د. أنس كاريتش الأكاديمي البوسني لـ«الشرق الأوسط»: الصرب يثيرون الكراهية ضد المسلمين في البلقان

TT

الدكتور أنس كاريتش من خريجي جامعة الاستشراق ببلغراد، وهو بهذه الصفة وصفات أكاديمية أخرى خير من يحلل الوضع الثقافي، والصراع الأثني والتحولات السياسية في منطقة البلقان. ومن هذا المنطلق كان لـ «الشرق الأوسط» هذا الحوار الشامل الذي يلقي الضوء على دهاليز البلقان السياسية والثقافية والاثنية التي لا تزال خافية على السياسيين والصحافيين والمراقبين للشأن العام بالبلقان، مما أوقعهم في أخطاء إجرائية واستقرائية وتحليلية قاتلة.

«الشرق الأوسط» تحاول أن ترفع تلك الالتباسات من خلال هذا الحوار مع الموسوعي البوسني الدكتور أنس كاريتش أحد أعمدة جامعة سراييفو.

* في مقال له نشر عن دور المستشرقين الصرب في اعداد الرأي اليوغوسلافي للحرب التي دارت على أرض البوسنة والهرسك (1990ـ1995) يؤكد «نورمان سيغار» أن المسلمين بجمهورية البوسنة والهرسك (اليوغوسلافية سابقاً) هم بالفعل ضحية ما يمكن تسميته بكل المعايير القانونية والأخلاقية بعقلية الابادة! وفي قلب هذه المأساة تقف الآيديولوجية القومية الصربية المتعصبة، صارخة، مستلهمة الاستشراق بمعناه العريض وفي اطار المفهوم الشامل، للاستشراق كتجسيد عدواني صارخ لعملية اتسمت بتقييم ما نوي إلى «هم» و«نحن»، حسب دراسة قام بها ادوارد سعيد في كتابه الرائد عن هذه الظاهرة، وهو الاستشراق كيف تنظرون للأسس النظرية التي قامت على اساسها جرائم الحرب؟

ـ منذ السبعينات من القرن العشرين بذلت الأكاديمية الصربية للعلوم والفنون والمستشرقون الصرب جهوداً كبيرة في مشروع إقامة ما يسمى (بصربيا الكبرى)، لقد بذلوا كل ما في طاقاتهم ليثبتوا المغالطة التي تقول ان (المسلمين في البلقان هم الجزء المتخلف من السكان وهم بقايا الإمبراطورية العثمانية ولا يمكنهم الامتزاج بأوروبا). (المسلمون في البلقان أصوليون إسلاميون وبين الأصولية والإرهاب خطوة واحدة فقط). (الدور الرئيسي في الدفاع عن أوروبا ضد ما يسمى بخطر المسلمين يقع على الصرب). وقد أيدت السلطات الصربية واليوغوسلافية هذا الموقف للأكاديمية الصربية للعلوم والفنون والمستشرقين الصرب واليوغوسلاف أو بالأحرى كان التأييد متبادلاً ومن الجانبين. وبهذا وجدت الصلة بين (الثقافة) والسلطة في يوغوسلافيا.

* يقول نورمان سيغار المستشرقون الصرب استغلوا واستخدموا في مختلف الأماكن والأوقات، ليفسروا ويؤيدوا السياسة الرسمية الصربية تجاه المسلمين هل تؤيدون ذلك؟

ـ عن هذه الظاهرة قال ستيوارت شار استخدم الاستشراق لتبرير «التطهير العرقي»، كما جرت العادة على تسمية عملية الإبادة في البوسنة والهرسك، في وسائل الاعلام العالمية.

