيه، ذلك ان الموعود لا يلتزم بشيء مقابل وعده خلافا لعقد التأمين الذي هو من عقود المعاوضة. من ذلك كله يتضح ان قياس عقد التأمين التجاري على الوعد الملزم عند من يقول به قياس مع الفارق.