الشيخ ناصر العبيدة: التقصير في العمل وتوالي المعاصي من أهم آثار الغفلة

TT

إن مما يميز قلب المؤمن عن غيره كونه حياً بما أودعه الله فيه من الإيمان الذي يحفزه على الطاعة ويرغبه فيها ويشجعه عليها. ولكن القلوب تصدئ إذا تراكمت عليها الذنوب وتورثها غفلة وحرماناً خلافاً لما ينبغي أن يكون عليه قلب مؤمن من الخير والهدى والفلاح والنور. وللوقوف على أسباب هذه الغفلة التي تعتري القلوب وآثارها الموجعة وكيفية علاجها كان لنا هذا اللقاء مع الشيخ ناصر بن عبد الله العبيد الداعية والمرشد في الشؤون الدينية بالقوات الجوية في وزارة الدفاع والطيران وإمام مسجد أبي بكر الصديق في حي الريان بالرياض:

* ما أسباب الغفلة والأعراض عن ذكر الله؟

ـ إن أسباب الغفلة والأعراض عن دين الله كثيرة يتولد بعضها من بعض على مر الأيام، بيد أن المسلم الفطن تجده مجدداً لإيمانه متابعاً لحاله يقابل الخلل والتقصير بالتوبة والإنابة والمحاسبة، وهذه المحاسبة لطالما أورثت للعبد خيراً كثيراً. قال تعالى حاثاً على هذه المحاسبة «يا أيها الذين آمنوا... آمنوا بالله» فهو يشير إلى تجديد وتعاهد الإيمان، يتبع ذلك حديث رسول الله: «كل بني آدم خطاء وخير الخطاءين التوابون» رواه الترمذي. والشاهد أن للغفلة أسباباً عديدة هي بلا شك تختلف من مكان لمكان ومن زمان لزمان، بل ومن بلد إلى بلد، يشهد لذلك الواقع الملموس، ولعل من أهم الأسباب:

1 ـ الانصراف عن كتاب الله قولاً وعملاً، وما أكثر الذين يعيشون هذا الحال، بل وحتى من الملتزمين وللأسف، هجر له في بعض صور الهجر إن لم يكن لها كلها. مع أن الأمر يسير للجميع للأخذ به في صورة كلها ولله الحمد.

2 ـ قسوة القلب، وهذا ناشئ عن ضعف الإيمان، وللأسف أننا نرى الناس الآن تنقلب في العبادة ليس كعبادة ولكن كعادة. دليل ذلك أنك ترى الكثير يصلي ويصوم ويحج ويقرأ القرآن ومع ذلك لا يزال على معاصيه، وهذا يدل على وجود خلل في العبادة، لعل الاخلاص فيها من أهم الأسباب، والعبد حينما يضل عن هدى الله يتخبط في فوضى التدين بلا عائد ولا أثر وإن كان هذا ليس على إطلاقه.

3 ـ التنافس في الدنيا، وهو مما خافه علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: «تبسط عليكم الدنيا فتنافسوها كما تنافسوها» والكثير من الناس يسابق الزمن ويجاري الحضارة والتطور، ولكن في نفس الوقت لا يتطور في دينه بهذا المستوى، تراه في ملبسه ومسكنه ومأكله وراتبه مرموقاً ولكنه في المقابل في عبادته في حال يندى له الجبين فلا أدب مع الله ولا احترام لشعائره، تقصير وإهمال وانغماس في الملذات والشهوات، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم» رواه البخاري وابن ماجه.

4 ـ العجب والغرور، فبعض الناس يحدثك دائماً أنه بخير وصاحب عقيدة، يشيد بحسناته ويزكى نفسه، ويتناسى سيئاته وعثراته، ولا أعرف هل هؤلاء أفضل من أبي بكر وعمر!، يسئل حذيفه هل عدني رسول الله من المنافقين أم لا.. بالرغم من أن ليلهم ونهارهم عبادة وصوم وجهاد.. فلا شك أن هذا العامل يزيد في الناس أعراضاً وغفلة عن طاعة الله أو عن الاستزادة فيها على الأقل.

5 ـ تعطل الفكر، وهذا في جوانب عديدة، فحينما لا يتفكر العبد مثلاً في نعمة الله عليه من أمن وصحة وعافية ورزق وغيرها وحينما لا يتفكر في خلق الله وعظمته، وقوة الله وحكمته، وحينما لا يتفكر في هذه الحياة وحقيقتها، والمآل بعد ذلك من موت وحساب وجنة ونار. كل هذا أو غيره يزيد القلب قسوة وأعراضاً ولا غرو. فمن نسى الله توعده الله بنسيان نفسه.