* منذ متى بدأ ما يمكن أن نسمية بالاستشراق الصربي؟

ـ هنالك رأي بأنه لا يوجد استشراق صربي بالمعنى العلمي، لأن المستشرقين الصرب، مقارنة بالمستشرقين الألمان والإنجليز والفرنسيين، لم يفعلوا الا القليل جداً في ترجمة المؤلفات الكلاسيكية العربية والفارسية والتركية إلى اللغة الصربية. ويقول نورمان سيغار محقاً: «ان المستشرقين الصرب عادة لا يرغبون في اجتذاب اكثر من انتباه عابر نحوهم. فعلمهم ضئيل، وعددهم كإنجازهم قليل. غير أن ما يضفي عليهم أهمية هو علاقتهم وموقفهم من السياسة تجاه مسلمي البوسنة والهرسك، فقد كانوا في الجبهة الامامية للحركة المعادية لوجود المسلمين منذ سنة 1980 وساهموا بقدر كبير في إبادة المسلمين من خلال ايجاد هذه العملية وجعلها مقبولة وسط جميع قطاعات المجتمع الصربي».

* قلت ان المستشرقين الصرب في مخاطباتهم للعامة وللعالم من خلال المقابلات الصحافية أو المقالات، يثيرون الكراهية ضد المسلمين في البلقان. وكان مسلمو البوسنة والهرسك في صلب هدفاً معادياً في كتابات المستشرقين الصرب، كما كتبوا ايضاً عن المسلمين في بقية انحاء يوغوسلافيا السابقة التي يعيش فيها عدد كبير من السكان المسلمين، مثل كوسوفو والسنجق وصربيا نفسها، هل يمكن أن تميز بين طبقات المستشرقين الصرب؟

ـ من بين جميع المستشرقين الصرب ينفرد، بحملته المعادية للمسلمين داركو تاناسكوفيتش، الاستاذ بكلية اللغات بجامعة بلغراد، وهو من الاساتذة الذين يحتلون مكانة عالية في بلغراد، وهو ابن جنرال في الجيش اليوغوسلافي الشيوعي وكان سفيراً ليوغوسلافيا في تركيا، وله أيضاً بعض المؤلفات مثل ترجمة (كتاب الاعتبار) لاسامة بن منقذ. لكن داركو تاناسكوفيتش لم يتحسس طريقه جيداً في السياسة. فكتاباته وتصريحاته العلنية وخاصة إبان عدوان الجيش الصربي على سلوفينيا وكرواتيا والبوسنة والهرسك، كانت دوماً على ارتباط وثيق عملياً بالأهداف السيكولوجية العسكرية والأهداف السياسية، ولم تكن لها أية صلة بالعلم. وحتى قبل حرب 1990ـ1995، كان داركو تاناسكوفيتش معروفاً بأنه مستشرق صربي متطرف. وهو كاتب مقال بعنوان «بين القرآن والقدر» ـ بالإنجليزية بمجلة «نين» بتاريخ 25 يونيو (حزيران) 1989، الذي اعترض فيه على حق الجنود المسلمين بالجيش اليوغوسلافي في أن يكون غذاؤهم متمشياً مع أحكام الشرع. فقد وصف كل تلك المطالب بأن يكون للمسلمين غذاء خاص في الجيش اليوغوسلافي، ببساطة بأنها أصولية اسلامية. وقد برر المستشرق تاناسكوفيتش وشجع في العديد من المقالات والمقابلات الصحافية التي نشرها، حملة الجيش الصربي والسياسة الصربية في سلوفينيا وكرواتيا والبوسنة والهرسك. ففي المقابلة التي اجرتها معه مجلة «الجيش» ـ المجلة الرسمية للجيش اليوغوسلافي «نين» بتاريخ 23 سبتمبر (أيلول) 1993 تحدث داركو تاناسكوفيتش بوضوح شديد عن المسلمين في البلقان. وطرح كل نظرياته تحت تصنيف «نحن» و«هم». ولفظ «هم» هذا يعني مسلمي البلقان الذين يؤكد تاناسكوفيتش انهم بتناسلهم ومعدل توالدهم سيغمرون الجهاد الديمغرافي تلك هي كلمات داركو تاناسكوفيتش، يوجهها لأوروبا ويطالبها أن تقبل بدورها بالبرنامج القومي الصربي الذي يهدف للتطهير العرقي في البلقان، لأن المسلمين في البلقان لو تركوا يتوالدون بهذا العدد، فانهم، كما يدعي تاناسكوفيتش، سيغمرون أوروبا.

