باحث مصري: لا تظلموا «مفهوم أهل الذمة».. ولا تحمِّلوه ما لا يحتمل

المواطنة معتبرة شريطة ألا تناقض ما جاءت به الشريعة والأقباط مواطنون لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم

TT

يثار مفهوم «أهل الذمة»، بين الحين والآخر، سواء كان من جانب النصارى في مصر وغيرها، أو من جانب المعترضين على الفكر الإسلامي، الداعي أن تكون الشريعة حاكمة لحياة الناس، أو أن يكون للدين دور سياسي في المجتمعات البشرية، أو غير هؤلاء جميعا.

ومن أهم الاعتراضات على مفهوم الذمة أنه يوحي بنقص النصارى عن المسلمين في الوطن الواحد، وأن هذا يتنافى مع مفهوم «المواطنة»، وما يتبع ذلك من تفاعلات اجتماعية وغيرها في مفهوم الدولة المدنية الحديثة.

وأحسب أن العلة في ذلك اعتبار مفهوم «أهل الذمة» مفهوما سياسيا، ولكن المتتبع لدلالات المفهوم في النصوص الشرعية يرى أنه مفهوم اجتماعي، وأن قيام الفرد المسلم بواجب النصرة لأهل الكتاب أمر يحتمه عليه الشرع، كما يحتمه عليه تجاه إخوانه المسلمين، فيتساوى في نظره المسلم والكتابي من حيث النصرة كأهم دعائم التفاعل الاجتماعي في الوطن الواحد.

وفي نظري أن العلة في الوصاية هي خشية أن ينظر للكتابي على أنه مخالف للعقيدة، وأن يشيع في المسلمين السعي للاعتداء والعداء المحكم لأهل الكتاب لتلك المخالفة العقدية، والشرك من ادعاء أن عيسى ابن الله، ومن شربهم الخمر وأكلهم لحم الخنزير وغيرها مما هو محرم في الإسلام، فجاءت الوصية بهم، وأن يتركوا يمارسون شعائرهم في مجتمع يغلب عليه المسلمون، فلا تكون الغلبة دافعا للاعتداء أو العداء، بل تكون دافعا للنصرة والحماية.

ولمعرفة طبيعة مفهوم «الذمة» يجب النظر إلى دلالات النصوص الواردة، فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «من آذى ذمياً فأنا خصمه يوم القيامة». إن الحديث هنا يفهم منه حديث النبي صلى الله عليه وسلم بوصف النبوة، وليس بوصف الحكم والقضاء، ويدل عليه أولا:

1ـ دلالة المخاصمة، والخصام يدل على شكل اجتماعي، وليس كحكم أو قضاء.

2ـ أن المخاصمة تكون يوم القيامة، ومن المعلوم أنه لو كان بوصف القضاء أو الحكم هنا لترتب عليها تجريم دنيوي، وإن لم يكن هذا الحديث مانعا من التجريم، لكان دلالة التأثيم الأخروي أقوى، وأضبط لسلوك المجتمع المسلم.

3ـ أن دلالة الذمة ليست مرتبطة بالمسلم ذاته، ولكنها ذمة الله ورسوله كما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من آذى ذمياً فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله»، وهي أقوى من أن يقول: اجعلوا أهل الكتاب في ذمتكم، لأنه ساعتها قد يفهم منه ما يشبه الوصاية، ولكن المسلمين حين ينصرون أهل الكتاب فهم يطبقون ما جعله الرسول صلى الله عليه وسلم في حقه هو، وهو نبي الرحمة الإنسانية.

كما يؤيد ذلك أيضا الحديث الآخر: «استوصوا بأهل مصر ـ وفي رواية بأقباط مصر ـ خيراً فإن لهم عهداً وذمة»، فالتعبير بالعهد يعطي إحياء بوجوب الوفاء، أو أن الرسول صلى الله عليه وسلم يأخذ من المسلمين عهدا أن يحفظوا عهد أهل الكتاب بالحماية والنصرة التي يقوم بها المسلم الفرد قبل الجماعة.

