استتباب الدراسات الإسلامية والانتشار العالمي

رضوان السيد *

TT

تقليد «التاريخ الثقافي» للحضارة العربية والاسلامية والذي تحدث جوزف فان امس عن اشكاليات تكونه بين فلهاوزن وبيكر هو الذي ساد بعد الحرب العالمية الثانية وحتى الثمانينات من القرن العشرين. وهو لا يقوم فقط على تجاوز التاريخانية بالتدريج دون قطيعة معها وحسب بل ينسحب ايضا من المجال العام تماما، ولا يعنى بالعلاقات العربية والالمانية او الاسلامية الالمانية في حقبة ما بعد الحرب. والمعروف ان المانيا انقسمت بين 1947 و1990 الى غربية وشرقية لكن الشرقيين ايضا ما اهتموا كثيرا لعلاقات الدولة بالتخصص وبالدراسات الاقتصادية والاجتماعية الحديثة والمعاصرة. وهذا الامر أي الانكفاء الى المكاتب والمكتبات ليس خاصا بالمانيا، بل يتجاوز ذلك الى انجلترا وفرنسا واسبانيا في حين اصر الاميركيون تحت ضغط تحول الولايات المتحدة الى امبراطورية عالمية وقطب اعظم على الاهتمام بالاسلاميات التطبيقية، بحسب ما سماها محمد اركون في السبعينات من القرن الماضي. ويذهب باحثون مثل هارلد موللر وشتاينغهاس الى ان ذلك ليس خاصا بالدراسات الشرقية والاستشراقية فحتى حقبة النقد اليساري للايديولوجيات الاستعمارية (والتي نالت بشواظها الانتروبولجيا والتاريخ ونظرية الادب والاستشراق)، وكشفت علائق السلطة بالمعرفة (بحسب ميشيل فوكو) انصرف الاكاديميون الى تخصصاتهم متخلين عن العمل سلبا او ايجابا (باستثناءات ضئيلة قبل 1968 وبعدها) مع الدولة والسلطات.

ويرجع ذلك الى التجربة الكارثية للدولة القومية في الحرب العالمية الثانية، وظهور مؤلفات مثل الدولة والاسطورة لكاشيرر، والدولة الفاشية لفاست، وطبائع الاستبداد لفندلباند، ونقد السطوة او السيطرة لحنا ارندت، والانسان ذو البعد الواحد لماركوزه. والاكاديميون الالمان (باستثناءات ضئيلة ايضا) ليسوا متعودين على التحالف الوثيق مع الدولة، كما انهم اقل تعودا على التمرد عليها.

ولذلك فقد كان هناك الظرف شبه تام لدى الالمان، رغم تجاوز الفيلولوجيا، والتاريخانية عن الاهتمام بالظواهر الاسلامية الحديثة، وقد يكون بعض ذلك عائدا الى انه لم يعد لديهم او لدى دولتهم مشروع استراتيجي، يقتضي اندفاعا في دراسة الحاضر او الماضي من منظور الدولة والفكرة او الدولة والانتشار. ولذا يبدو لي ان اعتناق منهج «التاريخ الثقافي» للثقافات والحضارات في عالم الاسلام، له صلة بهذين الامرين في الوقت نفسه: تجنب الخوض في العلائق المعقدة بين الدولة والثقافة، واعتبار التاريخ الثقافي تخصصا يقتضي عملا دؤوبا يلهي عما عداه. شغل هلموت ريتر (المعروف مما قبل الحرب، واستاذ كرسي الاسلاميات بجامعة فرنكفورت) عالم الاستشراق الالماني حتى اواسط الستينات.

وتجربته واسعة ومتشعبة، بدأت في تركيا ومخطوطاتها العربية والفارسية في العشرينات والثلاثينات من القرن العشرين. ولم يعد يعترف له اليوم، الا كتابه الضخم عن المتصوف فريد الدين العطار المسمى: بحر الروح، والذي اراد به منافسة حلاج ماسينيون دون ان ينجح في ذلك. وقد لا تكون اللغة الالمانية هي السبب الاهم لعدم الفوز في السباق، اذ لم تكن لريتر شخصيا تجربة روحية عميقة تضيف سحرا كذاك الذي اضفاه ماسينيون على عمله، ثم ان ريتر كان هرمونوطيقيا لا يميل للقفزات البعيدة والتأويلات التي قال مرة مستعيرا التعبير العربي المأثور: انها تفسيرات ما انزل الله بها من سلطان! وقد خلف ريتر عدة تلامذة في مجال الدراسات الصوفية والعرفانية مثل انا ماري شيمل وفرتز ماير وجوزف فان أس. بيد أن فان أس الذي تولى كرسي الدراسات الاسلامية بتوبنغن منذ اواخر الستينات حتى اواخر التسعينات، مر على دراسات الزهد والتصوف الاسلاميين مرور الكرام من خلال عمله على المحاسبي (243 هـ) في اطروحته للدكتوراه، بينما تابع طوال حياته العلمية اهتماما آخر من اهتمامات استاذه ريتر وهو: الحياة الدينية، وعلم الكلام الاسلامي بالذات.

اما فرتز ماير، السويسري الاصل، والكاتب بالالمانية على طول الخط، فقد اهتم بالتصوف الايراني والتركي على الخصوص لكنه عاد مرارا للتصوف العربي، من خلال دراسات «عميقة» تجمع بين تحليل الفكر، وآليات المؤسسة (الطرق الصوفية والدولة)، وقد جمعها المعهد الالماني ببيروت في اربعة مجلدات، ما عرفت جيدا لقلة القراء بالالمانية بين المختصين. ولقيت دراسات انا ماري شيمل اهتماما اكبر رغم افقيتها وضآلة عددها، لانها ما عملت بالمانيا طويلا، بل في الولايات المتحدة، ونشرت اكثر دراساتها بالانجليزية، ثم هناك سبب آخر لشهرتها هو حبها للمسلمين، واعتقادها ان الصوفية هي الحل المثالي لمستقبل الاسلام، مما اكسبها شعبية كبرى بين مسلمي شبه القارة، الذين يقرأون الانجليزية.