* بهذه النصوص وما شابهها ينشر تاناسكوفيتش الكراهية ضد المسلمين والاسلام، ما هي خلاصة النظرة الصربية تجاه المسلمين في البلقان؟

ـ من بين هذه النصوص التي تحضرني (المسلمون عنصر أجنبي غريب في البلقان والبلقان ليس وطنهم). (الاسلام في أوروبا جسم غريب والإسلام بالنسبة لأوروبا هو القطب المضاد هو القطب السالب). (المسلمون عدوانيون ولااخلاقيين وباختصار لا ضرورة لوجودهم في البلقان ومن ثم يجب حل مسألة المسلمين بالحرب). (مسلمو البلقان خونة، لانهم باعتناقهم للاسلام خانوا ديانتهم المسيحية واسلافهم المسيحيين).

* يغلب على كل ما نشر لتاناسكوفيتش من مقالات منذ عام 1990 هدف واحد لا غير، لقد أراد الهجوم على الاسلام والمسلمين من المواقع التي تسمى فكرية وأن يضمن من ثم دعماً ثقافياً للنمو السريع لآيديولوجية التعصب القومي وسط الصرب هل كانت تلك سياسة الحكومة في بلغراد؟

ـ ظل داركو تاناسكوفيتش يعرض هذه الآيديولوجية القومية الصربية المتعصبة كآيديولوجية تقدمية، كشيء يحمي أوروبا من الغزو الاسلامي، وتاناسكوفيتش ينتمي لتلك المجموعة من المتعلمين الصرب الذين، كانوا كما يقول نورمان سيغار، كثيراً ما كانت تترجاهم بلغراد وحكومة صرب البوسنة وكذلك الحكومة اليوغوسلافية ليخاطبوا الرأي العام الأوروبي عبر مختلف وسائل الإعلام اليوغوسلافية وليوضحوا ويبرروا للرأي العام الصربي السياسة الرسمية للدولة تجاه المسلمين.

ففي مقال بعنوان «الاتراك يدافعون عن سراييفو» نشر بمجلة (ايبوخا ـ العصر) ـ المجلة الرسمية لحزب ميلوشيفيتش، يسمي داركو تاناسكوفيتش مسلمي البوسنة بالأتراك. وهو يريد بذلك ان يقول ان مسلمي البوسنة في البوسنة ليسوا عنصراً أصيلاً، بل عنصر أجنبي، ينبغي كنسهم من البوسنة عن طريق التطهير العرقي. ويتضمن مقال آخر لداركو تاناسكوفيتش بعنوان «خلع الأحذية في حجرة الانتظار الأوروبية»، نشر في بلغراد عام 1992 عبارات قبيحة ومسيئة، ضد مسلمي البلقان. ويلمح داركو تاناسكوفيتش في هذا المقال إلى دخول المسلمين حفاة إلى الجامع والبيوت التي يسكنونها. وتلك، في رأيه، ظاهرة رجعية وهو يخاطب أوروبا، هل يمكن ان تسمح بتحويل منطقة البلقان إلى حجرة انتظار لاوروبا حيث يخلع البعض (أي المسلمون) أحذيتهم. وفي النص يجادل البروفيسور تاناسكوفيتش جاني دي ميكيليس الذي كان يومها وزير خارجية إيطاليا والذي صرح عام 1992 في وسائل الاعلام بأن الاسلام في تركيا وفي البلقان معتدل ومقبول لأوروبا. تاناسكوفيتش يلقي عليه درساً حول ذلك ويبلغ دي ميكيليس بأنه لا يوجد أي اسلام مقبول لأوروبا.

