ولا يزال حوار الحضارات ضرورة إنسانية

د. عبد العزيز بن عثمان التويجري*

TT

ليس للحوار بين الحضارات مواسم يبدأ في أولها وينتهي في آخرها، فإذا كانت الجمعية العمومية للأمم المتحدة قد أصدرت قرارا بجعل سنة 2001 (سنة الأمم المتحدة للحوار بين الحضارات)، فإن الحوار لا يرتبط بسنة تحددها هيئة من الهيئات، مهما تكن أهميتها ومكانتها، لأنه ضرورة من الضرورات الملحة التي يقتضيها انتظام مسيرة الانسانية في هذا العصر وفي العصور المقبلة، للدفع بالجهود الخيرة التي تبذل على أكثر من مستوى، من أجل ازدهار الحياة فوق هذه الارض، واستتباب الامن والسلام فوق ربوعها.

وحوار الحضارات ليس وليد ظرف من الظروف، أو هو حالة طارئة تقتضيها مرحلة ما، ولكنه حالة مستمرة وضرورة مؤكدة، لارتباطه بحياة المجتمعات الانسانية في جميع أحوالها، خاصة حينما تسود التوترات أوضاعها، وتشتد الحاجة الى وسيلة فعالة للتخفيف من حدة النزاعات والصراعات، ولكسر الجمود في العلاقات الانسانية الذي يؤدي الى نشوب الأزمات.

ولذلك فإن الحوار بين الحضارات، وعلى الرغم من تدهور الوضع الدولي ودخول العالم مرحلة توتر واضطراب، سيظل دائما عملية انسانية مستمرة وحركة فكرية وثقافية متواصلة، تتعدد مستوياته ودرجاته وتتنوع مجالاته وموضوعاته، ولكن لا يتغير الهدف منه، وهو تعزيز روابط التفاهم والتقارب والتعايش بين الأمم والشعوب، وتقوية وشائج التعاون في كل شأن يهم البشرية في حاضرها ومستقبلها. فالحوار إذن، ضرورة حياتية بالمعنى العميق.

وكلما ادلهمت الخطوب التي تحيط بالانسانية وتفاقمت الأزمات التي تهدد استقرار المجتمعات البشرية، اشتدت الحاجة الى الحوار، وألحت الضرورة على التوسع في نطاقه والتنوع في اطاره، من منطلق الايمان بالمبادئ الاسلامية والقيم الانسانية التي تدعو الى تعميق مفاهيم الحوار وتوكيد مضامينه ونشر ثقافة الحوار على المدى الواسع وبالأسلوب النافع.

ومن هذه الزاوية، فإن الحديث عن الحوار لا ينقطع وإنما يستأنف، ولا يتغير ولكنه يتجدد، باعتباره منهج الحكماء والسبيل التي يسلكها العقلاء لإنقاذ العالم مما يعانيه من مشكلات وأزمات، نتيجة لعدم تفعيل الحوار وتعزيز دوره في الحياة المعاصرة، في ظل الاجواء المتأزمة التي تسود العالم اليوم.

ولقد وضح من خلال التجربة وطول الممارسة، أننا كلما بحثنا قضايا الحوار بين الحضارات ودرسنا الجوانب المتعددة المتصلة بها، وتحدثنا حول موضوعاته في محافل دولية وفي مناسبات عديدة، ازدادت أهمية الحوار وانفتحت أمامنا آفاق جديدة يتعين علينا ارتيادها.

