التجديد الديني والمشروع المجتمعي

سعيد بنسعيد العلوي*

TT

يستدعي التجديد الديني الحق التوافر على مشروع مجتمعي متكامل، مثلما يستدعي التوافر على مشروع سياسي يكون بموجبه التوافق بين إمكان الدين الاسلامي في حياتنا المعاصرة مع سعينا لإقرار مبادئ الحداثة الحق وانخراطنا في سيرة التحديث الشامل. والحق أن التحديث السياسي، متى أدركناه في حقيقته، لا يكون أبداً في معزل عن سيرورة المجتمع وليس يستقيم دون فعل وانفعال.

التصورات الاجتماعية السائدة ومع الروابط الاجتماعية التي هي لُحْمَةُ ذلك المجتمع وقاعدته معاً. ذلك ما تفيده من قراءة التاريخ البشري وما نفيده ، على وجه أخص، من النظر في التحول الذي عرفه الغرب الأوروبي فكان به عمل القطع والفصل مع الأزمنة السابقة وكان ميلاد الحداثة في المعنى الذي نفهمها به اليوم.

إن ذلك الاقتران سمة كل نهضة ، ومدى تحقيق تلك النهضة أو اضطرابها أو فشلها يقوم في النجاح في إحداث التفاعل بين المشروع السياسي والمشروع المجتمعي أو في القصور عن إحداث ذلك التفاعل.

نجد تصديقاً لهذه الفكرة في الفكر العربي الاسلامي المعاصر في محطات ثلاث من ذلك الفكر، أو إذا شئنا في نماذج دالة على إرادة التعبير أكثر من غيرها. نجد ذلك أولاً ، حين نطالع ما دونه الرحالون العرب المعاصرون عن الغرب الاوروبي: إعجاب شديد بما شاهدوه من مظاهر التنظيم والقوة في الجيش ، وفي الادارة ، وإدارة المال والتجارة أساساً وفيما لمسوه من تفوق وتقدم هائلين في ميدان تسخير التقنية من أجل إسعاد الناس. وإعجاب بعموم التعليم وانتشاره ووفرة المؤسسات العلمية والجمعيات ذات الطابع المهني والاجتماعي لا يقل عن الاعجاب الأول.

ذلك ما نقرأه ، على سبيل المثال ، عند الطهطاوي ، والشدياق ، ومحمد الصفار وغيرهم. ولكننا نلاحظ أن نبرة الحماس تخف ، وحرارة الحماس تخبو متى تعلق الأمر بالحديث عن المرأة ، والعادات الاجتماعية ، وعن أنظمة الضمان وما اتصل بها. وإذا اعتبرنا أولئك الرحالين دعادة ضمنيين إلى الاقتباس من الغرب في الأمور التي تتصل بعملية التحديث السياسي (النقد الضمني للاستبداد والانفراد بالحكم ، وعدم التسوية بين الناس في تطبيق الأحكام ، التنكر للعهود والمواثيق الممضاة مع المحكومين ...) ، وهم كانوا كذلك في الواقع ، فإن من الخطأ أن نرى في حديثهم ما يعتبر إشارة إلى المجتمع وأهميته في مواكبة عملية التحديث تلك. هذه الصورة تصبح أكثر بروزاً ، إذ يغدو خطاب الدعوة إلى التحديث السياسي أكثر صراحة عند «مفكري النهضة» - أي عند تلك الجمهرة التي تشمل إصلاحيين أمثال الكواكبي ، وقاسم أمين ، والطاهر الحداد ، ومحمد عبده ومحمد الحجوي - فضلاً عن بعض الاصلاحيين المسلمين الأتراك وعن جمال الدين الافغاني. بيد أن مسألة «المجتمع» تخبو فالصوت في الحديث عنها خافت غير مسموع ، في الأغلب الأعم. وأما المحطة الثالثة من محطات الدعوة إلى التحديث السياسي أو النموذج الثالث فنحن نجده في فكر رجالات الحركة الوطنية التحررية. ذلك ان أغلب رجال «الفكر الوطني» - في الفكر العربي الاسلامي المعاصر قد نبهوا إلى الارتباط الذي بدا لهم ارتباطاً علياً بين حدوث الاستعمار وضياع الاستقلال وبين الاستبداد مع العجز المطلق للسلطة السياسية عن الوقوف أمام اكتساح القوى الامبريالية واجتماعها على احتلال بلدان المشرق والمغرب العربيين. وعلى سبيل المثال نجد الحركة الوطنية المغربية مع ذكاء رجالها وقوة النصوص التي أبدعتها ، ومع سعيها المبكر على الربط بين ما نقول عنه إنه التحديث السياسي وبين ما نأمله في تجديد ديني .. نجد أن «المسألة الاجتماعية» ، والتوافر فيها على «مشروع مجتمع» ظل في حكم القضية الثانية التي تؤجل دوماً لصالح القضية الأولى: قضية التحرر الوطني من الاستعمار .