6 ـ الصحبة الصالحة، ففي برنامج الكثير من الناس أنه يبدأ يومه بالعمل (الصلاة) ثم يعود ويرتاح ثم يخرج للزملاء أو الأسواق أو الاستراحات... الخ. كل يوم من عشرات السنين وهو كذلك ولا نية للتغير أبداً، بأن يحضر محاضرة أو يقرأ كتاب أو يجالس الصالحين ومن هذا حالة.. كيف يرجى منه صلاحاً، وهذه النوعية هي التي تزكي نفسها دائماً.

7 ـ طلب العيش، فهذا يكون أحياناً مبالغ فيه من بعض الناس، فتجده يعبد المال وتراه كل شيء في حياته، وحينما تحدثه يقول أنا في عبادة.. نقول نعم صحيح ولكن بالقدر الذي لا يخل معه بشيء آخر.. ففي الحديث من أصبح منكم آمناً في سربه عنده قوت يومه، معافاً في بدنه، فما أجمل أن يكون الأمر معتدلاً يجمع صاحبه من حسنة الدنيا والآخرة.

* يشكو الكثير من داء الغفلة. ما هي وسائل علاج الغفلة؟

ـ أقول أولاً نحن لا نشكو قلة العارفين ولكنا نشكو قلة العاملين وقد قال الأولون إن رحلة المليون تبدأ من الصفر، وما أكثر العارفين لهذه المشكلة بل وحتى ما أكثر الذين يعرفون العلاج ولكنهم لا يقدمون على ترجمة المعاني إلى عمل.

إن الذي يهمنا دائماً الكم وليس الكيف، فالبعض قد يجتهد في العلاج ولكن بشيء يسير لكنه لا يعول عليه، ولا يعدوا أن يكون مرحلة إرضاء للضمير، وعلى العموم هناك وسائل عديدة وكثيرة جداً تحتاج فقط منا إلى قناعة أكثر والى همة أعلى لتحظى بقوله تعالى «من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة» ولا أظن عاقلاً يرفض هذا الوعد الرباني الجليل فكلنا فقير إلى الله... بيد أن الهوى سيظل العائق دائماً في مسيرة الإصلاح. ولعل من أجل الوسائل وأنجحها ما يلي:

1 ـ المحافظة على الصلوات الخمس جماعة، وأكاد أقسم أنها كافية عن غيرها لمن أراد الإصلاح حسبنا من ذلك أن العبد كما أخبر رسول الله يكون في كنف وحفظ الله تعالى.

2 ـ المبادرة إلى عموم الصالحات حتى ولو كانت يسيرة، حتى تعالج ما في النفوس من أمراض وعلل، ولعل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (لسعد) فيه إشارة لذلك بقوله: «أخلص العمل يكفك القليل» فالإخلاص فيها فيه خير كثير على المرء.

3 ـ العودة للقرآن الكريم قولاً وعملاً، بأن يضع الإنسان في برنامجه اليومي نصيب له، فإن لم يكن فأسبوعي أو شهري فهو خير من هجره البتة كما هو حاصل الآن.

4 ـ القناعة بأن ثقافتنا نبع من ديننا، وعليه نعمل على الاستزادة من سماع الأشرطة النافعة، وقراءة الكتب الدينية ففيها من دلائل الخير الكثير، علمه من أطلع عليه وجهله من غفل عنه.

5 ـ القراءة في سير السلف الصالح، ففيها الكثير من العبر التي تزهد العبد في الدنيا، وحسبنا بالموت واعظاً قبل ذلك. وأخيراً نقول: إن الغفلة قد تركت علامات ودلالات فيمن حولنا وفي الأمم السابقة قبلنا من زلازل ومحن وابتلاءات فماذا عسى أن ينتظر الغافلون، يقول الحسن رحمه الله «هانوا عليه فعصوه ولو عزوا عليه لعصمهم» وتلك عقبى الظالمين، وما الأوهام والأحزان والعقد النفسية إلا تبعات لهذه الغفلة. فتزول النعم وتحل النقم ويستجلب بها سخط الله وما ربك بظلام للعبيد، والسعيد من اتعظ بغيره وعمل لما بعد الموت فما بعده من مستعتب ولا بعد الجنة إلا النار.