وكما هو شأن التعاون الثقافي الدولي، فإن على الحوار بوجه عام، أن يبرز الأفكار والقيم التي من شأنها توفير مناخ صداقة وسلام، وأن يستبعد جميع مظاهر العداء في المواقف وفي التعبير عن الآراء، على ان يتوخى الحوار أيضا، النفع المتبادل لجميع الأمم التي تمارسه، ويسعى في جهد مشترك مع الاطراف جميعا، للقيام بعملية حضارية كبرى، هي تصحيح المفاهيم الخاطئة التي تسود المجتمعات وتعوق مسيرة التعاون والتقارب والتفاهم والحوار. وهكذا يفتح الحوار المجال واسعا أمام تفاهم المجتمعات، ويؤدي الى تقارب الحضارات، ويساهم في تلاقح الثقافات، وهو ما نصطلح عليه هنا بالتفاعل الحضاري الذي يجب ان يدعم التعاون الدولي على مواجهة تحديات العصر ومشاكله والسعي لحلها.

وتنبع ضرورات الحوار والاسباب والدواعي الموجبة له، من أن المجتمعات الانسانية في حاجة دائمة الى التفاهم وتوثيق أواصر الاتصال فيما بينها، لتبادل المصالح والمنافع التي بها تقوم حركة المجتمع، والحوار هو الوسيلة الى بلوغ ذلك، ومن أن الله سبحانه وتعالى خلق في جبلة الانسان نزوعا الى التعارف والتقارب والتعايش، والحوار هو أكثر الوسائل تحقيقا لذلك، ومن أن التغلب على الازمات التي تهدد الاستقرار والامن والسلام في مناطق شتى من العالم، لا يتم إلا بالحوار التواصلي، ومن أن الحوار يؤدي الى التعرف على وجهات النظر المختلفة والوقوف على خلفيات القضايا المطروحة، وتبادل الرأي حولها، مما يفضي الى التوافق بشأن ايجاد الحلول والوصول الى التسويات وحصر آثار الصراع والتخفيف من حدتها، وليس من سبيل الى ادراك هذه الغاية الا سبيل الحوار. كما تنبع هذه الضرورات من أن اعتماد الحوار منهجا وأسلوبا لفض النزاعات وحل الأزمات ووقف الاضطرابات، هو لجوء الى القانون واعمال لمقتضياته وتنفيذ لأحكامه، وما القانون الدولي الا ثمرة من ثمرات الحوار الذي أدى الى التوافق وانتهى الى القبول بأحكام ومبادئ وقوانين وقع الاتفاق عليها بين ممثلي حكومات وحضارات في مراحل متعاقبة الى ان انتهى الوضع الى المرحلة الراهنة باستقرار القوانين الدولية.

فضرورات الحوار تنبثق من هذه الحيثيات التي تأكدت وجاهتها وصحتها وثبت تعبيرها عن احتياجات الانسان والمجتمع في مختلف المراحل وفي جميع الأطوار. فالحياة الانسانية تستقر وتزدهر بالحوار بين الأمم والشعوب التي تتعايش فوق هذه الارض، وتضطرب بغياب الحوار الذي هو حالة من الجمود تتسبب في التباعد بدلا عن التقارب، وفي التخاصم عوض التفاهم، وفي القطيعة التي هي نقيض التواصل والتبادل والتعاون لما فيه الخير والصلاح للانسانية في كل زمان ومكان.

وانطلاقا من هذه الرؤية الى الحوار، واستنادا الى مفهومه الحضاري الذي اسهمت في تأصيله، فإن الحوار الذي يحقق الاهداف المرجوة، والذي يمكن ان يكون موضع الاهتمام من العالم الاسلامي، لا بد وأن يلتزم بمجموعة من الشروط الموضوعية وأهمها أربعة شروط.

أولها: ربط أهداف الحوار بالمصالح العليا للأمة الاسلامية، بحيث لا يقع اي تعارض بين الاهداف المرسومة لأي حوار بين الحضارات والثقافات يشارك فيه الجانب الاسلامي، وبين القضايا الرئيسية التي تجتمع حولها ارادة الامة الاسلامية، والتي تعبر عنها قرارات منظمة المؤتمر الاسلامي، سواء تلك التي تتخذ على مستوى القمة، أو على المستوى الوزاري.