* هل أدركت القيادة الصربية أنها تجني فائدة سياسية من مثل هذا التأييد من المستشرقين الصرب فحصل ذلك التعاون بين المستشرقين الصرب من جهة والسياسة الصربية من الجهة الأخرى باتفاق؟

ـ أصبحت هذه الحملة المسعورة ضد المسلمين في البلقان خلال القرن العشرين مربحة لدرجة أنه ظهر في صربيا ويوغوسلافيا عشرات ممن نسميهم مجازاً بالمستشرقين. وحول ذلك يقول نورمان سيغار ما يلي: «ربما لا يوجد دائماً في الأوساط الأكاديمية الصربية تمييز واضح لمن نسمية «مستشرقاً»، لان الكثيرين من العلماء في مختلف مجالات العلوم الانسانية والاجتماعية في اغلب المواضيع التاريخية والسياسية التي يكتبون عنها يولون حيزاً واسعاً للإسلام في كتاباتهم».

فالكثير من الاساتذة الجامعيين الصرب، عند الكتابة عن تاريخ الصرب أو الثقافة والتقاليد الصربية في البلقان يعزون الكثير من الأشياء في التاريخ الصربي خلال هذه القرون الستة الماضية إلى ما يسمى بالأسباب الإسلامية. وقد دأبوا على ذلك بشكل يكاد يكون منتظماً. ومن المؤكد أن الكثيرين من هؤلاء الذين نسميهم مجازاً بالمستشرقين لا يعرفون اللغة العربية أو التركية أو الفارسية على الإطلاق. ومن ثم فهم، عندما نأخذ الأمر بجدية، لا يتعاملون مع الإسلام بشكل علمي، ولا هم باختصاصيين في الإسلام بحكم المهن التي يمتهنونها، لكنهم فرضوا أنفسهم على وسائل الإعلام الصربية كأناس مؤثرين، لأنهم بذلك ساهموا في تكوين رأي عام ذي نظرة معادية للإسلام وسط المثقفين والجمهور.

* ركزت في حديثك على داركو تاناسكوفيتش، هل هو الوحيد الذي خاض في الوجود الاثني بعدوانية وعصبية كما تقول وهو بذلك لا يمثل خطاً عاماً؟

ـ داركو تاناسكوفيتش، إلى جانب اليكساندر بوبوفيتش، الاستاذ الجامعي الصربي، الذي يعمل ويكتب عما يسمى بـ «إسلام البلقان» في باريس، هما من المستشرقين الصرب المثقفين، وقد تناولوا موضوعهم «أي مسلمين البلقان» من موقف عدائي. لكنهما من أجل أهدافهما، سخرا الكثير من الاساتذة الصرب الذين ليست لديهم أدنى فكرة عن اللغة العربية أو الإسلام. وكان هؤلاء، على جهلهم هذا، يقومون بالأعمال القذرة لحساب تاناسكوفيتش وبوبوفيتش. ومن أبرز تلاميذ بوبوفيتش وتاناسكوفيتش ميروليوب بيفتيتش، الذي اشتهر بصفة خاصة بهجماته على مسلمي البلقان. فقد أجريت معه عشرات المقابلات، في إطار الحرب الثقافية التي تزامنت مع حملة الإبادة وكتب عشرات المقالات التي تحدث فيها بأسلوب فاشستي عن مسلمي البلقان، تماما كما كان الفاشيست الألمان يتحدثون عن اليهود قبل وإبان الحرب العالمية الثانية. لقد نشر ميروليوب بيفتيتش سنة 1989 (سنة إحياء الذكرى السنوية الستمائة لمعركة كوسوفا) كتابا بعنوان «الجهاد المعاصر كحرب» The Contemporary Jihad as War، وقد استخدم القوميون المتعصبون الصرب هذا الكتاب كدليل على أن المسلمين هم مصدر كل الشر في البلقان وأوروبا. ويتحدث الكتاب بطريقة سطحية مجردة من أي أساس علمي عن الإسلام ويتهم الإسلام بأنه دين حرب. ويورد الكتاب عن الجهاد أكاذيب، يصعب حتى مجرد ذكرها هنا. فمثلا يدعي بيفتيتش أن الجهاد هو الحرب الشاملة للمسلمين ضد الغرب، وأن المسلمين يتآمرون عن طريق الجهاد على الغرب، خاصة على الصرب الذين يحمون أوروبا من الإسلام. وبيفتيتش طبعاً شيوعي، وهو ينسب للجهاد كل ما كان الشيوعيون ينسبونه للحرب الطبقية. فهو يقول عن الجهاد إنه حرب إسلامية دائمة ضد جميع الأديان الأخرى على وجه الأرض!. وعرض بيفتيتش الإمبراطورية العثمانية كصنيعة للجهاد الوحشي، حيث كان المسلمون يقتلون غير المسلمين متى ما أرادوا. وفي الأيام التي نشر فيها هذا الكتاب وهو في الوقت الذي كان فيه الصرب يحيون الذكرى السنوية الستمائة لمعركة كوسوفو، كان من الصعب مناظرة بيفتيتش لأنه لم يكن يستمع لأي حجج عقلانية. وكان من العبث محاولة إقناع بيفتيتش بأن البلقان بالذات تمتع على عهد الإمبراطورية العثمانية بأطول فترات السلم والرخاء. كذلك كانت حرية الأديان كافة، الإسلام والارثوذوكسية واليهودية والكاثوليكية، متوفرة في ظل الإمبراطورية العثمانية. وبالطبع، لم يؤلف بيفتيتش كتابه ليفسح فيه مجالا للحقيقة. فقد كان هدفه الدعاية ضد المسلمين، فتسييس الاستشراق الصربي لقضية المسلمين في البلقان كان، كما يؤكد المراقبون الموضوعيون، يسير جنبا إلى جنب مع تعاظم الحركة القومية الصربية المتعصبة في الثمانينات من القرن العشرين.

