التجديد الديني والتحديث السياسي

سعيد بنسعيد العلوي*

TT

لا يستقيم الحديث عن التجديد، متى راعينا المقدمات والشروط التي وقفنا عندها في الحلقة السابقة (الأهلية العلمية الكافية، الالتزام بمبادئ الشرع الإسلامي وثوابته، الاهتمام بالمشكلات والقضايا التي تتصل بوجود المسلمين في عالم اليوم والتسليم مع ذلك بإمكان الجمع السعيد بين مقتضيات الدين الإسلامي ومستلزمات الحداثة...) لا يستقيم ذلك الحديث معناه إلا في مشروع شامل يكون معناه في التحديث السياسي.

فعلى أي نحو نتصور هذا الربط الضروري (ربط العلة بمعلولها) بين التجديد الديني والتحديث السياسي؟

أول ما يكون به التمهيد عندنا هو أن ندرك، ثم نعلن في عبارة واضحة صريحة، أن التجديد في الدين شيء، والتحديث في السياسة أو التحديث السياسي بالنسبة للوجود الإسلامي اليوم شيء آخر مختلف. فالتجديد في أبسط معانيه، لا يعني القطع مع الأزمنة المتقدمة ولا الفصل مع الآراء والمعتقدات الأصلية بل هو يعني إحياءها وإماتة ما لحق بها من بدع وما شابها من شوائب الغلو والجهل أو ما سماه الشاطبي «مضاهاة الشريعة». والدين ليس يقبل مراجعة المبادئ والأوليات فهي عند المؤمن يقينيات ومسلمات اعتقادية لا يكون له، متى تعلق الأمر بنصوص صريحة قطعية الدلالة من الكتاب والسنة، أن يتخلى عنها أو يجعلها موضع قبول هنا ورفض هناك. إنها كل يؤخذ مجتمعاً (في مجال العقيدة ـ وهذا التنبيه ضروري) أو يترك كلاً والمعيار في ذلك قوله تعالى: (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر). وغني عن البيان أن كل قول في التجديد الديني لا يقيم وزناً لهذه الاعتبارات يكون رأياً خاطئاً وتصوراً يكون عاجزاً، أو مُدَاهِناً، في فهم الدين ـ مطلق الدين في حقيقة الأمر ـ وفي الوقوع على المعنى الأصلي للفظ «التجديد»، وقد نسب إلى الدين الإسلامي، ويبعد بفكره عن دلالته كلية.

وأما التحديث فشيء غير ذلك، بل إنه نقيض ذلك. والحق أن الموضوعية تقتضي منا أن نصرح بأن القصد به عندنا هو الدلالة التي اكتسبها التحديث في الوجود وفي الفكر الغربيين، دلالة تكمن في السيرورة التي سلكها الغرب الأوروبي في القرون الممتدة بين القرن السادس عشر في نهايته ومشارف القرن العشرين. مسيرة متكاملة لا يتسع لنا المجال للقول فيها ولكننا نجمل الحديث فنذكر الصراع الطويل الذي عاشه ذلك الغرب الأوروبي بين نظام كانت السلطة السياسية فيه (سلطة الملوك) تعد سلطة مقدسة بموجب نظرية «الحق الإلهي»، ولأنها كذلك فهي مطلقة من جهة، أبوية من جهة أخرى، وليس يجوز الاعتراض عليها في الأحوال كلها من جهة ثالثة. كما كان المجتمع يقوم على نوع من التراتب والقسمة البسيطة تجعل الناس ثلاثة (الذين يتعبدون = رجال الكنيسة بمراتبها، والذين يحاربون = فئات النبلاء والمالكون للأرض أو الطبقة الفيودالية، والذين يعملون من أجل إطعام هؤلاء وأولئك) كما يقول مؤرخ الثورة الفرنسية ألبير سبول. وهو أخيراً نظام كانت المعارف فيه تدور، إجمالاً، حول الآراء والنظريات السابقة على النظرية الكوبرنيكية في الفلك، وعلى نظريات نيوتن وغاليلي ولافوازييه في علوم الفيزياء والكيمياء وما اتصل بهما. يدعم هذا النظام المعرفي مجمل الآراء التي تدعمها الكنيسة، في فهمها الخاص للفلسفة الأرسطية وفي شروحها للكتاب المقدس. في مقابل هذه الأنظمة (أو «النظام القديم») أنظمة أخرى، معارضة لأنها مناقضة تأخذ بالآراء المغايرة في الفلك والفيزياء والكيمياء، وفي النظر إلى السلطة السياسية وتصورها (فهي في التصور «الجديد»: سلطة بشرية، لا مكان للقدسي فيها ولا للمقدس، وهي موضع اتفاق وتعاقد فيها بين أطراف، كل فرد في تلك الأطراف يعتبر فرداً حراً، عاقلاً، راشداً، فاعلاً في العمل السياسي فالشأن العام «عام» ـ وبالتالي يعتبر الأفراد «مواطنين»). هو نظام يحيل إلى معان «جديدة» بالفعل تنتظم حول التعاقد الاجتماعي، المواطنة، حقوق الإنسان، العقل، الحرية والديمقراطية باعتبارها ثمرة لهذه المعاني كلها ووليداً شرعياً لها.