وثانيها: الاتجاه بالحوار نحو الجانب الانساني، فلا يبقى دائرا حول القضايا الفكرية والعقائدية التي لا تنفع طرفا من الاطراف. ويدخل ضمن ذلك تحديد الموقف الايماني الخالص من حقوق الانسان، ومحاربة الظلم والعدوان والاضطهاد والافساد بكل اشكاله، بحيث يقع الحرص دائما على اصدار بيانات مشتركة في اعقاب كل جولة للحوار، تحدد مواقف أهل الايمان والالتزام بالحق والعدالة والانصاف مما يجري في العالم من انتهاكات لحقوق الانسان في كل مكان، ومما يقوم به الظالمون والمعتدون والمفسدون في الأرض من بغي وعدوان، من وجهة نظر الحق والعدل والقيم الدينية المشتركة، وليس فقط من وجهة النظر السياسية والقانونية الوضعية ومصالح الاقوياء وذوي النفوذ في العالم.

وثالثها: التنسيق بين أطراف الجانب الاسلامي في كل ما يتعلق بالحوار بين الحضارات والثقافات، بحيث تقوم الجهة الاسلامية الرسمية أو الشعبية التي تدخل في حوار على هذا المستوى، بإبلاغ كل الجهات، أو أهمها وأكبرها وأوسعها نشاطا وحضورا في ساحة العمل الاسلامي العلمي والفكري والثقافي، بموضوعات الحوار، وبموعده، وبالأهداف المرسومة له، وبالجهة التي تنظمه، حتى يمكن الانضمام اليه والمشاركة فيه، لمن أراد وتوفرت له الأسباب.

أما رابع هذه الشروط، فهو الحرص على أن يشارك في مجالات الحوار المختلفة المختصون العارفون بالثقافة الاسلامية وقضايا الامة وأحوال العصر، حتى نضمن نجاح المهمة وبلوغ القصد.

فإذا التزم الحوار بين الحضارات، على مستوى العالم الاسلامي، بهذه الشروط، وسار الحوار في هذه الاتجاهات، أمكن الوصول الى نتائج ايجابية تخدم في المقام الأول، المصالح العليا للأمة الاسلامية وقضاياها، وتعزز الجهود المبذولة على مستويات كثيرة للدفاع عن هذه المصالح ولنصرة هذه القضايا، وتدعم العلاقات الدولية وتقويها، وتسهم في اقرار الامن والسلم والاستقرار في العالم، وترفع من شأن قيم الايمان بالخالق سبحانه وتعالى، وبمبادئ التعايش بين بني البشر كافة. وبذلك يؤتي الحوار ثمرته المرجوة، ويساهم في تعزيز التعاون الانساني، وفي تعميق مفهوم التعايش بين الامم والشعوب، وإشاعة قيم الحوار على جميع المستويات، وفي ذلك الرد الموضوعي على دعاة الصراع الحضاري، وعلى عتاة الصدام بين الحضارات والثقافات الذين ينشرون الرعب بين المجتمعات الانسانية، ويهددون العالم بأفكارهم الهدامة وأفعالهم المخربة. إن الاحداث الجارية في المنطقة العربية بصورة خاصة، والتي تسير في اتجاه معاكس لارادة المجتمع الدولي، تدفع نحو بث اليأس من الحوار بين الحضارات، والى وضع العراقيل أمام قاطرة الحوار التي انطلقت ولا يمكن ان تتوقف، لأن البديل في هذه الحالة، سيكون هو الصراع والصدام واشاعة الفوضى في العالم.

ومن أجل ذلك كله، فإن الحوار بين الحضارات الذي نقصد اليه ونركز عليه، هو الحوار القائم على مبادئ الحق والعدل والاحترام المتبادل، والملتزم بقواعد القانون الدولي، لأن الحوار، وكما نقول دائما، منهج الحكماء وسبيل العقلاء.

* المدير العام للمنظة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة «الإيسيسكو»