من يمتلك شرعية الحديث عن التجديد؟

سعيد بنسعيد العلوي*

TT

لا شك أن هذا السؤال يواجه كل حديث في التجديد الديني، ولا شك أن هذا السؤال يستدعي اليوم طرحه أكثر مما كان يستوجب ذلك بالأمس القريب فقط، دون البعيد. ذلك أننا نعجب اليوم للسهولة واليسر اللذين نلمس بهما حديث أشخاص كثيرين عن التجديد الديني ولزومه في زماننا هذا، وفي هذه الفترة العسيرة من حياة المسلمين، وفي وقت ترتفع فيه أصابع الاتهام تشير إليهم وتكيل لهم نعوت التزمت، والتطرف، بل والإرهاب أيضاً.

ومن الغريب حقاً أن نقرأ، في بعض الصحف السيارة، حديثاً عن التجديد في الدين من أشخاص يرون في الدين عبئاً ثقيلاً على الأمة، ويرون في التخلص إحدى المقدمات الضرورية لولوج عالم الحداثة حقاً. ولعلنا لا نكون مبالغين إذا ما جوزنا لأنفسنا أن ننعت تلك الخطابات بالفوضى وانعدام الجدية وروح المسؤولية، وهذه أمور لا يعني اجتماعها شيئاً آخر سوى سلب المتحدث كل مصداقية، مثلما لا يعني شيئاً آخر سوى تجريد المثقف من ماهيته.

على أننا، قبل أن نحاول الإجابة عن السؤال الذي جعلناه عنواناً لهذه الحلقة (من يمتلك شرعية الحديث عن التجديد الديني)، نرى من اللازم أن نمهد لمحاولة الإجابة بطرح أسئلة أخرى تقديراً لجسامة المسؤولية التي يتضمنها السؤال المطروح فنقول: هل يملك المرء أن يتحدث عن تجديد الفكر الديني دون أن يكون هو ذاته، على نحو أو آخر، موجوداً داخل دائرة الفكر الديني وبالتالي معنياً به من حيث أن ذلك التجديد يكون ملزماً له في حياته العملية؟ كما نقول، من جهة أخرى: نعلم ما للدين من أثر فاعل، حاسم أحياناً كثيرة، في مجتمعاتنا الإسلامية وفي عالم اليوم، إجمالاً. فهل يملك عالم الاجتماع في العالم الإسلامي، وكذا زميله عالم السياسة، وكل من زميليه المؤرخ والفيلسوف أن ينصرفوا عن الشأن الديني في العالم الإسلامي؟ وبعبارة أخرى، هل يسع أحد ممن ذكرنا من الباحثين أن يكون من قضية التجديد الديني في موقف المحايد؟ كما أننا نتساءل في الوقت ذاته: هل في إمكان خطاب الفلسفة أو علم الاجتماع أو السياسة أو التاريخ، في العالم الإسلامي، أن يكتسب في معرض الحديث عن التجديد الديني سنداً منطقياً ودعامة شرعية؟