ورث جوزف فان أس طرفا آخر من اهتمامات هلموت ريتر الشاسعة، هو طرف الحياة الدينية لدى المسلمين، وعلم الكلام. فالمعروف ان هلموت ريتر اكتشف باسطنبول مخطوطة من مقالات الاسلاميين لأبي الحسن الاشعري (324 هـ) ونشرها نشرة علمية رائعة. كما انه كتب سلسلة مقالات عن مخطوطات علم الكلام والفرق في مكتبات تركيا. اما فان أس فقد درس في اطروحته الثانية للتأهل للاستاذية كلاميات عضد الدين الايجي في «المواقف» وهو النص الذي ساد مع شروحه بحوث العقيدة ونصوصها لدى الاشاعرة من اهل السنة بعد القرن الثامن الهجري. وقد فكك فان أس النص متتبعا اصوله ومقولاته الى مصادرها الكلاسيكية او الاسلامية المبكرة. وانصرف فان أس بعد ذلك ، وفي ما بين السبعينات والتسعينات، الى دراسة الحياة الدينية الاسلامية من خلال تكويناتها الاولى: اكتشف نصوصا من اواخر القرن الاول الهجري، واخرى من القرن الثاني، وتابع العلاقة بين علم الكلام والمنطق وبين المتكلمين والفلاسفة، وبين علماء العقيدة وعلماء الحديث. ومع ان اهتمامه الرئيس كان وما يزال منصبا على المعتزلة، لكنه ما تجاهل «الأرثوذكسية» باعتباره كاثوليكيا يقول بالمؤسسة، وتفتنه الطهوريات والبيوريتانيات دون ان تختفي سخريته الخفية من غرائبها. وقد اقبل منذ اواسط الثمانينات على كتابة تاريخ شامل لعلم الكلام والاسلاميات في القرنين الثاني والثالث للهجرة، صدر في خمسة مجلدات ضخمة اواسط التسعينات. وهو اليوم الى جانب دانييل جيماريه الفرنسي اهم المتخصصين في علم الكلام في العالم. ويحسن هنا ان نقول كلمة عن ولفريد ماديلونغ، الالماني الاصل، الاميركي الجنسية، والذي درس العربية بالقاهرة في الاربعينيات. وصار بعد التدريس بجامعة شيكاغو استاذا للدراسات الاسلامية بجامعة اوكسفورد. واهتم ماديلونغ بالحياة الدينية ايضا، لكن ليس لدى السنة والمعتزلة، بل لدى الفرق الشيعية الزيدية والاسماعيلية، وله كشوف بارزة بسبب تدقيقه في قراءة النصوص. والواقع انه الى جانب فان اس تابع تقليد نشر النصوص، وكتابة الدراسات عنها، او استنادا اليها، كما كان الاولون يفعلون. ومع ماديلونغ ندخل الى عالم الدياسبورا الالمانية اذا صح التعبير. فالذين هاجروا او هاجر اهلهم من المانيا قبل الحرب الثانية وخلالها وبعدها ما كانوا يهودا فقط. شيمل ليست يهودية. وكذلك ماديلونغ. والامر نفسه يقال عن هاينركس، الاستاذ منذ عشرين سنة بجامعة هارفرد للدراسات العربية. وهو مثله مثل ماديلونغ ما يزال يكتب بالالمانية والانجليزية، والى جانب اهتمامه بدراسات النثر العربي القديمة، والنصوص الواقعة بين الفيلولوجيا والمنطقي، له كتابات في نظرية الشعر العربي، واصولها الكلاسيكية. بيد ان اشهر هؤلاء في اميركا بالذات ثلاثة: فرانز روزنتال (المتوفى عام 2003 عن عمر عال)، وغوستاف فون غرينباوم (من اصل نمساوي)، وجوزف شاخت. وشاخت معروف بسبب دراستيه الشهيرتين ، فتميز بالاهتمام بالدراسات العربية والاسلامية الحديثة. وكذلك فعلت خليفته على الكرسي غودرون كريمر. في حين اقبلت روتراود فيلاند، الاستاذ بجامعة بامبرغ، على الاهتمام بالرواية العربية الحديثة، وعلاقات الشرق بالغرب.

وما كان حظ الدراسات القرآنية بالمانيا كبيرا بعد الحرب. لكن الاستاذ رودي باريت ـ الذي ذكرناه مرارا في هذه السلسلة بسبب تاريخه للاستشراق الالماني ـ كتب كتابا صار شهيرا لصدوره في سلسلة «كولهامر» الشعبية بعنوان: محمد والقرآن. كما ترجم القرآن الى الالمانية ترجمة جيدة. وابرز دارسي القرآن والنص القرآني في العقدين الاخيرين، في المانيا، وربما في العالم الغربي الاستاذة انجليكا نويفرت، مديرة معهد الدراسات العربية ببرلين. بدأت نويفرت اعمالها حول النص القرآني في دراستها للسور المكية، في شهادة التأهل للاستاذية. ثم صدرت لها عشرات المقالات الطويلة عن القرآن، التي شرحت فيها نظريتها حول قدم النص القرآني ووحدته، وانه نص للالقاء والتعبد الشعائري، ولذلك فانه رغم حيويته وحياته المتجددة، ظل عصيا على التحريف.

* كاتب لبناني متخصص بالفكر الإسلامي