ما نريد أن نخلص إليه، من هذا التمييز بين المعنيين (التجديد الديني/ التحديث السياسي) هو أن الثاني شرط الأول في زماننا المعاصر هذا، وفي وجودنا الإسلامي اليوم. هو كذلك لأن التجديد المطلوب شرعاً بل الواجب، يستلزم ما يخضع له حكم الواجب في القاعدة الأصولية الشهيرة: ما لا يكون الواجب واجباً إلا به فواجب مثله. والتجديد الديني، باعتباره واجباً شرعياً مع استدعاء الشروط التي ذكرنا في أول كلامنا اليوم مذكرين به ما عرضنا لها سابقاً، هذا التجديد يستلزم وجود الحرية حتى يكون «المجتهدون» قادرين على إعمال العقل والإنصات لحكم الشرط والتماس المصلحة الحق ـ تلك التي قرر علماء الإسلام أن شرع الله يقترن بها من دون خوف من السلطان ولا تملق له ـ وبالتالي حتى يستطيع علماء الأمة أن يرتفعوا عن مستوى الأفواه، بل الأبواق، التي تردد ما تريده السلطة إذ تكون في حاجة إلى إضفاء الشرعية الدينية على مواقفها وقراراتها. كما تعني الحرية أيضاً التحرر من «شغب العامة» والارتفاع عن درك تملقها وطلب رضاها. نحسب أن الحرية ضرورة منطق تُفيدنا به قراءة تاريخ الإسلام. فهل كان التجديد ممكناً في دولة القمع والتسلط وكم الأفواه؟ وهل صادف المجتهدون، في أزمنة الانحطاط، شيئاً آخر سوى التنكيل بهم فكان علماء الدين بين داع إلى «الهجرة» فراراً بدينه، وسالك طريق التصوف والإغراق في الابتعاد عن الواقع (والحال أن الإسلام دين دعوة إلى العمل، وإلى إعمال العقل وتقدير المعرفة المكتسبة عن طريق التدبر والتعقل، لا سبيل المدد وطلب المباركة من شيوخ الطريقة الرقباء على الضمائر والأرواح).

نحسب أننا نوجز القول وندل على الطريق الصحيح إلى الدولة الحديثة حقاً، إلى سبيل التحديث السياسي الذي لا نملك أن نحيد عنه ولا أن نتنكب بطريقنا عن طريقه. وإنه لأفضل مائة مرة أن تكون المبادرة منا فنظل مالكين القدرة على الملاءمة بين ديننا واعتقادنا، وبين منطق العصر وضرورته القاهرة.

لكن المشروع في شموله يعني أن التحديث السياسي يكون أحد العناصر الضرورية طبعاً، بل أهمها مطلقاً، ولكنه عنصر لا يكفي بمفرده.. أو لنقل إن التحديث السياسي يستدعي بطبيعته واقتضاء لحكم التاريخ مراجعات أخرى في معاني الاجتماع والمجتمع وما يكون عنهما، وفي الحياة الاقتصادية وتجلياتها اليومية. وهذا ما نود محاولته في الحلقتين المقبلتين بإذن الله.

* كاتب مغربي متخصص بالفكر الاسلامي