تبلور التخصص وظهور الإشكاليات

رضوان السيد *

TT

قام عبد الرحمن بدوي في الخمسينات من القرن الماضي بترجمة الكتاب القديم للانجلو اوسينوبوس بعنوان: منهج النقد التاريخي. في الكتاب يربط الباحثان الفرنسيان بين فكرة التاريخ لدى اعلام التاريخانية الالمانية والفرنسية، وطرائق نشر النصوص القديمة في القرن التاسع عشر. والنصوص القديمة عندهما هي النصوص الموروثة عن العهود اليونانية والرومانية. ونفهم من ذلك انّ اعلام الدراسات السامية والاستشراقية (العربية والفارسية) انما استندوا في نشراتهم للمصادر العربية والفارسية الى ما بلغه علم نقد النصوص لدى التاريخانيين الذين كانوا يكتبون المونوغرافيات والتواريخ الشاملة استنادا الى نشرات جديدة نقدية لاعمال المؤرخين والفلاسفة اليونان والرومان، كما استنادا ايضا الى رحلات علمية، وبحوث اثرية وفي الجغرافية التاريخية في مواطن انتشار وسيطرة اليونان والفرس القدامى والرومان. وفي الخمسينات ايضا خصّ Meinecke هؤلاء المستشرقين بفقرة مطولة في كتابه عن «صعود التاريخانية» اعتبرهم فيها او اعتبر نشاطاتهم فرعا من فروعها، من حيث اعتماد الطرائق نفسها (المصادر المكتوبة والقيام بنشرات نقدية لها، والقيام برحلات وبحوث في الجغرافية التاريخية والسكانية والثقافية لديار العرب القدامى والاسلام الاول: شبه الجزيرة العربية والشام ومصر واسبانيا وشمال افريقيا). لكن في الوقت الذي كانت فيه بحوث العربية والاسلام تتحرر من الجداليات التاريخية بين المسيحية والاسلام الى حد ما، كانت تتمايز ايضا عن العلوم التاريخية التي ترابط فيها الرومانسي والانسانوي مع النقدي التاريخاني ـ مع استمرار الصلة الوثيقة بالدراسات اللغوية للساميات، واستمرار الاشكالية المسيحية الاسلامية.

يولي رودي بارت Paret دراستي غوستاف فايل (1808 ـ 1889) عن «النبي محمد، حياته وتعاليمه»، و«مدخل تاريخي نقدي الى القرآن» اهمية بالغة في تطوير المعرفة النقدية بمؤسس الاسلام، وكتابه المقدس. وفايل يهودي الماني، ذو خلفية لاهوتية، ومتأثر بالدراسات البروتستانتية في نقد العهد القديم. وقد استند في كتابه سيرة النبي الى مخطوطة لسيرة ابن هشام (قبل ان ينشرها فيستنفلد، وعندما ظهرت مطبوعة عاد فترجمها الى الالمانية عام 1864). لكن فايل ما استند الى ابن هشام بقدر ما رجع الى «تاريخ الخميس» للديار بكري، والى السيرة الحلبية، وكلا الكتابين متأخر التأليف. بيد ان مشكلاته في كتابة بيوغرافيا (علمية، كما قال) للنبي، ما اتت من المصادر المتأخرة، بل من تأثره بزميله الحاخام الاصلاحي ابراهام غايغر، الذي نشر عام 1833 كتابا سرعان ما اشتهر بعنوان: ماذا اخذ محمد عن اليهودية؟ وهكذا تراوحت دراسته لحياة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) بين العودة لمصادر السيرة، والتقليل من شأن القرآن كمصدر لحياة النبي ايضا، باعتبار انه مقبتسٌ في اكثر اجزائه من العهد القديم. وظلّ كتاب فايل عن حياة النبي شديد الاحترام لدى غير اللاهوتيين باعتباره مرحلة جديدة في تأمل الرسول والرسالة الجديدة، لكنه فتح المجال (الى جانب غايغر) لجدالية من نوع جديد، ظلت محل صراع لقرن كامل، واضرت بسمعة الاستشراق كما بعلميته، وهي: من اين اتى محمدٌ بدينه، من اليهودية ام من المسيحية؟ او ما هي العناصر الغالبة في ذاك الدين: العناصر التوراتية، ام العناصر الانجيلية؟ الدارسون الاستشراقيون ذوو الاصول اليهودية يذهبون الى الامر الاول، بينما يذهب المسيحيون (الانجيليون) من بينهم الى نصرة الرأي القائل بالاصل المسيحي للاسلام (وليم موير ومارغليوت واندريه وبرمنغهام، الخ). ويظهر هذا الامر بشكل اوضح في دراسة فايل الاخرى عن القرآن، نهج فايل في تلك «المقدمة» نهج علماء دراسات العهد القديم، الذين كانوا وقتها يكتبون مقدمات لفهم فكري لنصوص التوراة (وبخاصة الاسفار الخمسة الاولى) وتاريخها وتركيب اجزائها. وقد تركز اهتمامه على سور العهد المكي التي قسمها الى ثلاثة اقسام: المرحلة المكية المبكرة، والمرحلة الوسطى، والمرحلة المتأخرة. واعتمد في ذلك منهجا تطوريا في الفكر والترتيب اللغوي، او تبلور فكرتي التوحيد واليوم الاخير، وطول السور وقصرها. وبمذهب فايل هذا اخذ نولدكه في ما بعد في كتابه المشهور: تاريخ القرآن. وظلّ هذا التقسيم سائدا في دراسات الالمان عن القرآن حتى رودي بارت في الستينات، وانجليكا نويفرت في الثمانينات والتسعينات من القرن العشرين. وقد اصدر فايل في ما بعد (في الستينات من القرن التاسع عشر) تاريخا للخلافة الاسلامية في ثلاثة مجلدات، ارى انه الاحرى بالاعتبار لعودته للمصادر الاولى، لكنه لم يلق اهتماما كبيرا لسيطرة آخرين على الدراسات التاريخية ـ الاستشراقية بعد السبعينات من القرن التاسع عشر من مثل نولدكه وفلهاوزن وغولدزيهر والفرد فون كريمر.

