التجديد الديني وحديث المال والاقتصاد

سعيد بنسعيد العلوي*

TT

إذا كان وجود دولة القانون (دولة الحرية، والاطمئنان على النفس حتى يكون في وسع العقل أن يُعْمِل نظره في القضايا التي تستوجب الاجتهاد الفقهي الكامل في زماننا اليوم) يعتبر الشرط الأول لإمكان التجديد في الدين واللازم لانبثاقه، وكان التوافر على مشروع مجتمعي شامل يمثل شرطه الثاني المكمل والمصاحب له، فإن القول في المشكلات والقضايا التي تتصل بالامور الاقتصادية، أي بما كان مادة ومحتوى أساساً للعلاقات التي تنشأ بين المسلمين في دائرة وجودهم الاجتماعي.. إن هذا القول ينقلنا، دفعة واحدة، إلى صلب قضية التجديد الديني ذاتها. ذلك أن حديث التجارة، والعلاقات الاقتصادية التي تقوم بين المسلمين في عالمهم، وقضايا المال (الثابت والمنقول) وما يتصل بها هي، في الأغلب الأعم، مادة الاجتهاد الفقهي وعمدته في كل زمان ومكان. وبعبارة أخرى يجوز القول إن تلك المشكلات هي ما يكشف عن حدوث الأزمنة ويستدعي الحاجة إلى الاجتهاد الفقهي وبالتالي يشي بتبدل الأحوال والوقائع وبالتالي فهو يجعل الدين أمام السؤال المتعلق بامكان مسايرة التطور والعصر أو عدم ذلك الامكان. واريد ان اكتفي، في التدليل على هذه العلاقة (بين الدين وبين الاسئلة التي تطرحها مشكلات المال والاقتصاد في الحياة العملية)، بمثالين أرجع فيها إلى الحوار الذي كان يدور بين بعض علماء الاسلام في مطالع القرن الماضي.

والمثال الأول أجده عند الفقهاء في تساؤلهم حول وجوب أو عدم وجوب الزكاة في الأوراق المالية. فمن المعلوم ان الزكاة تجب في العين (أي في الذهب والفضة)، كما ان من المعروف أن ظهور المصارف والبنوك وتطور المبادلات التجارية وكذا الخدمات المتصلة بها، كانت وراء ميلاد الأوراق النقدية لذلك لم يكن من المستغرب أن يخوض فقهاؤنا في قضية وجوب الزكاة أو عدمه في الأوراق المالية وكان من الطبيعي أن يقوم بينهم اختلاف في ذلك، لا تخلو في جوانب منه من الطرافة بل والمتعة متى نظرنا إليه بعين زماننا الحاضر ومتى تطلعنا على بعض كتب «النوازل» نجد قولاً للفقهاء، قبل ذلك، في القيمة الشرعية للحوالات والرسائل المالية وقد وقفت على سؤال طرح على الفقيه المغربي محمد الحجوى في عشرينات القرن الماضي من قبل تجار مغاربة كانوا يقومون باستيراد منسوجات ومواد اخرى من اوروبا، ويصدرون مواد خام ومصنوعات مغربية تقليدية إليها وهذا هو المثال الثاني الذي اذكره.

ومدار السؤال حول قول الشرع في جواز أو عدم جواز التأمين على تلك السلع والبضائع، والحال أن ذلك التأمين شرط أساسي لا يمكن الاخلال به عند أرباب المصانع والشركات التجارية المختلفة في أوروبا. ولست أريد أن أفصل في السؤال ولا في فتوى الفقيه الحجوي (وقد كان، بدوره، مشتغلاً بالتجارة والتبادل التجاري مع مصانع في مرسيليا ومنشستر في بريطانيا انشغالاً ورثه عن ابيه فكان امتهانه للتجارة سابقاً على الوظيفة والعمل الإداري الذي اشتر به) وإن كنت أود الاكتفاء بالقول إن فتوى الفقيه كانت تسير في خط الاقتران الذي كان يقول به بين «تحديث التجارة» ووجوب الاجتهاد الفقهي من جانب، وبين الامرين معاً وتطوير حال المسلمين من جهة أخرى أشير، على من اراد التوسع في معرفة ذلك، بالرجوع إلى كتابي «الاجتهاد والتحديث».

