ثورة علماء المسلمين بنت الإصلاح الحضاري الإسلامي في الجزائر

TT

بذل رجال الإصلاح منذ 200 سنة، أضعاف أضعاف ما يعرفه عنهم عامة الناس، وحتى خاصتهم من غير المختصين. ففي الوقت الذي تقدمت فيه مدنية المسيحيين في الغرب الأوروبي، تراجعت العطاءات الحضارية للعرب والمسلمين بشكل لافت للعجب، بل تكرس الإفساد واللهو والترف كمنهج للحكم منذ عصور الانحطاط، ليبعث الله تعالى رجالاً كانوا يعدّون على أصابع اليد الواحدة في كل بلد، كالأفغاني جمال الدين، ومحمد إقبال، ومحمد عبده، وطبعا ابن الجزائر البار مجدد الإسلام في الغرب الأوسط العلامة عبد الحميد بن باديس.. ورغم أن «العطار لا يصلح ما أفسده الدهر»، فقد بذل هؤلاء جهوداً جبارة في سبيل إيقاف الموجة الإفسادية الرهيبة التي اجتاحت كل المستويات غير مكتفية كما يظن البعض، بهدم الإسلام، بل ظل تحطيم القيم والأخلاق وتفكيك المجتمعات العربية والإسلامية طموحها الكبير للانقضاض بسهولة على فريسة لا تملك من مقاومة الاحتلال غير ألسنة قليلة منعزلة.

وهناك ملحوظة لا يأبه بها كثير من زملائي الأساتذة والمؤرخين، على قلتهم وقلة كتاباتهم، تتعلق بمراكز الإشعاع التي أهملها أهلها وحاربها أعداؤها، ثم همّشها أبناؤها بعيد استرجاعهم السيادة ظاهرياً، ذلك أن الأزهر في قاهرة المعز، ظل رغم كل المآسي، قلعة الإصلاح والرباط في المحروسة، حافظاً لأم الدنيا ماء وجهها كقلب حقيقي وحضاري، للعالمين العربي والإسلامي. فيما تخرج من الزيتونة بتونس، والقرويين بالمغرب، علماء ودعاة مغاربيون حاولوا، كل حسب ظروف بلده وقدراته وأهليته ومستوى أهله، الحفاظ على الحد الأدنى من الثقافة الأصيلة والارتباط بالثوابت والمقومات من دون إغفال مركز العالم، بل الكون كله، بكة والمدينة، مصدر شوق المسلمين، وحجهم كل عام. إذ تروي السيَر التاريخية، بقاء الحجاز آنذاك، ملتقى الموحدين من كل أصقاع الدنيا، ومؤتمراً غير رسمي للعلماء والدعاة المقبلين للحج والعمرة أو القاصدين موطن الرسالة الخالدة للدراسة وطلب العلم الشرعي الصافي والحقيقي.. غير أن ما يُؤلم الصدر، ويحدث الصداع المستديم، أن هذه المراكز الآن تعاني الانتقام الرسمي الحكومي، لدول لا يفقه قادتها غير إرضاء الأحقاد اللعينة لكل ما هو عربي إسلامي حضاري أصيل.

أما الجزائر الغالية، الصامدة القائدة الوفية، فقد انبرى عظماؤها الحقيقيون في غير ضوضاء مضلة، ولا تنطّع مخل، لمد الأمة بدم حضاري إسلامي عربي جديد بعد 100 سنة كاملة، من المسخ والفسخ، رحمك الله يا مولود نايت بلقاسم.. وظل ابن باديس الصنهاجي الأمازيغي الأصل من أكبر المدافعين عن لغة أهل الجنة ضد محاولات فرنسا العجوز طمسها وقبرها مع القرآن الكريم نهائياً، تمهيداً لتحويل الجزائر إلى أستراليا ثانية.. وقد أشعل البطل التاريخي ابن باديس، شمعة شجاعة في ليل الاستعمار الدامس المظلم الطويل موقظاً، رفقة ثلة من المجاهدين بالقلم واللسان، خريجي الزيتونة والأزهر والقرويين ومكة والمدينة، همّة الدين والعلم والعروبة في نفوس الأميين من الأهالي المحرومين حتى من المواطنة الفرنسية التي كان ينعم بها شذاذ الآفاق من المعمرين الصعاليك الذين استقدمتهم فرنسا الاستدمارية الغاشمة آنذاك لحكمنا ونهب كل خيراتنا وثرواتنا من دون أي مقابل، ورغم أنوفنا وكل ثوراتنا ونضالنا السياسي السلمي قبيل غزوة نوفمبر المظفرة المباركة خريف 1954.

لم يكن وحده، لكن تواضعه الشديد وعلمه الغزير وحكمته في معاملة الأعداء والخصوم، جمعت حوله، قلوب الجزائريين وعقولهم أيضا، إلى درجة أن الطاعنين ظلما وعدوانا في جمعية العلماء والجاهلين دورها الريادي العظيم في إحياء الأمة الجزائرية من موات أكيد لم يستطيعوا، سواء في العهد الاشتراكي أو الليبرالي، إلغاء احتفاء الحكومة الجزائرية، سنوياً، بذكرى فقدان العزيز الغالي عبد الحميد بن باديس. وأكثر من ذلك، فقد صرح أخيراً في عنابة، أحد رموز وقيادات جمعية العلماء، أنه باستثناء أقلية فرنكوشيوعية تغريبية حاقدة، لم ينطق أي مسؤول سياسي أو حزبي أو إداري، بما يطعن في نظافة الشيخ العلامة ابن باديس، ورجالات الجمعية الأبرار الأطهار.

ورغم انني كمؤرخ أكره تقديس الأشخاص وتأليههم وضرب أسوار من المنع والحظر عن الخوض من دون خلفيات في سيرهم وأخطائهم، إلا أن الحقيقة تقال إن مجدد الإسلام في الجزائر عبد الحميد بن باديس، مهّد الطريق رفقة خيرة علماء ودعاة الأمة، لقيام ثورة المليون ونصف المليون شهيد، التي قادها أبناء المساجد والزوايا القرآنية المناوئة للاستدمار خلافا لتلك البدعة الممولة فرنسياً آنذاك، لتنويم الشعب الغلبان، وإيهامه بأن فرنسا أتى بها الله وسيخرجها بعد كل هذا المكوث رب العزة بقدرته الخارقة لا بقوة الجهاد وتضحيات الرجال.. فالثورة لم تأت من فراغ.

وأخيراً أقول: الثورة بنت الإصلاح الحضاري الإسلامي في الجزائر، ولن يصلح حال وطننا الغالي، كما قلت في المقدمة وأعيدها كخاتمة للإفادة والترسيخ، إلا بعودة الروح للثالوث الذهبي المقدس عند أصحاب الثوابت أحباب الحرية والأصالة والتقدم الحضاري: الجزائر وطننا الغالي العزيز، العربية لغة القرآن وأهل الجنة، وقبل ذلك كله الدين الإسلامي العظيم مصدر قوتنا وحلاّل كل مآسينا ومشاكلنا.

* أستاذ متقاعد في التاريخ