د. أحمد الخمليشي يدعو إلى التخلص من ثقافة النقل والحفظ التي أصابت الفكر الإسلامي بالعقم

مفكر مغربي: مرحلة التعليم الأولى تترك أثرا بارزا في أفكار المتعلم وتعامله مع الآخرين مستقبلا

TT

صدر أخيرا في الرباط الجزء الخامس من سلسلة (وجهة نظر) للدكتور أحمد الخمليشي، المدير العام لدار الحديث الحسنية، أكبر المؤسسات التعليمية التي تهتم بالدراسات الإسلامية وتأهيل المختصين في الدراسات العليا في كافة الشعب والتخصصات في المغرب. وتتناول الأجزاء الخمسة العديد من القضايا الفكرية التي تهم العالمين العربي والإسلامي، بيد أن أزمة التعليم والدعوة إلى إصلاحه نالت قصدا مهما في كافة أجزاء سلسلة وجهة نظر. «الشرق الأوسط» التقت الخمليشي في الرباط، وأجرت معه حوارا حول الأفكار التي وردت في مؤلفه، في قضايا إصلاح التعليم عربيا وإسلاميا، حيث أشار إلى أن هناك خللا وجب الوعي به.

* أشرتم في مؤلفكم إلى وجود خلل بين الأهداف والوسائل في النظم التعليمية في الدول الإسلامية. كيف ذلك؟

ـ تمكن ملاحظة الخلل في مجالين اثنين: الأول، راجع إلى القصور في تعميم التعليم حيث لم يتم حتى الآن تعميم التعليم في أي دولة إسلامية وإن تفاوتت نسب الأمية من دولة إلى أخرى. وهذا راجع في اعتقادي إلى التكييف الذي أعطي للتعليم في الفقه الإسلامي، وهو أنه فرض كفاية، أي أنه أمر مرتبط بالأفراد وليس بالمجتمع. هذا ساهم في عدم إيلاء المسألة التعليمية أهمية قصوى منذ القدم وترك أثره إلى يومنا هذا. ولا أقول تقاعست الدول الإسلامية في هذا المجال، ولكن أقول انها تباطأت في مسألة تعميم التعليم، خاصة أننا ندرك أن كل تطور وتقدم لا يمكن أن يتم إلا عبر الاستثمار البشري في التعليم. أما الخلل الثاني، فيكمن في مضمون التعليم المتداول في الدول الإسلامية، فهو ما زال ذا صبغة تقليدية ولا فرق في ذلك بين المدارس العصرية وغير العصرية. وأقصد بالتقليدية، الاهتمام بالكم وتلقين الطالب المعلومات عوض التركيز على التفتح العقلي واستثمار ما يتلقاه بإثارة الأسئلة ومحاولة الجواب عنها. أما التركيز على الحفظ وحشر المعلومات يرسخ هذا في الذهن ثقافة الحفظ والنقل والاستحضار وهي ثقافة أصابت الفكر الإسلامي عامة والفكر الفقهي خاصة بعقم مميت برز في انفصاله عن الواقع وعجز عن توجيه مسيرة المجتمع إلى البناء وتحقيق الأفضل. وإذ أردنا الإصلاح فيجب أن نوجه في المقام الأول إلى مرحلة التكوين الأولى في التعليم لأنها تترك أثرها الواضح في أفكار المتعلم وفي تعامله مع الآخرين مستقبلا.

* ذكرتم في مؤلفكم أن العالم الإسلامي عندما احتك بالغرب وجد نفسه أمام فراغ في التخصصات العلمية وما يتبعها من المعرفة أفقيا وعموديا. ما قصدتم بذلك؟

ـ قصدت أنه باستثناء المرحلة التي تلت التقاء المجتمع الإسلامي بالمعرفة اليونانية وترجمتها، نرى أن المجالات العلمية المخبرية توقفت نهائيا، والأمر كذلك للعلوم الأخرى. ولما تم الاحتكاك مرة أخري مع الغرب في القرن التاسع عشر الميلادي كان العالم الإسلامي في مرحلة فراغ علمي كبير في كافة التخصصات.

* هل ما زال هذا الفراغ العلمي قائما؟ ـ إلى حد ما، فإذا اعتبرنا مجرد معرفة بعض المعلومات المتعلقة بالعلوم، نعم هناك مئات الآلاف في العالم الإسلامي يعلمون شيئا غير قليل عن هذه المجالات من العلوم، ولكن إذا قصدنا بالمعرفة الجديدة والمبتكرة، فإن مساهمتنا لا تكاد تذكر.

* لماذا في مجال البحث العلمي ما زالت الهوة متسعة بين الغرب والعالم الإسلامي. هل ذلك مجرد شح في الإمكانيات أم عدم وعي وإدراك بأهمية البحث العلمي؟

ـ هناك عامل الحاجة بالنسبة للكثير من الدول الإسلامية، ولكن بالمقابل هناك دول أخرى لديها إمكانيات متاحة، وإنما توجيهها نحو البحث العلمي ما زال محدودا جدا. وهذا يرجع إلى المستوى العام للوعي والتصور العام حول المعرفة، فنحن ما زلنا أسرى ثقافة ورثناها، وهي أن الغاية من التعليم هي جمع المعلومات وحفظها في الذاكرة وعرضها عند الحاجة، فهذا التصور لا يولي أهمية للبحث العلمي في البناء الحضاري. ويمكن القول بصورة إجمالية منذ القرن الخامس الهجري توقفت حركة البحث العلمي بالعلوم الدقيقة، وإذا لم نرد أن نأخذ العبرة وننظر من حولنا لن ندرك حقيقة الفائدة التي يحققها البحث العلمي.

