المسلمون في البوسنة والهرسك يستذكرون معاني الهجرة بمناسبة قدوم العام الهجري الجديد

TT

استذكر المسلمون في البوسنة والهرسك معاني الهجرة بمناسبة قدوم العام الهجري الجديد، فرحين بهذه المناسبة العزيزة على المسلمين، التي نقلت الرعيل الأول من محطة الاستضعاف إلى مرحلة التمكين في الأرض وإقامة دولة الإسلام، وخصصت خطب الجمعة الماضية في المساجد البوسنية للحديث عن الهجرة في سياقاتها المختلفة التاريخية والسياسية والفلسفية والتربوية والروحية والفدائية والإعجازية.

تحدث أئمة الجمعة عن حجم الاضطهاد الذي تعرض له المسلمون الأوائل على أيدي المشركين، وآيات الصبر والجلد التي أبداها شباب دار الأرقم بن أبي الأرقم في وجه آباء الجهل، وآباء الحطام والأرقام، وآباء الشرك والظلام، فبدوا وهم عزّل إلا من إيمانهم، بحقيقة أحد أقوى من الملأ، لقد كان بلال أقوى من أمية بن خلف، وآل ياسر أقوى من كل قريش، وعثمان بن مظعون أقوى من كل رموز الأدب والثقافة داخل معاقلها في ذلك التاريخ، لأن ذلك لا يمكن أن يخرج عن حقائق الكون، وغايات الوجود الإنساني، فالجد لا يقبل العبث، والنظام لا يقبل الفوضى. فعندما قال شاعرهم «ألا ان كل ما عدا الله باطل»، قال له الناقد المؤمن صدقت، ولما قال «وكل نعيم لا محالة زائل»، قال له «كذبت، نعيم الجنة لا يزول». وهكذا في العقيدة والأدب والثقافة، أحدثت دعوة التوحيد عالماً جديداً يسير في اتجاه متناسق، تناسق الكون البديع، فليس الأدب بمنأى عن معتقدات الإنسان وعلاقة ذلك بمصير المجتمع واتجاهات التفكير الجمعي فيه.

