السيد رشيد رضا.. صاحب السلفية الميسرة

جمال البنا *

TT

نشأ السيد رشيد رضا في عائلة من سراة طرابلس ، كان فيها التأصيل الاسلامي البعيد في الوقت نفسه عن الأفق الضيق أو الاتباع الأعمي . وألم بمفاتيح العلوم الإسلامية كما دخل التجربة الصوفية ( كما دخلها محمد عبده من قبله وحسن البنا من بعده ) وتعلم منها دون أن يتأثر بأوزارها وأساطيرها، ثم تعرف على فكر جمال الأفغاني عندما قرأ فصولا من العروة الوثقي فأحدثت في نفسه هزة عميقة ، بل وخلقتها خلقا جديدا بحيث أصبح كل أمله التعرف علي هذا الرجل العظيم والتتلمذ علي يديه ، ولكن الظروف العملية حالت دون ذلك لوفاة السيد جمال الدين فجعل هدفه أن يربط أسبابه بالشيخ محمد عبده الذي كان قد تعرف عليه في مستهل شبابه عندما كان الشيخ في بيروت، وتحايل على كل الصعوبات حتى وصل إلى الإسكندرية ومنها إلى القاهرة حتى التقى بالشيخ الذي فاجأه بأنه علم أن من اللبنانيين من يفكر في إنشاء صحيفة ، مع أن الصحف في مصر أكثر من الهم على القلب ! ولم يفت هذا في عضده بل لقد أقنعه في النهاية بأن يعينه بكل ما يستطيع على إنشاء المنار وهكذا ظهر هذا المنار الذي ظل يرسل شعاعه قرابة سبعة وثلاثين عاما متصلة ووصلت أنواره إلى الهند وإندونيسيا والعراق وتركيا بل دخلت القارة الأفريقية والشمال الأفريقي تونس والجزائر والمغرب . ويمكن إجمال ما قدمه السيد رشيد في : أولا : إصدار المنار لمدة خمسة وثلاثين عاما متصلة كون منها جامعة إسلامية شاملة ضمت التفسير ومختلف أبواب الدراسات الاجتماعية والتاريخية وبعض الكتب التي نشرت مسلسلة مثل كتابات أم القرى للكواكبي . والكثير من كتب السيد رشيد رضا كما ضمت أحاديث طويلة عن السياسات الغربية والعربية وكفاح الشعوب الإسلامية خاصة ضد العدوان الإيطالي علي ليبيا،وشاركت في تأييد قاسم أمين في تحرير المرأة . وكان هناك باب ثابت عن نقد المنار ينشر ما يوجه إليه من نقد ، وباب للرد على الأسئلة التي يمكن أن تصل إلى الفتاوى، هذا كله فضلا عن باب التفسير الذي كان يتصدر العدد وكتبه لأكثر من خمس سنوات الشيخ محمد عبده، ثم استكمله السيد رشيد رضا ، ويمكن القول دون مبالغة أن مجلدات المنار تعطي قارئها صورة حقيقية عن عالم الثلث الأول للقرن العشرين وما أثير فيه من قضايا . وأن المنار ربطت العالم الاسلامي بعضه بعضا . ثانيا : إن الشيخ رشيد رضا خلال رحلته الطويلة ( أكثر من 35 عاما متصلة ) في الدراسة والبحث والكتابة والتأليف والاجتماعات والزيارات قدم ما يمكن أن نسميه السلفية الميسرة التي تحررت من معظم الاسرائيليات والأحاديث الموضوعة والتحكمات المذهبية الخ ... ونعترف بأن سلفية السيد رشيد رضا لم تصل إلى عقلانية الشيخ محمد عبده، ولكن دور السيد رشيد أنه حررها من الغشاوات ، وأنه أبرز قضايا معينة مثل التيسير، والمصلحة، والشورى الخ . ثالثا : انه أرخ لحياة محمد عبده في ثلاثة أجزاء يزيد الجزء الأول منها على ألف صفحة ، وتضمن كتابا من تأليف الشيخ محمد عبده عن الثورة العرابية ، وتعرض لكل ما ألم بمصر من أحداث، كما تضمن الجزء الثاني مقالات الشيخ محمد عبده في العروة الوثقي وغيرها وتضمن الجزء الثالث ما قيل في تأبينه أو كتب عنه . رابعا : لقد أثير عن السيد رشيد رضا ما أثير من قبل عن شيخه محمد عبده عن علاقات سياسية ومواقف متأرجحة والحقيقة أن الأقدار ألقت به وسط الانجليز في مصر فكتب مذكرة بمطالب العرب من الحلفاء حملها الجنرال كلاتيون بنفسه إلى رئيس وزراء بريطانيا لويد جورج، كما ألقت به وسط جماعة الاتحاد والترقي في تركيا فحاول إصلاحهم وخدعوه مرارا حتى استبان خداعهم وحاول أيضا مع الملك حسين وأخيرا مع الملك عبد العزيز آل سعود وفي كل هذه الحالات كان يقوم بواجب النصيحة التي أوجبها الإسلام على العلماء وفي النهاية نفض يديه من السياسة واستبان له صحة توجيه الشيخ محمد عبده له بالابتعاد عن السياسة . ومات محسورا خاصة أنه فشل في تحقيق أملا من أعز آماله هو نجاح مدرسة الدعوة والإرشاد التي كونها لتخريج الدعاة وقد قامت عاما وبعض عام قبل أن تتوقف لقلة الامكانيات .

* كاتب مصري