اعتبر كثيرون كتاب الواس شبرنغر (1813 ـ 1893) ذا المجلدات الثلاثة عن «حياة محمد ورسالته استنادا لمصادر لم تُستخدم من قبل» (1865) رداً على دراسات غوستاف فايل. لكنه كان في الحقيقة استجابة غاضبة على سيرة وليم موير البريطاني للنبي. فقد التقى الرجلان بالهند، وكان موير منغمسا في مجادلات بفاندر المبشر الانجيلي ضدّ الاسلام (في مواجهة رحمة الله الهندي ـ لاهور 1854). وقد عمل شبرنغر طبيبا بالهند، لكنه زار المشرق العربي ايضا، وعُرف بولهه في جمع المخطوطات العربية والفارسية. وعرف كلّ المصادر العربية المبكرة مخطوطة او مطبوعة. عرف تاريخ الطبري الذي كان دي غويه الهولندي وزملاؤه وتلامذته قد بدأوا بنشره. وعرف مغازي الواقدي. واكتشف طبقات ابن سعد بين الهند ودمشق. لكنه عرف ايضا كتب الصحاح الستة، وموطأ مالك، وكتب تراجم الصحابة (ابن عبد البر، وابن الاثير وابن حجر). وقد عاد الى المانيا بالفي مخطوط عربي، دخل اكثرها في ما بعد بملكية مكتبة الدولة ببرلين. بهذه العدة المعرفية الهائلة اقبل شبرنغر على تدوين السيرة النبوية مريدا تجنب امرين: الانتقاص ذو الدوافع التبشيرية من جانب موير واقرانه، والتعظيم الرومانسي من جانب توماس كارلايل كما بدا في كتابه: الابطال وعبادة البطولة (1861). وسيطرت عليه الفكرة القائلة ان محمدا هو ابن عصره، وان الاخبار عنه حتى المبكر منها دونها اناس يبجلونه، ولذلك «يكون على كاتب سيرة محمد ان يلعب دور محامي الخصم، وان يستخرج مثالب الشخصية من بين الثناء والتعظيم الذي يحيط بها». وينبغي ان لا ننسى ما كان يقوم به ارنست دينان في باريس في ذلك الوقت من تحطيم لتاريخية شخصية المسيح، وهو امر ترك آثارا واسعة وعميقة في كل الدراسات عن الشخصيات الدينية المسيحية واليهودية. وذكر رينان وتأثيره في شبرنغر وغيره، يدفع للتنبه للوضعانية (اوغست كونت) التي كانت تتحدث عن طبائع الاشياء والظواهر والشخصيات. وقد وجد شبرنغر مثل رينان في ابن خلدون ومقدمته (التي كان كاترمير قد نشرها بباريس في الخمسينات) اطارا نظريا للقوانين التاريخية التي تحكم قيام المجتمعات والدول والشخصيات. وهكذا جاءت بيوغرافيته للنبي غنية بالمصادر ونقدها، ومثقلة بتلك المسلمات التاريخانية والوضعانية في الوقت نفسه. لكنها بايجابياتها وسلبياتها حددت مسار الدراسات حول القرآن والنبي لحواكي نصف القرن من الزمان.