يحتج البعض بالقول المأثور: لا رهبانية في الإسلام ـ بمعنى أنه لا وجود في الإسلام لنظام كهنوتي يمنع غير رجال الاكليروس من القول في الدين. بيد أنهم ينسون القاعدة الشرعية التي تجعل الدعوى المتقدمة صادقة جزئية فحسب، وتلك القاعدة تقضي بأن الله لا يعبد بجهل ـ ومعناها أن القول في الدين يستلزم التوافر على عدة معرفية ليست تكون لعموم الناس بل هي تكون لخاصتهم فحسب ـ والخاصة تلك هم علماء الدين في الأمة. والحق أننا لو تأملنا هذه القاعدة الشرعية لرأينا أن معناها يقوم في حفظ الدين من فتنة الجهال، وأدنى خطرها خلط الشرع بما ليس فيه من الخرافة والشعوذة والبدع. بيد أننا، لو عمقنا الفكر أكثر من ذلك، لتبينا خطراً داهماً يفوق الأول المتقدم في مداه وهو خطر الوقوع في شرك ما أكثر ما يقع المؤمنون فيه، بل إن الطريق الذي يسلكونه محفوف به ـ وذاك هو خطر الغلو في الدين. نقول ذلك إيماناً منا بأن الغلو في الدين لا يكون، في تسعين في المائة منه، إلا عن جهل بالشرع ومقاصده. ومتى رجعنا إلى صاحب «الاعتصام» (الامام الشاطبي) مرة ثانية، في حلقة اليوم مثلما وقفنا عنده في الحلقة السابقة، ووقفنا تحديداً عند حديثه عن الغلو، فنحن نجده يشرح أخطار الغلو في الدين، والغلو، كما نعلم جميعاً منهي عنه بصريح القول وبالبيان التام في القرآن الكريم «يا أيها الذين آمنو لا تغلو في دينكم» في مضاهاة الشريعة والحال أن هذه الأخيرة «جاءت كاملة لا تحتمل الزيادة ولا النقصان» لأن الله تعالى قال فيها: «اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً». والذي يغلو في دينه يعترض على هذا الكمال مثلما يشتط فيصبح مخالفاً للنهج النبوي أحياناً عديدة. نقرأ للشاطبي «لأن بعض الصحابة هم أن يحرم على نفسه النوم بالليل، وآخر الأكل بالنهار، وآخر إتيان النساء، وبعضهم همَّ بالاختصاء مبالغة في ترك شأن النساء». وفي أمثال ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم من رغب عن سنتي فليس مني.

ما نريد أن ننتهي إليه من هذه الوقفة عند الغلو ومعناه وخطره هو أن الغلاة، بمختلف أصنافهم، هم أول من يكون فاقداً للأهلية والشرعية في القول في التجديد الديني. ذلك أن التجديد على الحقيقة، انفعال مع العصر واستجابة لمقتضياته وإرادة لجعل المسلمين في حال من القدرة على الانخراط فيه، والحال أن الغلاة أشد ما يكونون انصرافاً عن العصر وأهله، وأبعد ما هم عن معنى التجديد ودواعيه. ولربما لزم أن نسوي بينهم وبين الآخرين المخالفين لهم ظاهراً المناقضين لمواقفهم في مستوى القول، وهم أولئك الذين يدفعون بحديث التجديد إلى حد ينال من أركان الدين وثوابته وما كان قطعي الثبوت والدلالة، لا سبيل إلى الاجتهاد فيه دون أن يكون اعتراض من صاحبه على أمر قرآني صريح أو حديث نبوي تجتمع فيه شروط الصحة من جهتي المتن والسند.

نحسب أننا، متى أقصينا من دائرة الشرعية هذين الطرفين القصيين، فإن مجال التطلع إلى التجديد وإرادته صدقاً لا قولاً فحسب يتسع ليشمل علماء الدين أولاً، القادرين على القول في الدين عن معرفة كافية وضرورية، ويشمل النخب المسلمة الأخرى المتشبعة بقيم الحرية والحداثة، والقادرة على الوقوع، في الشرع الإسلامي، على معاني العقل، والحوار، والعلم، والمسؤولية، وتكريم الإنسان.. وفي كلمة جامعة تتسع دائرة الشرعية، شرعية التشوف إلى التجديد الديني، فتقبل في صفوفها كل ما كان يؤمن بالدين الإسلامي (ثوابته وأركانه) ويتشرب (وقد امتلك القدرة العقلية على ذلك) القاعدة الأصولية الجامعة التي تقضي بأن شرع الله يكون حيث كانت مصلحة عباد الله.

متى بلغنا هذه الغاية فإن التجديد الديني يستدعي شروطاً أخرى جديدة، ويشمل مقتضيات منطقية، ويستلزم مقدمات ضرورية. ذلك ما نحاوله في الحلقات المقبلة.

*كاتب وباحث مغربي متخصص في الفكر الاسلامي