حجية السنة ومصدريتها في القرآن .. ويستحيل فهمه بدونها

زين العابدين الركابي

TT

من (نبوءات) النبي صلى الله عليه وسلم الدالة على صدقه ونبوته: قوله: «ألا وإني قد أوتيت الكتاب ومثله معه ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه، ألا يحل لكم الحمار الأهلي، ولا كل ذي ناب من السباع، ولا لقطة معاهد إلا أن يستغني عنها صاحبها...« وقوله: «لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول: ما وجدناه في كتاب الله اتبعناه». أشهد أن محمداً رسول لله.

يوم الخميس الماضي قرأت كلاماً لنهرو طنطاوي جاء فيه: «إني أرشد المسلمين الى المصدر الوحيد للتشريع في دينهم ألا وهو القرآن. فقد أدخل على الدين مصادر عديدة للتشريع زيادة على المصدر الوحيد، ومن هذه المصادر ما يسمى بالسنة والاجماع والقياس والاستنباط والاجتهاد ورأي الصحابة وغيرها من المصادر، وكل هذه المصادر ما أنزل الله بها من سلطان، وانما هي من صنع الفقهاء والمجتهدين»..

وهذه دعوى عريضة جريئة لا برهان عليها، بل البرهان قائم على بطلانها: أولاً: حجية السنة ومصدريتها من القرآن (نختار براهين عشرة فحسب في هذا المختصر).

1ـ وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا» (الحشر ـ 7).

2ـ «وما كان لمؤمن ولا مؤمنة اذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا». (الأحزاب ـ 36).

3 ـ «فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما» (النساء ـ 65).

4ـ «يا أيها الذين أمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم» (الأنفال ـ 24).

5ـ «قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم. قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين» (آل عمران 31 ـ 32).

6ـ «لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا» (الأحزاب ـ 21).

7 ـ «يا أيها الذين أمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله ان الله سميع عليم». (الحجرات ـ1).

8ـ «يا أيها الذين أمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون. ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون» (الأنفال 20 ـ 21).

9 ـ «فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم« (النور ـ 63).

10ـ «وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون« (النحل ـ 44).

ثانياً: ان السنة هي (بيان) القرآن: بقول النبي وفعله. ان المهمتين الكبريين للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هما: 1ـ تبليغ الرسالة: «يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته».

2ـ المهمة الأخرى الكبرى هي: بيان الرسالة وتفهيمها الناس بالقول والفعل والسلوك: «وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون».. ومن هنا، فإن إنكار السنة لا يزال يستعلي حتى ينتحل صفة من صفات الله الذي من حقه وحده: النسخ والالغاء لسنة (تبيين القرآن). وهو جل شأنه لم يفعل لأن حكمته اقتضت أن يبتعث نبيا يبين للناس ما نزل إليهم، وهي حكمة مطردة غير مؤقتة ولا عارضة.

ثالثا: يستحيل أن يفهم القرآن كما ينبغي، على الوجه الذي أراده الله: بدون سنة. ولننظر ونعقل. فنفقه: 1ـ في القرآن: «وأقيموا الصلاة».. والأمر للوجوب، ولكن كيف نصلي؟.. ليس في القرآن: عدد الأوقات، ولا تحديد أزمانها، ولا عدد ركعات الصلوات وسجداتها، ولا الدخول فيها بتكبيرة الاحرام والخروج منها بالسلام.. وليس في القرآن: ان المغرب ثلاث ركعات، وليس فيه كيفية اداء الصلاة في حالات الأعذار.. وإنما السنة هي التي بينت ذلك وفصلته، ولذلك قال النبي: «صلوا كما رأيتموني أصلي».

2ـ وفي القرآن: «فتيمموا صعيداً طيبا».. ولم يبين القرآن كيفية التيمم.. وحين نزلت هذه الآية فهمها بعض الصحابة بطريقته فتمرغ في التراب. وعندئذ بين النبي ـ بالسنة ـ: كيفية التيمم المشروعة المعتمدة لدى المسلمين.

