البيروني.. سابر أغوار الهند

رشيد الخيُّون

TT

كانت الهند وما زالت مكاناً مجهولاً، كل شيء فيها يوحي بالأسطورة والغموض، وربما أول اكتشاف لأغوارها بالعربية، قبل أبي الريحان البيروني، هو ما قرأ ابن النديم بخط الفيلسوف يعقوب بن إسحاق الكندي (ت نحو 260هـ) حول أديان الهند ومذاهبها، كتبه العام 249هـ. كان الكتاب حكاية رجل بعثه وزير هارون الرشيد يحيى بن خالد البرمكي إلى الهند «ليأتيه بعقاقير موجودة في بلادهم، وأن يكتب له أديانهم، فكتب له هذا الكتاب» (الفهرست). وبطبيعة الحال، لا يطلب توثيق أديان ومذاهب بلاد معقدة التضاريس البشرية مثل الهند إلا أن يكون متكلماً أو له فضل علم. فهناك روايات تحدثت عن بعثة المتكلم معمر بن عباد السلمي من قبل الرشيد أو وزيره لمناظرة قوم من السمنية بالهند، وربما كان الرجل الذي كتب عنه الكندي هو ذلك المبعوث.

أما سابر أغوار الهند والملم بتضاريسها الدينية والفكرية فهو أبو الريحان البيروني أو الخوارزمي (ت440هـ)، الذي دخل الهند وتعلم لسانها واقتبس من علومها، فصنف فيها «تحقيق ما للهند من مقالة»، وترجم من لغتها كتابين، قال: «نقلت إلى العربي كتابين، أحدهما في المبادئ، وصفه الموجودات واسمه سانك، والآخر تخليص النفس من رباط البدن، ويعرف بباتنجل». ويبدو أنه استعمل مترجمين في نقل الكتب، جاء ذلك بقوله: «فإن المعبرين لي بالترجمة كانوا ذوي قوة على اللغة، وغير معروفين بالخيانة» (تحقيق ما للهند). ومما نقل عنهم كانت قصة الخلق، وهي: «ان الماء كان قبل كل شيء، وموضع العالم ممتلئ به، ولا محالة أن ذلك في أول نهار النفس، وابتدأ التصور والتركيب، قالوا: وإن الماء أزبد بالتموج، فبرز منه شيء أبيض خلق الباري منه بيضة براهم، فمنهم مَنْ يقول: إنها انفلقت وخرج منها براهم، وصار السماء من أحد نصفيها والأرض الأخرى». وكم تكرر هذا التصور في نشأة الكون عند البابليين واليونان، ولا ندري هل سبقوا هؤلاء الهنود أم الهنود هم السابقون! وربما انفرد أبو الريحان البيروني، من غير سبر أغوار الهند وتعلم لسانها، بموقف متسامح وعلمي إزاء أهل الأديان الأخرى، فنجده لا يدخل كتبه ما يسيء لهم إلا ان تولاه بالنقد والتصحيح، وهذا فضل في التسامح الديني لمؤرخ وعالم قلما نجده عنده المؤرخين والعلماء الآخرين. ففي «القانون المسعودي» نجده يعلل الثالوث عند المسيحيين، مثلما سمعه من أحبارهم، قال: «الإشارة نحو ما نعرفه منها، ونقول: إن الأب عندهم غاية التعلم، كما أن الابن غاية الاختصاص والتكريم، وليسوا يذهبون فيه إلى معنى الإيلاد الحيواني، وربما أشاروا إلى التولد الكائن على وجه الإفاضة والاقتباس، وحال الألفاظ في اللغات المتباينة أدت إلى تباين العقائد وتنافر أهلها». ونجده يرد في «الآثار الباقية عن القرون الخالية» اتهام ابن سنكلا النصراني للصابئة في أمور منافية لوداعتهم وإيمانهم العميق، مثل اتهامه لهم بذبح أولادهم وتقديمهم قرابين للكواكب، قال: فحشي «كتابه بالكذب والأباطيل ... ونحن لا نعلم منهم إلا أنهم أُناس يوحدون الله وينزهونه عن القبائح، ويصفونه بالسلب لا الإيجاب كقولهم لا يُحدُّ ولا يُرى ولا يُظلم ولا يجور، ويسمونه بالأسماء الحسنى مجازاً». وما قاله البيروني ينطبق اليوم على المندائيين الصابئة بالعراق، فهم يوحدون الله وينزهونه ويعبدونه عبادة شاقة، ورغم ذلك هناك مَنْ يؤذيهم، ولم يحاول الارتقاء والنظر إلى عباد الله من غير دينه أو مذهبه بتسامح سبقه إليه البيروني بألف عام.

لقد ميز أبو الريحان، كمؤرخ عدول، بين المسموع والمرئي، قال: «ليس الخبر كالعيان، لأن العيان هو إدراك عين الناظر المنظور إليه في زمان وجوده، وفي مكان حصوله، ولولا لواحق آفات بالخبر لكانت فضيلته تبين على العيان والنظر لقصوهما على الوجود الذي لا يتعدى آنات الزمان». تبرز عظمة البيروني أو الخوارزمي في موقفه أولاً من الحقيقة، وثانياً في باعه العلمي، الذي وصلنا كاملاً تقريباً عبر كتبه، التي عدَّ ابن أبي أصيبعة منها، من غير الكتب التي وردت في السياق، «الجماهر في الجواهر»، وكتاب «الصيدلية في الطب»، و«مقاليد الهيئة»، و«استعمال الاصطراب الكري» و«التفهيم في صناعة التنجيم» وغيرها.