الهيئة السعودية العليا لمساعدة مسلمي البوسنة.. مرحلة متقدمة في العمل الإغاثي

د. ربيع محمد القمر الحاج *

TT

في جمادى الاولى من العام الجاري زرت جمهورية البوسنة والهرسك وشهدت استقبال عاصمتها للأمير سلمان بن عبد العزيز إبان زيارته لافتتاح وتدشين عدد من المشروعات من بينها مركز خادم الحرمين الشريفين في ضاحية علي باشا بالعاصمة البوسنية سراييفو، بعدها سألت ميرزا خيرتش، المستشار السياسي للرئيس البوسني علي عزت بيجوفيتش ما اذا كانت سراييفو قد خرجت من قبل على النحو الذي حدث خلال هذه الزيارة؟ كانت اجابته على النحو التالي:

لقد زار البوسنة عدد كبير من المسؤولين الدوليين ورؤساء الحكومات المختلفة وشهدت معظم تلك الزيارات، لكني لم أر سراييفو تخرج بهذا الكم الهائل وبهذا الرصيد المجيد على النحو الذي حدث إبان زيارة الامير سلمان بن عبد العزيز لبلادنا.

بعدها توجهت بالسؤال ذاته للصديق عبد الباقي خليفة مراسل «الشرق الأوسط» في سراييفو، ذلك خلال افتتاح مشروع مركز ومسجد خادم الحرمين الشريفين فيها، كانت اجابته ان الحضور الذي شهده هذا الافتتاح تجاوز كل التوقعات ولم يقتصر الامر على سكان العاصمة فحسب، بل ان البوسنيين تداعوا من كل حدب وصوب لحضور هذا الافتتاح الذي قدره الاستاذ عبد الباقي بأكثر من 300.000 شخص في حين قدره مراسلو وكالات الانباء العربية المختلفة بأكثر من 200.000 شخص، في حين قدره غيرهم بـ 150.000 على الحد الادنى. وفي رمضان الماضي اعلنت الجهات المسؤولة في مؤسسة الملك فيصل الخيرية عن منح الهيئة العليا جائزة خدمة الاسلام خلال هذا الموسم، لكن ما العلاقة بين الارقام والزيارة التي ذكرت واعلان الجائزة، وفي الواقع ان الجهات المسؤولة في الجائزة لا بد انها قد استندت كما هو معروف الى عدد من المعطيات والعناصر التي جعلت الهيئة العليا تفوز بهذه الجائزة العالمية خلال هذا الموسم، الا انني هنا اود الاشارة الى بعض المعطيات الاخرى التي عايشتها بنفسي ابان افتتاح المشروعات والبرامج المختلفة التي حققتها الهيئة العليا اخيرا لصالح البوسنيين.

وفي الواقع ان الذي شهدناه من حضور لا اقول حكوميا رسميا ولكن شعبي جماهيري قد فاق كل التصورات، وما زلت اذكر مشاهد البوسنيين والبوسنيات وهم يتدافعون لحضور تلك الاحتفالات سواء في سراييفو لافتتاح مشروع مركز وجامع خادم الحرمين الشريفين الذي يحتوي بداخله على عدد من المشروعات المختلفة او مشروع غسيل الكلى بمستشفى سراييفو او مشروع دار الوالدين (قزاز) في العاصمة نفسها او المشروعات الاخرى التي افتتحت مثل مسجد الأمير عبد الله بن عبد العزيز في توزلا، او اكاديمية الامير سلمان بن عبد العزيز في بيهاتش، او جهاز الاشعة المقطعية في مستشفى سانسكي موست، او فرع مركز خادم الحرمين الشريفين في موستار، او المدرسة الاسلامية فيها، وسواها من المشروعات الاخرى. فقد كان الخروج البوسني في هذه المشروعات يدل دلالة عميقة على مدى تأثير تلك المشروعات واهميتها بالنسبة لهؤلاء البوسنيين حكوميين وشعبيين.

وفي الواقع ان هذا الحضور ما كان له ان يتأتى لولا جهود كبيرة بذلت، ولولا عطاء متصل انفق، ولولا خطط وبرامج مدروسة تحققت، وما زلت اذكر جيدا كيف ان المسؤولين البوسنيين كانوا يتفاعلون تفاعلا كبيرا مع افتتاح تلك المشروعات بسبب احساس الجميع ان هذه المشروعات هي ملك لهم وصادفت حاجة ماسة، حتى ان مسؤولي الاغاثة من الدول المختلفة ذكروا لي في حديثهم عن هذه المشروعات ان ما قامت به الهيئة السعودية العليا يمثل بالنسبة للبوسنيين بنى تحتية قوية كما يمثل ملاذات آمنة في مستقبل ايامهم، وقد يظن البعض ان الهيئة العليا قد اتجهت في اعمالها وبرامجها تلك الى مشاريع تقتصر على مجال الدعوة والتعليم، لكن المتابع لأعمال الهيئة العليا يلحظ ان ما انفق في المجالات التنموية الاخرى يتجاوز اضعاف اضعاف ما انفق في المجالات المشار اليها.