* هل تريد أن تقول إن المستشرقين الصرب نشطوا كجزء من آلية مدبرة ضد مسلمي البلقان؟

ـ مما له أهمية هنا أن نذكر المذكرة الصربية التي كشف النقاب عنها سنة 1986 من قبل الأكاديمية الصربية للعلوم والفنون. فقد كتب هذه المذكرة الصربية كبار المثقفين الصرب الذين كانوا يرون أنه ينبغي أن يكون لهم دور أكبر في السياسة وصياغة المستقبل الصربي. وهذه المذكرة، باختصار، تعيد وتبعث الحياة من جديد في الأهداف القومية الصربية القديمة، أما الهدف الرئيسي للمذكرة فهو إقامة صربيا الكبرى.

كذلك تطرح المذكرة مواضيع حول تعرض الشعب الصربي للخطر في البلقان وتعرضه للخطر منذ عدة قرون من قبل المسلمين. والمذكرة، اضافة لذلك، تعد الصرب للعنف والحرب، لأن صربيا الكبرى لن تتحقق من دون حرب.

* هل من السهل استنتاج أن المذكرة كانت العمل الذي أعدته الأكاديمية الصربية للعلوم والفنون قبل إحياء الذكرى الستمائة لمعرك كوسوفو بهدف جمع الصرب تحت علم واحد؟

ـ في صربيا كما يقول نورمان سيغار، كان الشيوعيون الحاكمون في تحالف منذ زمن بعيد مع القوميين الصرب، ومع الكنيسة الارثوذكسية الصربية ظهر التكافل الأحمر ـ البني ـ الاسود، الذي أمن الانطلاقة الأولى للقومية الصربية وتركيبتها. ولم يكتف ميلوشيفيتش بإدخال غلاة القوميين إلى التيار السياسي الرئيسي، بل استطاع ايضا تأمين آلية في شكل تنظيمات سياسية ووسائل إعلام وتركة مالية، ثم قوة عسكرية. وكل ذلك أدى لتحول الأفكار العاطفية التي لم تكتمل إلى برنامج حكومي محدد كان قد جرى تطبيقه على أرض الواقع. وفي نهاية الثمانينات من القرن العشرين كانت الحكومة الصربية والقوميون ووسائل الإعلام الشعبية والكنيسة الارثوذكسية، قد اتخذت كلها معا موقفاً عدائياً صريحاً تجاه المسلمين وتصاعدت بشكل درامي حوادث الخطب الرنانة ضد المسلمين. وبدلا من ادانة مثل تلك الاتجاهات طفق المستشرقون الصرب يدعمونها ويبررونها، بل وكثيرا ما كانوا يقدمون المزيد من الدوافع لنزعة معاداة المسلمين. وكانت المقالات ضد الإسلام والمسلمين تنشر في كل مكان في صربيا وتصل أحيانا إلى درجة من الابتذال أشبه بالكاريكاتير. فقد نشرت مجلة «الجيش» اليوغوسلافية في 8 أبريل (نيسان) سنة 1993، مقابلة مع عقيد صربي اسمه نيكولا اوستوييتش، صرح فيها بأن «ألف ليلة وليلة تنطوي على الكثير من الوسائل الداعية للإبادة».