3ـ وفي القرآن: «وأتموا الحج والعمرة لله».. وظاهر الآية وجوب الاتمام. ولكن ما المراد بالاتمام؟ هل هو ما كان يفعله العرب في الجاهلية؟.. أو هو صورة أخرى بينتها السنة؟.. بل هو صورة أخرى بينها الرسول بالقول وبالفعل، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «خذوا عني مناسككم».. وفي السياق نفسه، نقرأ في القرآن: «ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا». والنص مطلق، بمعنى لا يفهم منه عدد مرات الحج المفروض، فجاءت السنة فبينت أن حج الفريضة: مرة واحدة في العمر.

4ـ وفي القرآن: «إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين أمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما».. وليس في الآية: ما يحدد (معنى) هذه الصلاة، ولا (صيغتها)، فجاءت السنة فبينت ذلك في نص معلوم متلقى من فيه صلى الله عليه وآله وسلم.

5ـ وفي القرآن: وصف جامع لكمالات النبي: «وإنك لعلى خلق عظيم».. والسنة القولية والفعلية والسلوكية هي التي نقلت إلينا هذا الخلق النبوي العظيم في السلم والحرب، ومع الأهل والأولاد والأحفاد والاصحاب وجميع الناس وسائر المخلوقات.

6ـ وفي القرآن: «وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله».. وكلمات الجهاد في القرآن عامة، فجاءت السنة فبينت مفهوم الجهاد الحق وشرطت له شروطاً منها: ان يكون خلف إمام أو حاكم، وألا يكون علوا في الأرض ولا فسادا ولا عدوانا، وأن يقيد بذات الأخلاق التي بينها الرسول وطبقها.. والتاريخ الاسلامي يشهد: انه ما ترك قوم السنة النبوية في الجهاد إلا ضلوا ضلالاً بعيدا، وأفسدوا في الأرض إفسادا عظيما.

ـ وفي القرآن: «فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم».. والسنة هي التي بينت صفات المخالفين عن امر الرسول، وبينت مواقفهم حيث انبأتنا بأن منهم أقواما سيدعون إلى هجر السنة بدعوى الاكتفاء بالقرآن.

قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول: ما وجدناه في كتاب الله اتبعناه».

رابعاً: تلاوة القرآن نفسها لا تكون إلا وفق السنة.. كيف تلقى النبي القرآن من جبريل؟.. سؤال لا جواب عنه ـ قط ـ إلا من سنة النبي أو حديثه. ولقد أخبر النبي ان جبريل كان يعلّمه تلاوة القرآن، وكان يدارسه ما نزل من القرآن في كل رمضان حتى إذا كان الرمضان الأخير في حياة النبي: دَارَسَه القرآن مرتين. خامساً: حجية السنة بأدلة من السنة ذاتها:

1ـ قال النبي: «قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يرجع عنها بعدي إلا هالك ومن يعش منكم فسيرى اختلافا كثيراً فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضَّوا عليها بالنواجذ».

2ـ وقال: «فأحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد».

3ـ وقال: «من رغب عن سنتي فليس مني».

4ـ وقال: «إن الأمانة نزلت من السماء في جذر قلوب الرجال، ونزل القرآن، فقرأوا القرآن، وعلموا السنة».

5ـ وهو يودع أمته في حجة الوداع، وصاها عليه الصلاة والسلام بالاستمساك بالكتاب والسنة معا فقال: «تركت فيكم ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي: كتاب الله وسنتي».. ومفهوم المخالفة هو: ان من ترك الكتاب والسنة أو ترك أحدهما، فقد ضل.

6ـ ان اعظم مصادر التشريع: ما يتعلق بالحلال والحرام.. ولقد استقلت السنة بالتشريع في هذا المجال. فحرمت نكاح المرأة على عمتها وخالتها.

وبقيت مسائل ثلاث أثيرت حولها شبهات أيضا.