فالهيئة العليا قد بذلت جهودا كبيرة في مجال توفير المواد الغذائية التي تجاوزت اعدادها اكثر من 107.000 طن من مختلف المواد امكن ادخالها في ظروف قاسية بالغة الخطورة ابان الحصار الطويل والقصف المستمر للمدن البوسنية في تلك الفترة، فكانت الهيئة العليا اول من دخل تلك المدن المحاصرة بقوافل الاغاثة والغذاء والدعم.

وفي المجال الصحافي وفرت الهيئة العليا كميات كبيرة من الادوية العلاجية المختلفة، كما وفرت اعدادا كبيرة من الاجهزة الطبية لمختلف مستشفيات المدن البوسنية، فضلا عن ذلك فإنها قد قامت بكفالة عدد كبير من الاطباء والكوادر المختلفة في المجال الصحي ودفعت لهم بسخاء حتى يبقوا داخل البوسنة لاداء رسالتهم ودورهم في هذا المجال المهم، بالاضافة الى ذلك فقد نقلت الهيئة العليا اعدادا كبيرة من المرضى البوسنيين ومن معاقي الحرب لتلقي العلاج في مستشفيات السعودية وغيرها من المستشفيات في دول العالم المختلفة. ايضا وفرت الهيئة العليا البذور للمزارعين كما وفرت وسائل التدفئة المختلفة من المازوت والحطب والغاز للمؤسسات البوسنية المختلفة حتى لا تنقطع عن اداء دورها ورسالتها خلال شتاء البلقان الطويل، واوصلت خطوط السكك الحديدية بين بلوتشا وبيزرتش، وعمرت بريتشكو المدينة الاستراتيجية المهمة في مشروع يشبه الاعجاز تماما حتى غدت بريتشكو ذات الموقع الاستراتيجي المهم لهذا المشروع الحيوي الذي نفذته الهيئة العليا بعيدة عن الاستقطاب ومحاوره الخطرة التي كانت تدور حول المدينة قبل تنفيذ المشروع.

ومن الخفة ان ادعي انني يمكن ان احصي المشروعات والبرامج التنموية التي حققتها الهيئة العليا لصالح البوسنيين في هذه العجالة، فالتقارير الدورية التي ظلت تصدرها مكاتب الهيئة العليا قمينة بتبيان هذه الجوانب لمن اراد التثبت او الاطلاع او التوثيق. ومن المجالات المهمة في رأي خدمة الهيئة العليا لقضية البوسنة المجال الاعلامي، فالهيئة العليا عملت على ارسال الوفود الاعلامية المختلفة ابان الحصار والمنع والقنص المستمر لمعظم المدن البوسنية، وحسب علمي ان اكثر من ثمانية وفود اعلامية زارت جمهورية البوسنة والهرسك صححت بالصورة والصوت والقلم كثيرا من المعلومات المغلوطة التي ظلت تروج لها بعض دوائر الاعلام المنحازة للصرب. كما كشفت عن الكثير من الحقائق التي كانت خافية على الامة الاسلامية جمعاء، وقد افادت تلك المعلومات في كثير من الاعمال الصحافية والاغاثية وغيرها، فضلا عن ذلك فإن الهيئة العليا قامت بتأسيس مراكز اعلامية مختلفة ظلت هذه المراكز تصدر باستمرار تقارير دورية غاية في الاهمية وغاية في الدقة والتوثيق، كما ظلت تصدر النداءات والمطبوعات والاصدارات المختلفة التي يتعلق بعضها بتبيان حقائق حول قضية مسلمي البوسنة في حين يتعلق بعضها الآخر ببرامج ومشروعات تنفذها الهيئة العليا لصالح المسؤولين هناك.

واداريا يمكن القول ان الهيئة العليا قد انتقلت بالعمل الاغاثي الى مراحل متقدمة في مجال ادارة العمل الخيري والطوعي والانساني ويلحظ ذلك من خلال الخطاب الذي القاه مدير مكتبها التنفيذي الاستاذ سعود الرشود ابان افتتاح مسجد الامير عبد الله، بتوزلا الذي تضمن بيانات تفصيلية وارقاما مهمة عن مسيرة الهيئة العليا ومنجزاتها التي تحققت، الامر الذي يؤكد دقة عملها وتقدمها في مجال ادارة العمل الاغاثي لتضاف بذلك هذه التجربة الفريدة لسجل العمل الاغاثي الاسلامي بخاصة والانساني بعامة.

