الفكر الاقتصادي الوضعي والإسلامي.. جدل الضوابط الأخلاقية والقواعد الموضوعية

TT

يخلص الدكتور عبد الجبار حمد السبهاني في كتابه الجديد الفكر الاقتصادي الوضعي والاسلامي الصادر عن «دار وائل للنشر والتوزيع» بعمان الى مجموعة من الحقائق والملاحظات ابرزها ان جل الفكر الاقتصادي الوضعي هو محاولات تفسيرية للواقع ومشكلاته المختلفة، لذا فهو يرى انه يصنف ضمن التحليل الاقتصادي في حين يتركز الفكر الاسلامي حول توجيه الحياة الاقتصادية الوجهة المرضية بحسب منظومة القيم الشرعية لذا فهو يصنف ضمن المذهب الاقتصادي وهو العنصر الأكبر بين عناصر الفكر الاسلامي.

وهذه الحقيقة هي التي تعطي للفكر الاقتصادي الاسلامي السمة المعيارية بينما يغلب الطابع الموضوعي على الفكر الوضعي، ولهذا صرح البعض بأن الاقتصاد علم غير اخلاقي وذلك لفرط تركيزه على التحليل واهماله للترجيحات الحكيمة، بينما قال البعض ان الاقتصاد الاسلامي ليس علما.

ويرى الباحث ان الفكر الاقتصادي الوضعي يتسم بالنسبية فالبيئة المعرفية هي التي تحدد القدرات الادراكية للمفكر والبيئة الاقتصادية الاجتماعية السياسية هي التي تحدد له المشكلات التي يتصدى لها والمناخ العام الذي يعيشه، ولأجل ذلك كان الفكر الوضعي جدليا على نحو كبير: جدل الفكر مع الواقع وجدل الفكر مع الفكر المباين. ان فكر السكولائيين يعكس الواقع الاقطاعي بينما يعكس فكر التجاريين العهد الاستعماري ويعكس فكر الفيزيوقراط واقع الزراعة الفرنسية بينما يعكس فكر (ريكاردو) واقع المجتمع الصناعي.. وهكذا، لكن الامر ليس كذلك بالنسبة للفكر الاسلامي صحيح ان المذهب الاقتصادي الاسلامي ينصب على الواقع معالجة وتوجيها لكن هذا المذهب ليس من افرازات هذا الواقع.

ويوضح ان التشريع الاقتصادي الاسلامي ثورة على الواقع الجاهلي ومتطلبات هذا الواقع ولم يكن ابدا انعكاسا ولا تدعيما له كما يتضح من الموقف من الربا الذي عجب الوضعيون كيف يقدم النبي صلى الله عليه وسلم على تحريمه والمجتمع القرشي التجاري احوج ما يكون اليه، وعجبوا ايضا كيف ينشر النبي صلى الله عليه وسلم موقفا رافضا للرق ويشرع معالجة تفصيلية لتحرير العبيد في حين كانت الحياة اقتصادية احوج ما تكون اليه كما يعتقدون.

ويشير الى ان الفكر الوضعي يتسم بالانتمائية بمعنى ان كل مفكر يعبر عن مصالح الطبقة التي ينتمي اليها فملاك الارض لهم مصالحهم التي يرعاها مفكروهم وهي غير مصالح ملاك رأس المال التي يرعاها المنظرون من ابنائهم وهي غير مصالح العمال التي يدافع عنها اعلامهم.

ويقول لقد قبل الفكر الانساني بجناحيه المثالي والمادي هذه القناعة فقد اكد افلاطون ان الشرائع مرآة من يسنها واكد ماركس ان الافكار السائدة هي افكار الطبقات السائدة وقد تجلى ذلك بوضوح في مجال التوزيع، لكن الامر مختلف تماما في الفكر الاسلامي فهو ليس بفكر طبقة سائدة تملي على الاخرين ما يحقق مصالحها ولا بفكر طبقة مسحوقة تريد ان تسود. ان المذهب الاقتصادي في الاسلام جزء من رسالة السماء الى الارض انه فصل الحكم العدل بين خلقه لذلك فهو مبرأ من الانحياز والانتمائية.

ومن المقارنات التي يوردها الباحث حول الفارق بين الفكر الاقتصادي الوضعي والاسلامي احتلال الفلسفة النفعية والقيمة الاستهلاكية مكانة مركزية في الفكر الوضعي قديمه وحديثه وليس الامر كذلك في الفكر الاسلامي الذي يضع الامور في نصابها من خلال جملة موازنات بين متطلبات الروح والجسد فيشرع وظيفية الاستهلاك ووسطيته وبين الفرد والمجتمع فيشرع وحدة دالة الرفاهية الاجتماعية ويؤكد الوظيفة الاجتماعية للملكية الخاصة ويدعو الى الاستعلاء على النزعة الاستهلاكية والفكرة النفعية جملة بل انه يعيد تعريف النفعية بحسب منظومته الاعتقادية والقيمية فيدخل فيها البعد الاخروي والبعد الايثاري فمنفعة الانسان الحقيقية كما يفهمها المؤمن ليست بمقدار ما يستهلك بل بمقدار ما ينفع الغير وبمقدار ما يؤثر على نفسه وبمقدار ما يربي نفسه ويزكيها كل ذلك في ظل منظومة الاسلام الاعتقادية والتشريعية والقيمية.