ويريد مؤرخو «الاستشراق» الالماني تأخير ظهوره باعتباره تخصصا مستقلا الى الجيل التالي، جيل مارتن هارتمان وكارل هاينرش بيكر. لكن المتأمل لزحام الدراسات ذات الطابع الشامل والمستقل في العقود الثلاثة الاخيرة من القرن التاسع عشر، يجعل من ذلك التخصص حقلا واضحا في تلك الفترة بالذات، ولا حاجة للانتظار للربع الاول من القرن العشرين. لدينا الفرد فون كريمر (1828 ـ 1889) الذي انصبت اعماله على التاريخ الثقافي للاسلام. لقد عرف المشرق من اقصاه الى اقصاه عندما عمل في المجال الدبلوماسي. واستقرت لديه فكرة بالتواصل والاستمرار في الثقافتين العربية والاسلامية. وبخلاف نظرائه واقرانه ما اهتم كثيرا للبحوث الفيلولوجية البحتة، بل انصرف لمراقبة التكون الثقافي، والتطورات البعيدة المدى في عالم الاسلام. كتب الرجل عام 1859 دراسة واسعة عن ابن خلدون وفلسفته للتاريخ الاسلامي. كما كتب مجلدا في «الافكار السائدة في الاسلام» وعنى بها، مفهوم الالوهية، ومفهوم النبوة، وفكرة الدولة (1868)، وحتى عندما كتب عن الخلافة الاسلامية، انصبّ عمله على ثقافة تلك العصور حتى سقوط الخلافة العباسية على يد المغول (1258). وعندما نتأمل كتابه هذا ذا المجلدين، نجد انه ركز على النظم بعد ان كان قد ركز في الدراسة الاولى على الافكار. والنظم عنده: مؤسسة الخلافة، والبلاط الاموي والعباسي، ومؤسسة الحرب، والادارة المالية، ومؤسسة القضاء، وحياة المدن (نموذج بغداد)، ومؤسسة الاسرة، والتجارة والحرف، والطبقات الشعبية. ولا يضاهي كتابه هذا في سلاسته ودقته غير كتاب تلميذه آدم متز (1901): نهضة الاسلام، الذي ترجمه الى العربية محمد عبد الهادي ابو ريدة في الاربعينات من القرن العشرين بعنوان: الحضارة الاسلامية في القرن الرابع الهجري. اما اليهودي المجري اغناتس غولدزيهر (1850 ـ 1921)، والذي كتب بالالمانية والفرنسية الى جانب الهنغارية، فقد اهتم اهتماما كبيرا بالحياة الدينية والفقهية. كتب عن «الظاهرية» وابن حزم الظاهري عام 1884، كما كتب عن علم الكلام وعلاقته بالفقه (العقيدة والشريعة في الاسلام)، ثم كتب عن التفسير ومذاهب المفسرين للقرآن او مناهجهم وطرائقهم. وهما الكتابان اللذان ترجما الى العربية من بين سائر مؤلفاته، وتركا تأثيرات ضخمة. وما كان سنوك هورغرونيه (1857 ـ 1936) المانيا ايضا، لكنه اصدر كتابه المهم ذا الجزءين عن مكة (1885) بعد عام قضاه فيها متخفيا، بالالمانية. وما يزال هذا الكتاب بالغ الجاذبية والروعة حتى اليوم، لانه يشكل دراسة ميدانية تاريخية وانثروبولوجية ما استطاع الذين كتبوا عن الحج تجاهلها حتى اواسط القرن العشرين. ورغم حدته وعصبيته الهولندية القوية، وعمله طويلا للاستعمار الهولندي في اندونيسيا، فان دراساته القصيرة والطويلة، التي اصدرها تلميذه فنسنك في سبعة مجلدات، تطلعنا على معرفة عميقة من جانبه بالفقه الاسلامي، وبالمذاهب الفقهية، لا نعرفها في ذلك العصر لغير غولدزيهر.