* من الصعب حقاً أن يصدق المرء أن المستشرقين الصرب لا يعرفون أن «ألف ليلة وليلة» ترجمت عدة مرات إلى الإنجليزية والألمانية والفرنسية والروسية. وكيف يستقيم عقلاً أن أوروبا التي ومنذ قرون تقرأ «ألف ليلة وليلة» من دون أن تكتشف أن ذلك مؤلف يدعو للإبادة؟

ـ ها هم المستشرقون الصرب، الذين يسعون لإثبات بأن كل ما هو عربي وكل ما هو مسلم دعوة للإبادة حتى الـ «ألف ليلة وليلة»!، لكن الدعاية هي الدعاية، فقد نشر المستشرقون الصرب ما أمروا بنشره، ثم صدقوا هم أنفسهم ما نشروه.

* المستشرقون الصرب كانوا يهاجمون الجماعات الأخرى ايضا في يوغوسلافيا الاشتراكية السابقة كالكروات والألبانيين والغجر والسلوفينيين والمقدونيين في الفترة من 1980 ـ 1992 وبعدها؟

ـ نعم لم يكن هجوم المستشرقين الصرب قاصراً على المسلمين وحدهم، لكن مسلمي البلقان كجماعة، ربما كانوا في وضع حساس بصفة خاصة وعرضة لمثل تلك الهجمات، لاعتبارات جغرافية سياسية خاصة، مثل وضعهم الذي يحول دون اقامة صربيا الكبرى. فالبوشنياق الذين يعتنقون الاسلام يعيشون في البوسنة، وقد تصدوا بصفة خاصة لإقامة ما تسمى بـ «صربيا الكبرى». كذلك كان الألبان في كوسوفو عائقاً كبيراً أمام إقامة «صربيا الكبرى». وذلك ما جعل المستشرقين الصرب يصفون الإسلام بأنه طاعون كبير يفسد عليهم خططهم وينبغي التخلص منه عن طريق الحرب. وكما هو معروف، بدأ ميلوشيفيتش تلك الحرب عام 1990 واستمرت تلك الحرب حتى نهاية عام 1995 وإلى ما بعد ذلك التاريخ في كوسوفو.

* هل يعني ذلك، ان المستشرقين الصرب بدأوا أولا بإشاعة خوف مزعوم من المسلمين، لإثارة الكراهية عند الصرب تجاه المسلمين؟