الحق أنني أميل إلى الاعتقاد بأن فقهاء الاسلام، في الحقبة التي نسميها »عصر النهضة «تمييزاً له عن عصر الانحطاط» وكذا في العقود الثلاثة الأولى من القرن الماضي كانوا أكثر ايجابية من علماء الدين، في عالمنا العربي، في النظر إلى المشكلات والقضايا التي تتصل بشؤون المال والاقتصاد - بل إنني أشد ما اكون ميلاً إلى التقرير بأن الفكر الديني في الاسلام انصرف عن الطريق الذي دشنه أولئك المجتهدون بل أنهم، في تقديري، قد ساروا إلى الانشغال بقضايا هامشية، جزئية وأنهم أخذوا يبتعدون، أكثر فأكثر، عن الانخراط الايجابي في قضايا العصر والعمل بما «يوجبه حكم الوقت» كما يقول أبو الحسن الماوردي. والحديث في هذه المسألة حديث يثير شجناً كبيراً، وإنه من المؤلم حقاً أن نلاحظ هذا التباين الشديد بين انشغالات فقهائنا وأحاديثهم في الجموع والمجالس وفي بعض القنوات التلفزيونية، وبين هموم الاسلام والمسلمين في حياتهم الاقتصادية وفي وجودهم الاجتماعي وما يستدعه وجودهم في العالم الفسيح ومقتضياته وقراراته الملزمة دوماً.

لست أملك، في أحاديثي المقتضبة هذه عن التجديد الديني والتدليل على بعض جوانب لزومه وما اعبره من مقدماته ومقتضياته، إلا القول الموجز، ولا أقدر على تجاوز الاشارة والايماء. بل لعلي اضطر إلى الاكتفاء بطرح الاسئلة - ولعل هذا ما لا أملك غيره في حلقة اليوم وفي موضوعها الذي يريد التنبيه على الارتباط الضروري بين التجديد الديني وبين قضايا المال والاقتصاد في الوجود الاسلام المعاصر. بل إنني أقف عند سؤالين اثنين أملاً ان يكون للتساؤل صدى وان التمس من علمائنا في الدين ما يكون من الاجوبة شافياً.

السؤال الأول: أوجزه على النحو التالي: هل نملك، في عالم اليوم وما تقضيه المال والاقتصاد فيها ـ في صلتهما بحياة المسلمين، ان نطمئن إلى التعريف (أو التعاريف) التي كانت (ولا تزال) تقدم للربا؟ ما القول، على سبيل المثال، فيما تستدعيه الحاجة من الموظف والعامل إلى اقتراض بنكي للمال من اجل امتلاك بيت يضم الاسرة ويحفظ الأولاد أو سيارة أو وسائل تجهيز للمطبخ والبيت والحال ان ذلك الموظف العامل عاجز عن توفير ذلك بمفرده وليس يجد غير المصرف أو مؤسسة الاقراض (بفائدة بطبيعة الأمر) ؟

السؤال الثاني: طلب للفهم، وتساؤل ساذج بريء أسوقه على النحو التالي «هل في الامكان، من جهة منطق الاقتصاد وعمل المصارف والبنوك (شراء المال وبيعه أساساً) أن نطمئن إلى فكرة بنك أو مصرف إسلامي؟ هل نحن في حاجة إلى إضفاء صفة الاسلامي على البنك والمصرف ـ وهل نملك (ونحن صادقون مع أنفسنا) ذلك ونطبقه؟

* كاتب مغربي متخصص بالفكر الاسلامي