* في رأيكم متى تنتهي معاناة الأمة الإسلامية من الخصاص الكبير في المؤهلات الحضارية، خاصة العلمية منها؟ ـ أعتقد أن هناك وسيلتين لذلك: الأولى وهي تعميم المعرفة في التعليم، فبدون ذلك يصعب أن نزاحم الأمم الأخرى المتقدمة. الوسيلة الثانية، وهي الوعي بأهمية المعرفة والبحث العلمي. ولكن إذا بقيت نسب الأمية في العلم الإسلامي بأرقامها الحالية، إضافة إلى الصعوبات الاقتصادية والاجتماعية التي تؤثر في معيشة الناس والحياة السياسية، فمن المستبعد الخروج من هذا المأزق.

* أشرتم في كتابكم (وجهة نظر) الى أن التعليم الديني يتصف بدوره بالانعزال عن أهم فروع المعرفة. كيف ذلك؟ ـ أعتقد أن هذا أمر يدركه الجميع، وهو أن تعليمنا الديني، تعليم مذهبي يقود إلى الجمود ومتمسك بفكرة المجتهد والمقلد. وقد يقول قائل ان غير هذا قد يؤدي إلى الفوضى. ولكن أقول ان الفوضى هي التي نعيشها الآن، لأننا نقول نظريا إن تفسير النصوص في الشريعة يرجع الى المجتهد، ولكننا لا نعترف لأي مجتهد كان. وحتى ولو فرض علينا مجتهد علمه فاعترفنا به، فإننا لا ننساق وراء كل آرائه لأن الناس يختلفون بحكم الطبيعة. فنحن الآن مرغمون في ظل التنظيم والتعايش الاجتماعي على إعادة النظر في وسيلة تفسير وتطبيق الأحكام الشرعية في مجالات المعاملات وان التفسير يمكن أن يقوم به من هو قادر عليه، ويبقى قبول رأيه وعدم قبوله مرتبطا بما يسنده من حجج ومبررات، ولا ينبغي اعتبارها أحكاما شرعية ملزمة لأي شخص كان. وإنما يجب على الأمة أن تكون لديها المؤسسة التي تجمع الآراء كلها ثم تقرر الرأي الذي يجب الأخذ به والذي يمكن أن يعدل أو يلغى، فالمجتمع اليوم لا يمكن أن تنظم مرافقه وعلاقاته بالفتاوى والأحكام الاجتهادية، بل يجب أن ينظم بنصوص آمرة مكتوبة يعلمها الجميع ويخضع لها أفراد المجتمع.

* في خضم الجدل الدائر الآن حول إصلاح المناهج التعليمية في الدول الإسلامية. هناك من يدعو إلى حذف قصص الاغتيالات والحروب والصراعات من التاريخ الإسلامي. ما صحة هذه الدعوة؟

ـ لا أرى أن الوقائع التاريخية مهما يقع فيها من تجاوزات يتم حذفها أو تجاهلها، فالتاريخ لا يطوى، وإنما تؤخذ منه العبر، وإن كنت لست مؤرخا فأعتقد ما وقع من عنف واغتيالات سياسية لدى الأمم الأخرى من كثرتها لا يمكن مقارنته مع ما وقع في الأمة الإسلامية على طول مداها. ولو فرضنا أن هناك أخطاء وقعت، فينبغي أن نأخذ منها العبر. والعصمة كما نعتقد للرسل وحدهم، أما إخفاؤها فهو نوع من الغرور وتزييف التاريخ.

* هناك اتفاق عام في العالم الإسلامي بضرورة إصلاح التعليم. ولكن أيضا هناك رأي يرى أن الدعوة لذلك لا تصب في مصلحة المسلمين واعتبروا الدعوة مجرد تدجين وترويض للعالم الإسلامي. ما صواب هذا الرأي؟ ـ هذا يذكرني بما حدث في المغرب في أواخر القرن التاسع عشر عندما عرض على ملك المغرب آنذاك إدخال خطوط التلغراف والسكة الحديد، فكانت فتاوى بعض الفقهاء أن هذا الأمر يريد به الغرب التدخل في شؤون المسلمين، فرفض العرض بسبب هذه الفتاوى وكانت النتيجة معروفة. ينبغي أن تكون لدينا الصراحة والشجاعة على مراجعة واقعنا وأنفسنا، وعلى فحص أفكارنا لكي نتبين الصالح منها وغير الصالح، وما يحتاج إلى تعديل أو إضافة. فهناك حقيقة لا يمكن إنكارها، وهي أن ما يطالب به الغرب في الوقت الحالي، وخاصة الولايات المتحدة، إنما يدخل ضمن مصالحها. يجب أن نبحث عن الإصلاح الذي ينفعنا ويخرجنا من هذا الوضع الذي جعل الآخرين يسيطرون على أمورنا كيفما أرادوا، فهذا هو المطلوب منا، وأعتقد أن الرأي القائل بأن في ذلك تدجينا وترويضا للمسلمين، فهو رأي عاطفي وسطحي وغير دقيق. والذي ينبغي أن نوجه إليه اهتمامنا هو واقع ومضمون تعليمنا الحالي، إذاك يتبين لنا الخيط الأبيض من الأسود. ولكن الاكتفاء فقط بالرفض كون الآخرين يقولون لنا أصلحوا تعليمكم، هذا لا يبدو سليما وإلا كررنا ما حدث لنا في المغرب في القرن التاسع عشر.