ان المسؤولين السعوديين بلا شك قد ادوا رسالتهم في خدمة هذه القضية التي تعتبر بكل المقاييس واحدة من قضايا الامة المعاصرة، الامر الذي جعل رصيدا مجيدا من التهلل والتقدير والحب والاحترام يكنه البوسنيون والمسلمون قاطبة لهؤلاء المسؤولين، وما زلت اذكر كيف ان البوسنيين قد تدفقوا وتدافعوا للدخول الى مسجد الامير عبد الله بن عبد العزيز، في توزلا ابان افتتاحه، ولاعتبارات خاصة طلب منهم البقاء حتى اداء الوفد الرسمي والمسؤولين البوسنيين صلاة الظهر ثم يسمح لهم بالدخول، الا ان الامير سلمان وابناءه قد طلبوا فتح ابواب المسجد على مصراعيه لكل من اراد الدخول، فتدافع البوسنيون من كل ابواب المسجد حتى اكتظ المسجد بالمصلين وخرج الوفد بصعوبة بالغة تعلو وجوههم البشرى والغبطة والسرور. كما اذكر جيدا كيف ان النساء من كبار السن قد انتظرن طويلا في سراييفو وتوزلا لأكثر من ست ساعات حتى يشهدوا هذا الخير ابان افتتاحه، كذلك اذكر قصة المرأة المسنة التي جاءت قبيل الافتتاح لمركز خادم الحرمين الشريفين، في سراييفو وطلبت مقابلة الامير سلمان بن عبد العزيز، ولما سئلت عن سبب ذلك ذكرت انها من اسرة يحفظ اغلب اهلها القرآن الكريم وقد رأت في المنام ان رجلا بصفات معينة يفتتح هذا المسجد المبارك وارادت ان تتأكد من هذه الرؤية لكن الاجراءات والزحام حال دون تحقيق امنيتها، كذلك الفتى البوسني الذي جاء يوم زفافه يطلب علما سعوديا ليزدان به موكب زفافه برتل من السيارت الجميلة الملونة واصر على ذلك، ولما لم يتوفر لدي علم في ذلك الوقت دسست في يده خمسين ماركا المانيا كنت قد اخذتها خلسة من جيب الزميل مبارك البكر مدير المركز الاعلامي بسراييفو، لكن الفتى لم ينصرف حتى احضر له الاخوة في العلاقات العامة علما اخضر تحقيقا لأمنيته.

وفي الواقع فإن الهيئة العليا قد اضحت بحق بالنسبة للبوسنيين ملاذا آمنا بمشروعاتها المختلفة الصحية والاغاثية والتعليمية والتنموية لدرجة ان كل شعب البوسنة والهرسك اصبح يعرف هذه الهيئة ويعرف جهودها التي دخلت الى كل مدينة وقرية وبيت وهذا ما عبر عنه الدكتور ايوب جانيتش رئيس الفيدرالية حين ذكر لبعض اصدقائه مداعبا انه بات يخشى ان يرشح الشيخ ناصر السعيد المشرف الاقليمي على مكاتب الهيئة العليا نفسه لانتخابات الرئاسة البوسنية معبرا عن قلقه باجتياح الشيخ ناصر للانتخابات بفارق كبير!! ومهما يكن في هذه الرواية من طرفة الا انها تعبر بحق عن اقتراب الهيئة العليا واقترانها بهموم وحاجات شعب البوسنة والهرسك في كل الظروف والمحن التي تعرضوا لها. كذلك فإن الهيئة العليا تستحق هذا التكريم لسببين آخرين اولهما انها قد ظلت في البوسنة والهرسك حتى بعد توقيع اتفاقية دايتون واستتباب الامن وانتهاء الحرب لتقوم بأدوار اخرى في الانماء والاعمار في حين انسحب الكثير من المؤسسات الاغاثية الاخرى وهي المرحلة الاهم والاخطر لترمم المؤسسات المختلفة وتساهم في تأسيس البنى التحتية المستقبلية لصالح البوسنيين، وثانيهما انها قد انتهجت منهجا حكيما في التعامل مع المدارس الفكرية المتعددة وطروحاتها المختلفة في البوسنة، حيث لم تتدخل في شؤونها الخاصة فلم تفرض رأيا معينا ولم ترهن دعمها بموقف مطلوب وهذا في نظري يمثل نجاحا كبيرا ودرسا مهما يحتاج اليه العاملون في هذا المجال الحيوي المهم.

واخيرا فلئن احتفل البوسنيون قبل خمس سنوات بمرور اربعمائة وخمسين عاما على تأسيس مدرسة الغازي خسرو بيك التي تعتبر مركز اشعاع حضاريا يشهد للعثمانيين بجهدهم وجهادهم في البلقان، فإن المشروعات السعودية مثل مركز خادم الحرمين الشريفين واكاديمية الامير سلمان في زينتسا ومسجد الامير عبد الله في توزلا والمدرسة الاسلامية في موستار ودار الوالدين للايتام في ضاحية دبرونيا في سراييفو ستبقى مراكز اشعاع حضاري وثقافي تشهد للسعوديين بهذا الدور التاريخي.

* باحث سوداني في العلوم الاجتماعية