الحق ان قضية التجديد في الدين ظلت ، في الفكر العربي الاسلامي المعاصر كله ، قضية حاضرة بقوة ولعل فيما سمح به ضيق المجال من إشارة إلى النماذج الثلاث المتقدمة ما يذكرنا بهذه الحقيقة. ولكن حديث التجديد الديني يجعلنا اليوم أمام اختيار بين طرح الدين جانباً وبين معاودة النظر الاجتهادي في الدين (فيما لم يكن من الثوابت التي لا تحتمل المراجعة - والتي تصبح تغييراً وإزالة كليتين، وبالتالي فلا تكون من التجديد في شيء) معاودة تجعله مرتبطاً بمقتضيات الحداثة (وشرطها الضروري التحديث السياسي كما ذكرنا ذلك أكثر من مرة) - إن تلك الصفة تحمل علماء الدين وكذا النخب التي يعنيها أمر الوجود العربي الإسلامي ، تحملهم حملاً على القول برأي واضح صريح هو نتيجة اجتهاد جماعي في القضايا الأساسية الكبرى التي تتصل بالمجتمع، بل وتكون كيانه ومضمونه، ومن ذلك وضع المرأة في منظوماتنا الفقهية والقانونية المعاصرة. ومن الغريب أن المهر، والحجاب ، وتنقل المرأة بمفردها ، وخروجها إلى الحياة العملية .. لا يزال في صلب المشاكل التي تعاني منها المرأة المسلمة في كثير من مجتمعاتنا. ومن المؤسف أن تعدد الزوجات والانفراد بقرار التطليق، لا تزال في عداد المشاكل الفعلية والكبرى - والحال أن الشرع واقتضاء المصلحة - مصلحة العباد فطلب الشريعة ومقصدها الاسنى بموجب القاعدة الاصولية المعروفة: حيثما كانت المصلحة فتم شرع الله) لا يجيز العدد الكثير من التصرفات والفعال ، بل ومن الأفكار والآراء التي يرددها الكثير من الوعاظ والخطباء على المنابر في المساجد - وأود رفعاً لكل التباس وإساءة للظن أن يتم الانتباه إلى حرصي الشديد على مراعاة الشريعة في الثوابت والمقطوع به من أحكامها الواضحة - والمقام يستدعي مزيد بيان لنقول إن من هذا المقطوع به (وهو القليل المحدود) ما يتصل بالارث وبالنصيب الذي اعلنه الله تعالى لها في خطاب تام البيان كما يقول علماء أصول الفقه.

من القضايا الاجتماعية التي تستدعي النظر، في معرض السعي نحو التجديد الديني ، تلك القضايا التي تتصل بالبدع المتفشية (وأشدها خطراً بدعة الغلو، ومصدرها كما بينا ذلك الجهل والقول في الدين عن جهل - وبدعة المسارعة إلى تكفير المخالفين في الرأي واخراجهم من الملة ، وبدعة الانشغال بالهامشي وما كان دون ذلك أمور تتصل بالعبادات أساساً) ، وتلك الاخرى التي تقوم في تأثيم المجتمع برمته حيناً ، وفي تكفيره وإعلان «جاهليته» حيناً آخر .. ولو اتسع المجال لي لحدثتكم عن داعية وزعيم اسلامي لا يرى لمفهوم المجتمع المدني معنى آخر سوى نشر الاباحية ، والشذوذ ، محاربة الملة والخروج عليها. ولكنني أمسك القلم فلعل القارئ الكريم يتبين في ما قلت قضايا تثير الشجن ولست أشك أنه يشاطرنا الرأي بأن القول فيها سلوك لطريق التجديد الحق.

* كاتب مغربي متخصص بالفكر الاسلامي