وتحدث الأئمة في مساجد البوسنة والهرسك، عن البعد التربوي في الهجرة، فلو لم تكن هناك هجرة معنوية ما كنا نرى الهجرة الحسية، فالتربية الروحية جعلت ما عند الله افضل من المال والمتاع، لذلك لما جاء نداء الهجرة، لبّى المسلمون ذلك النداء وخرجوا لا يحملون معهم سوى ثيابهم التي يلبسونها، وهذه دالة على عظمة روحية لا يلقاها إلا الذين صبروا ولا يلقاها إلا ذو حظ عظيم، وبلا شك فقد كان الرعيل الأول ذا حظ عظيم، حظ الصحبة مع خير من مشى على وجه الارض، وحظ حمل لواء الدعوة والذود عن حياض هذا الدين العظيم. وتطرق الأئمة للبعد الفدائي في الهجرة، فقد اتفقت قريش على قتل النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى أن يتفرق دمه بين القبائل، فلا يستطيع بنو عبد المطلب قتال قريش كلها فيقبلون بالفدية، وقد اجتمع فتيان قريش واحاطوا ببيت رسول اللّه، واستهمّوا على قتله، فخرج من بينهم وهو يتلو الآيات الأولى من سورة ياسين، وحثّ في وجوههم التراب، وترك علي بن أبي طالب نائماً في فراشه، حتى إذا جاء موعد الهجوم وانطلق فتيان قريش في اتجاه فراش رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ورفعوا الغطاء ليغمدوا سيوفهم في جسد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، لم يجدوا النبي صلى اللّه عليه وسلم، إنما وجدوا علياً بن أبي طالب رضي اللّه عنه، فأسقط في أيديهم. وهكذا قدم شاب من شباب الدعوة المظفرة نفسه فداء للرسول الكريم صلى اللّه عليه وسلم، وذلك شرف. لا شك أن شباب الدعوة في ذلك التاريخ كانوا يتمنون لو أنهم هم الذين نالوه. وتعطينا الطريقة التي هاجر بها عمر بن الخطاب، صورة أخرى من صور الفداء والفتوة، حيث انه الوحيد الذي لم يهاجر سراً بل ومتحدياً «من أراد أن تثكله أمه أو يفقده أبوه فليلحقني خلف هذا الواد». ودرس آخر من الدروس المستفادة من عظمة الهجرة ساقه الأئمة في البوسنة، وهو حرص النبي صلى اللّه عليه وسلم على ردّ الأمانات إلى أهلها، حتى ان كانوا كفاراً، فقد أبقى علياً بمكة ليرد الأمانات إلى أهلها، حيث كان المشركون يثقون في أمانة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فيدعون ممتلكاتهم عنده بدون الخشية من ضياعها، حيث لم تبلغ بهم هذه الثقة درجة الإيمان بالرسالة التي بعث بها وتلك مقاربة جديرة بالتدبر «فإنها لا تعمي الأبصار ولكن تعمي القلوب التي في الصدور»، فقد سبق أن قال لهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم «أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا وراء هذا الجبل تريد أن تغير عليكم اتصدقونني» قالوا «لم نجرّب عليك كذباً» فقال «إني نذير لكم بين يدي عذاب أليم». وتطرق الأئمة إلى البعد الإعجازي في الهجرة، فقد جعلت قريش مائة من الإبل لمن يقتفي آثار رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ولم يستطع أن يرى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سوى سراقة بن مالك الذي عثرت به فرسه عدة مرات وغاصت قدماها في الرمال، فآمن ووعده رسول اللّه بسواري كسرى (وهو مهاجر مطارد)، وقد تحققت النبوة في عهد عمر بن الخطاب، حيث لبس سراقة سواري كسرى ملك الفرس آنذاك. فكانت المعجزة الثانية في الهجرة بعد خروج النبي بين فتيان قريش وهم لا يبصرون، بعد أن حثا التراب على رؤوسهم. وتحدث الأئمة عن مركزية المسجد في المنظومة الإسلامية، حيث كان بناء مسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، أول عمل قام به النبي صلى اللّه عليه وسلم بعد وصوله للمدينة المنورة. ولم تكن مأساة المسلمين في البوسنة والهرسك غائبة عن الدروس المستفادة من ذكرى الهجرة النبوية الشريفة في عامها الـ 1422، حيث دعا الأئمة إلى العناية بالمهجرين وأن تكون هناك مؤاخاة حقيقية بين المهجرين واخوانهم في المناطق التي هاجروا إليها، كما كان بين المهاجرين والأنصار الأوائل. وقد أطنب الأئمة في الحديث عن صور المؤاخاة في المدينة، حيث تقاسم المهاجرون والأنصار كل شيء، المال والأرض، حتى أن بعضهم همّ بتطليق إحدى زوجاته ليتزوجها أخوه في العقيدة، تلك الهجرة التي نقلت ذلك الرعيل من حالة الاستضعاف إلى حياة التمكين وإقامة الدولة الإسلامية وبدء مسيرة الفتح والدعوة وانتشار الإسلام في الأرض وليهزم في أقل من مائة عام أكبر امبراطوريتين عرفهما التاريخ، ويزحف في اتجاه أوروبا ويرابط في الأندلس ثمانية قرون. ولولا تراجع المدّ الإيماني لدى ملوك الطوائف في الأندلس، لكانت أوروبا ومعظم دول العالم المعاصر دولا مسلمة، ومع ذلك لا يزال الإسلام ببعده العقائدي والعبادي وأفقه الفلسفي، قادراً على اجتذاب الملايين لو وجد من يحسن فهمه والامتثال له والإخلاص ومن ثم الدعوة إليه.

تلك كانت خلاصة ما قاله الأئمة في البوسنة والهرسك في ذكرى الهجرة، تلك الذكرى العزيزة، حيث «لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية»، و«المسلم مَن سلم المسلمون من يده ولسانه، والمهاجر من هاجر الخطايا والذنوب» كما قال صاحب الهجرة صلى اللّه عليه وآله وسلم.