اعتراضات على مفهوم أهل الذمة:

وقد طرحت بعض الإشكالات في مفهوم أهل الذمة، من ذلك:

1ـ أنه مفهوم تاريخي، فلا قيمة له الآن 2ـ أنه ينافي مفهوم المواطنة 3ـ الدعوة لترك المصطلح أما عن كون مفهوم الذمة مفهوما تاريخيا وانتهى، فليس بصحيح، وذلك أن المصطلح وارد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم «لهم عهد وذمة»، كما أن ما يتبعه من واجبات على المسلم تجاه أهل الكتاب لا تسقط بالتاريخ، لأن توابع مفهوم الذمة دين باق، وليس من باب السياسة الشرعية. أما عن أنه ينافي مفهوم المواطنة، فليس بمسلم به، لأن قراءة العلاقة بين المسلمين وغيرهم داخل الدولة لا يمكن اعتبارها بنص، هو أقرب إلى النص الاجتماعي، لا النص السياسي، وأن المواطنة معتبرة، شريطة ألا تناقض ما جاءت به الشريعة، واعتبار «الأقباط» مواطنين، لهم ما للجماعة المسلمة، وعليهم ما عليهم كلام متفق عليه، وبالتالي، فلا يكون مفهوم الذمة مناقضا للمواطنة الحديثة، وذلك أن المواطنة لها أبعاد متعددة، ويجتر منها البعد السياسي، فلا يمكن سحب البعد السياسي على البعد الاجتماعي، وأن نفرق بين ما تقوم به الدولة، وما تقوم به الأمة.

أن الدعوة لترك مصطلح «أهل الذمة» يتوقف على أمرين:

الأول: فهم المصطلح حتى تدرك دلالاته القريبة والبعيدة، ثم بعد ذلك، ينظر قبوله أم رفضه، ولا مشكلة في أن يترك إن كان هذا مما يؤذي أقباط مصر والنصارى بشكل عام، أو أن يستعمل فيما يوجه للمسلمين من عدم احترامهم لأهل الكتاب في أحقاب تاريخية، فنأتي بالمصطلح وتطبيقاته التاريخية، بما فيها من خطأ أو صواب.

الثاني: أن العبرة هي تطبيق المضمون دون النظر إلى الألفاظ، وكما قال الفقهاء: العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني.

ومن الأمور التي تجتر في مثل هذا المقام الربط بين مفهوم «أهل الذمة»، و«الجزية»، فليس بينهما تلازم، وذلك أن الجزية ضريبة وطنية، ارتبطت بظرف سياسي، فلما زال الظرف، زال الحكم، وقد أسقط الصحابة رضوان الله عنهم «الجزية» منذ بدايات الإسلام عام 20 من الهجرة، وما بعدها، وذلك ليس إلغاء لها، ولكن تطبيقا لعلتها التي تناط بها، من أن يبقى أهل الكتاب في بيوتهم لا يشتركون في الدفاع عن الوطن، فتؤخذ منهم الجزية لأجل حمايتهم، أما وقد حققوا مدلولات المواطنة، واعتبروا أنفسهم مواطنين في البلد الواحد، فلا عبرة للجزية، لا شرعا ولا عرفا ولا قانونا، وكأنه اختيار لهم.

وإذا كان المسلمون يدفعون الزكاة والصدقات، وهي ضريبة دائمة، فإن أهل الكتاب كانوا يدفعون ضريبة مؤقتة، تسقط باشتراكهم.

ولكن تبقى الضرائب التي يدفعها الجميع مما يقرره الحاكم في الدولة الإسلامية بناء على مفهوم المواطنة الذي يجعل الجميع تحت قبة واحدة.

ومن الضروري الالتفات إلى أن الإسلام يساوي بين الناس في أمور الدنيا، أما في أمور الدين والآخرة، فلا يمكن المساواة، لأنهم مختلفون، فكل من الفريقين يؤمن بعدم صحة الآخر، فتبقى حقوق الوطن وواجباته تجمع بين الجميع، ولا تستغلُ الكثرةُ القلةَ في أن يفرضوا عليهم شيئا يضيِّق عليهم ما له علاقة بالدنيا من منظور الدين.

وهذه خلاصة لمفهوم الذمة، أن تكون هناك مساواة دنيوية، أما الدين، فالحرية مكفولة، والله تعالى هو الذي يحاسب الجميع.

* باحث مصري ودكتور في الشريعة بكلية دار العلوم