ـ للأسف، بدلا من تطوير جو التعايش والحلول السلمية، لعب المستشرقون الصرب دوراً كبيراً في صبّ الزيت على النار وزيادة الخوف والكراهية تجاه المسلمين وسط بني جلدتهم الصرب. وقبيل التفكك الفعلي ليوغوسلافيا بالتحديد، بدأ المستشرقون الصرب يرسمون صورة مقولبة للمسلمين وكأنهم جينة أجنبية غريبة وضيعة، تهدد بالخطر ساعدوا على خلق الشرط المسبق لجنون ارتياب مصطنع وسط الصرب تجاه المسلمين. وكانت كل هذه الكتابات باتت في مرحلة الإعداد، وتكون عند الصرب وسط معاد للإسلام. ساعد على كل ما حدث بعد ذلك: الانزلاق في الإبادة بعد نشوب الصراع العلني في أبريل عام 1992، في البوسنة والهرسك، لكن هدف المستشرقين الصرب لم يكن مجرد إثارة الحرب ضد المسلمين في البوسنة والبلقان، فقد كانت إحدى مهام المستشرقين الصرب تشويه وعزل الطائفة المسلمة. ولاحظوا أن ذلك سيتحقق عن طريق إبراز أن السمات الثقافية للإسلام والمسلمين غريبة ـ بالمعنى السلبي طبعا ـ ومبهرجة ومنافية للذوق السليم ويتبع ذلك تلقائيا أن السمات الثقافية للمسلمين أحط مستوى، بل وشاذة. ولم يكن هدف المستشرقين الصرب أمثال داركو تاناسكوفيتش وراده بوجوفيتش وميروليوب بيفتيتش والكساندر بوبوفيتش وميله نيديلكوفيتش وكثيرين غيرهم هو الاكتفاء بإثارة الكراهية الصربية ضد مسلمي البلقان، بل كانوا يهدفون ايضا لإظهار المسلمين كأناس متخلفين قذرين لا يرقون لمستوى أوروبا. وأعطى المستشرقون الصرب في كتاباتهم صورة مشوهة عن المسلمين، فقد قدموا صورة للمسلم كمخلوق تافه ومنحرف. وكان من بين مهام المستشرقين الصرب ايضا ان يعرضوا الدين الإسلامي كدين آسيوي كدين للناس البدائيين، كدين للمغول الذين يمتطون خيولهم ويشنون الغارات على الغرب والمسيحية. ووصف الإسلام بأنه دين أجنبي غريب على أوروبا وبأنه دين منحط إلى درجة ثقافية وأخلاقية سفلى. وبهذا كان المستشرقون الصرب يؤيدون الأطروحة الموجودة أصلا في أوروبا التي تدعي أن أوروبا قارة خاصة بالمسيحية والمسيحيين وحدهم ولا مكان لليهود والمسلمين في أوروبا!.

* زارت رئيسة القضاة كارلة ديل بونتي أخيرا بلغراد، وبحثت مع القيادة الجديدة موضوع تسليم مجرمي الحرب، هل هناك فرق بين الحكومة القديمة لميلوسوفيتش والقيادة الجديدة في بلغراد؟

ـ لنقل إننا ونحن نعرض موقف المستشرقين الصرب تجاه مسلمي البلقان، كنا مضطرين لاستخدام مراجع كتبت باللغة الإنجليزية. والسبب في ذلك، أنه لم تكن في متناولنا مراجع باللغة الصربية بسبب الحرب، لأننا كنا نعيش في سراييفو المغلقة والمحاصرة، لكن لتصرفنا ذلك ميزة ايضا. وذلك لأن نورمان سيغار ومالكولم نويل وفيليب كوهين مراقبون نزهاء، فهم لا ينحازون لأي جانب. وقد وصفوا بشكل موضوعي موقف الاستشراق الصربي وموقف الاكاديميين الصرب تجاه مسلمي البلقان. وللأسف ما زال يحكم في صربيا عين النظام الذي يحمي امثال أولئك المستشرقين والأكاديميين ووسائل الإعلام الذين ينشرون الكراهية ضد البوشناق والألبان ومسلمي البلقان عموما. ومن ثم، من الصعب أن نتوقع حدوث تغيير في المستقبل القريب في وعي أوسع قطاعات الشعب الصربي أو تغيير في الموقف تجاه مسلمي البلقان، وأنتم تعلمون كيف أصر الصرب على عدم تقديم المطلوبين للمحاكمة، وكيف عادت ديل بونتي إلى لاهاي وقد خاب ظنها وظن العالم في القيادة الجديدة التي علقت عليها آمالا عريضة، وقد ذهبت اتهامات الصرب هباء الذين علقوا كل جرائمهم على مشجب المسلمين الأبرياء فمثالنا ومثالهم كما يقول المثل العربي «رمتني بدائها وانسلت».

=