واذا كان كريمر وغولدزيهر وهورغرونيه قد قطعوا خطوات واسعة في دراسة الحياة الدينية والثقافية للاسلام التاريخي حتى اواسط القرن التاسع عشر فان علوم تاريخ الاسلام وصلت الى ذروتها على يد كل من تيودور نولدكه (1836 ـ 1930) ويوليوس فلهاوزن (1844 ـ 1918). فقد مارس كل السابقين من المستشرقين الالمان اعمالا متنوعة في الجامعة وخارجها، اما هذان الرجلان فقد ظلاّ اكاديميين معلمين، وما تركا غرف الدرس والبحث الى أي عمل آخر. ونولدكه فيلولوجيٌ تاريخاني جاف، كان يعرف عددا لا يحصى من اللغات، وبحوثه ذات منحى لغوي في اكثرها، لكنه اشترك مع دي غويه في تحقيق تاريخ الطبري، ثم قام بترجمة الجزء الذي حققه (قسم عن الجزء الاول) الى الالمانية عن تاريخ العرب والفرس قبل الاسلام. وفي عام 1863 نشر كتابا صغيرا عن حياة النبي، تجاوز فيه الاحكام المسبقة، واعتمد لغة المصادر واخبارها. والى جانب مقالاته القصيرة التي تكاد تستعصي على الحصر، انشغل طوال اربعين عاما بكتابة: «تاريخ القرآن» الذي صدر في ثلاثة مجلدات، آخرها بعد وفاته. وفي ما عدا اخذه برأي فايل في تقسيم السور المكية الى ثلاث مراحل (تصدى لها ريتشارد بل، 1953، بالنقد، لكنه من استطاع اسقاطها) يعتبر الكتاب كله انجازا خالصا له. وقد ظلّ الكتاب طوال نصف قرن عُمدة الدارسين من دون ان يجرؤ احد على ترجمته عن الالمانية الى أي لغة اخرى لدقته وعسره ونزوعه الفيلولوجي، اما جزؤه الثالث فيتضمن قراءة نقدية لمرويات تاريخ القرآن (الجمع العثماني، والخطّ القرآني). وقد الحق تلامذة نولدكه (شواللي ومرتزل) بالكتاب دراسة نولدكه (1910) عن لغة القرآن. ورغم شهرة الكتاب لدى الاكاديميين العرب، فأحسب ان احدا ما قرأه كاملا. لكن د. رمضان عبد التواب ترجم الى العربية كتابه في «فقه اللغات السامية».

اما يوليوس فلهاوزن فقد صنع لنفسه اسما بكتابة دراسة مشهورة في نقد نصّ الاسفار الخمسة الاولى من العهد القديم. ثم كان اول اعماله في مجال الدراسات العربية والاسلامية تلخيصه بالالمانية لمغازي الواقدي، التي ظلت محل اعتماد الدارسين حتى نشر مارسدن جونز الكتاب كاملا في الستينات من القرن العشرين. وفي عام 1887 اصدر فلهاوزن كتابه، آثار عن الجاهلية العربية اعاد فيه تركيب كتاب الاصنام لابن الكلبي عبر المصادر التي اقتسبت عنه قبل ان تظهر مخطوطة للكتاب. وانصرف في التسعينات لكتابة دراسات عن «جماعة المدينة» وعن حياة النبي فيها، وعن احزاب المعارضة السياسية والدينية في الاسلام (الشيعة والخوارج)، ترجمها عبد الرحمن بدوي في الخمسينات ـ الى ان اصدر عام 1902 اروع كتبه في الدراسات التاريخية العربية والاسلامية: «الدولة العربية وسقوطها» فتميز منهجا ومصادر الى درجة أنست بحوث السابقين عن التاريخ الاسلامي المبكر (632 ـ 750م). وقد تُرجم الكتاب الى العربية مرتين، وترك اثرا كبيرا في كل دراسات تاريخ صدر الاسلام لدى العرب والمسلمين حتى سبعينات القرن العشرين.

مع مطلع القرن العشرين، كانت الدراسات الاستشراقية تبلغ ذروة ازدهارها، حاملة الميزات والاشكاليات التي رافقت تاريخها كله. وما كان هناك وعي نقدي بالاشكاليات، بل كانت هناك ثقة كبيرة بالنفس، وشعور بان هذا «التخصص» او «العلم» محظوظ بسبب كثرة المصادر الكتابية القديمة، واستمرار تلك الثقافة في حياة العرب والمسلمين المعاصرين، بحيث تسهل المتابعة، ويسهل الانجاز.

* كاتب لبناني متخصص بالفكر الإسلامي