واستخلص الدكتور السبهاني من خلال استعراض الاحكام المختلفة التي تضمنها المذهب الاقتصادي في الاسلام والتي عرضها في القسم الثاني من الكتاب، السمات التي تميز بها الاقتصاد الاسلامي وهي:

انه اقتصاد يميز بين الغايات والوسائل بوضوح تام فالانتاج والفعالية الاقتصادية اجمالا موجهة للاستهلاك لكن ذلك ليس اكثر من وسيلة لادامة الوجود الانساني الفاعل اما غايات هذا الوجود فهي اكبر من مجرد الاستهلاك او مجرد النمو الاقتصادي، ان غايات الوجود الانساني تحددها الاسس الاعتقادية التي يؤمن بها الانسان المكرم، الانسان الخليفة، الانسان الذي يعبد نفسه لخالقه وهي غايات بكل تأكيد ارفع وارحب من مائدة طعامه او خزانة ملابسه.

انه اقتصاد مختلط تتعايش فيه اشكال الملكية الخاصة والعامة معا، توفر الاولى الحافز الخاص للنشاط الاقتصادي وتوفر الثانية وسائل اشباع الحاجات العامة والشروط المادية للعرض العام.

انه اقتصاد يؤكد الوظيفة الاجتماعية للملكية ويستأديها من خلال جملة احكام موضوعية ملزمة.

انه اقتصاد تتعايش فيه اسس حقوقية مختلفة ترعى اعتباري العمارة والعدالة فالعمل والملكية والحاجة كلها اسس معتمدة وبترتيب معين في نظام التوزيع الاسلامي.

انه اقتصاد ينجم عنه تخصيص كفء للموارد بسبب عدالة نظامه التوزيعي ووظيفية ووسطية نمطه الاستهلاكي، زيادة على دور الحكومة في تأمين الرفاهية الاجتماعية ومسؤوليتها عن العرض العام.

انه اقتصاد تقترن فيه الفكاءة الاقتصادية بالعدل التوزيعي لانه يحشد جميع موارد المجتمع للفعالية الاقتصادية ولانه يعتمد نظاما توزيعيا يؤكد الوظيفة الاجتماعية للموارد ويؤكد اقتران عائدها بالعمل او المخاطرة، كما انه يؤكد مبدأية اعادة التوزيع على نحو موسع وحازم.

انه اقتصاد يشترك فيه التوجيه الاخلاقي مع الضوابط الموضوعية في صياغة السلوك الاقتصادي فالفرد تلزمه الدولة موضوعيا بالسلوك المرضي لكنه مندوب لذلك ومأجور عليه من خلال منظمة القيم التي يؤمن بها.

انه اقتصاد ينجم عنه تركيب اجتماعي متجانس بسبب ضوابط توزيع الملكية والثروة والقوة السياسية في ظل المعيارية الجديدة للمكانة الاجتماعية.

ان المذهب الذي يرتكز اليه الاقتصاد الاسلامي مبرأ من النسبية والانحياز الطبقي لانه من لدن الحكم العدل ذي العلم المحيط.

ومن استقراء الفلسفة الاقتصادية في الاسلام يجد الدكتور السبهاني ان البناء التشريعي يؤكد مسؤولية الدولة عن جملة وظائف اقتصادية غير الوظائف السيادية فالامن والدفاع والقضاء وظائف ترتبط على نحو مباشر لكن الاسلام يزيد على ذلك مسؤولية عن اعادة التوزيع ممثلة بقوامة الدولة على تنفيذ نظام الزكاة، كما ان الاسلام يجعل الدولة المسلمة قيمة على الاداء الاقتصادي للمجتمع من خلال رعاية احكام البيوع ومحاربة الربا والبطالة والتضخيم ومسؤولية الدولة عن الضمان المعاشي لرعاياها غير الناشطين.

كما ان الدولة مسؤولة عن تأمين القدر اللازم من العرض العام الذي يفي باشباع الحاجات العامة حيث يحجم القطاع الخاص عن انتاجه او يقصر انتاجه بالقدر الذي تستلزمه الرفاهية سيما في السلع التي لا تخضع لمبدأ الاستثناء، ويؤكد هذا التوجه في الفلسفة الاقتصادية ان الدولة تملك قطاعا عاما واسعا ممثلا بالاستخلاف العام بموضوعاته المتنوعة.

=