1ـ المسألة الأولى: الاستخفاف بـ(الاجماع) وانكاره وخلاصة برهان الذي ينقض الباطل في هذه المسألة هو: ان الاجماع ليس فكرة ظنية بلا برهان. فهناك براهين عديدة على الاجماع نصطفي منها واحدا هو من اقواها واظهرها وهو قول الله تعالى: «ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا». فاتباع غير سبيل المؤمنين هو: انكار الاجماع من جهة، ومخالفة الاجماع من جهة أخرى.. والنص القرآني تنامى في التناغم والتكامل بالربط الدلالي والمنهجي بين مشاقة الرسول وانكار الاجماع.

والاجماع ليس مجرد مسألة علمية بل هو ـ كذلك ـ (اجماع تطبيقي). واعظم صوره: اجماع الصحابة على جمع القرآن الكريم في عهد الصديق أبي بكر رضي الله عنهم أجمعين.

2 ـ المسألة الثانية: محاولة النيل من مكانة عمر بن الخطاب ومقامه كالقول: «ان عمر ليس بمشرع وقوله وفعله ليس حجة». وهذه دعوى تبطلها الأدلة التالية:

أ) ان النبي جعل سنة الخلفاء الراشدين: مصدر تشريع وهدى فقال: «فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ». وهذا نص نبوي عام في اعتبار سنة الخلفاء الراشدين (مصدر تشريع). وهناك خصائص خاصة بعمر بن الخطاب في هذا المقام منها: شهادة النبي لعمر: بحظوظ وافية من اعلى المقامات والمواهب.

ب) فقد قال النبي: «ان الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه».

ج) وقال: «لو كان بعدي نبي لكان عمر بن الخطاب».

د) وقال: «فلم أر عبقريا من الناس يَفْري فَرْيَه». تقول العرب: فلان يفري الفري: إذا اجاد العمل واتقنه وتسامى به في معارج الاحسان ومقاماته.

3 ـ المسألة الثالثة: اهدار القياس واسقاط قيمته وجدواه العقلية والمنهجية والفقهية.. وهذا اتجاه موغل في الغرابة المذهلة: أ) ان الأمة ترسف في اغلال التخلف الفكري والفقهي. ولن تتحرر من هذه الاغلال الا باجتهاد علمي صحيح واسع خصيب طموح جد طموح.

ب) ولا اجتهاد بلا قياس. فإذا ألغي القياس او عطل: اقفل باب الاجتهاد. فالقياس حاجة قائمة، بل ضرورة مطردة سواء عرّف بأنه (التقدير وهو قصد تقدير أحد الأمرين بالآخر) أو عرّف بأنه (المساواة او المماثلة الحسية أو المعنوية).

ج) إن النبي نفسه استعمل القياس. فقد سألته المرأة الخثعمية فقالت يا رسول الله ان أبي ادركته فريضة الحج شيخا زمِناً لا يستطيع ان يحج، إن حججت أينفعه ذلك؟ قال النبي: «أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أكان ينفعه ذلك؟» قالت، نعم. قال «فدين الله أحق بالقضاء».

د) اتفق الصحابة على كثير من الأحكام بطريق القياس.. وهذا مثال واحد فحسب. فقد أقروا صيد ما عدا الكلب من الجوارح قياسا على الكلب المستفاد من قول الله تعالى: «وما علمتم من الجوارح مكلبين».

فكيف يعقل ويهضم: تعطيل واحدة من اهم وأبقى وأنفع ادوات الاجتهاد في عصر يستحيل ان ينهض فيه المسلمون نهضة اصيلة جادة عقلانية مهتدية بالاسلام». يستحيل ان ينهضوا هذه النهضة المطلوبة بدون اجتهاد يستصحب القياس ويرتفقه ويتفنن فيه؟!. وتمام الكلم: نقطة نحسبها مهمة وهي: أن معظم الفتن الفكرية والدموية في تاريخ المسلمين وقعت بسبب تأويل منحرف للقرآن: علته (الانفصال) عن السنة في فهم القرآن.. وهذا تصديق موضوعي وتاريخي وواقعي لقول الله جل ثناؤه: «فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم».