الحدود الجنائية الإسلامية: التعطيل أم التأويل ؟

TT

كان المفكر السويسري المسلم طارق رمضان (ابن القيادي الاخواني المصري سعيد رمضان وحفيد حسن البنا) قد دعا في السنة الماضية، في مقال اثار ضجة هائلة، الى تعليق تطبيق الحدود الجنائية الاسلامية، لفتح مناظرة فقهية واسعة حول امكانية الغائها من داخل المشروعية الاسلامية نفسها. وقد استند طارق رمضان الى بعض المسوغات والحجج، من بينها انها معطلة بالفعل تقريبا في كامل العالم الاسلامي، كما ان تطبيقها في السياق العالمي الراهن يطرح اشكالات عصية قد تفرض على المسلمين التضحية بها من اجل مصلحة الاسلام وصورته. ومع ان الرجل احتاط في دعوته من كل التهم التي قد توجه له، مؤكدا انه يقر بأنها متضمنة في نصوص قطعية يجب امتثالها، إلا انه طالب علماء المسلمين الملتزمين بضرورة النظر في الامكانات الواسعة التي يوفرها المسلك الاجتهادي الشرعي لحل التناقض القائم بين انشداد المسلم الطبيعي لقطعيات الشرع واكراهات الواقع القائم. وللتذكير، فإن الرجل يصنف في الغرب، بأنه مفكر اسلامي، ينحدر من مدرسة الاخوان المصرية، وقد تعرض في السنوات الاخيرة لحملة ضارية من اللوبي الصهيوني الاوروبي، لانتقاده تعاطف المفكرين اليهود الاوربيين (الفرنسيين خصوصا) لاسرائيل على الرغم من ادعائهم تبني قضايا حقوق الانسان في العالم، كما منع الرجل من دخول الولايات المتحدة الاميركية للتدريس في احدى جامعاتها العريقة التي استضافته. طرحت الموضوع مؤخرا على احد فقهائنا الكبار، الذي طلب عدم ذكر اسمه، فقال لي: لو ان طارق رمضان طرح الاشكال بلغة فقهية واصطلاحات شرعية، لتمكن من الوصول لبعض مسالك الحل التي يعرفها الفقهاء جيدا. واضاف محاوري: صحيح انه من المستحيل على فقيه ملتزم إبطال الحدود الواردة في النص، إلا ان بعض الاعتبارات تستحق الذكر من بينها: ـ ان الحدود ليست في الواقع عقوبات، وانما هي منظومة جزائية رادعة. ولذا كانت إما عصية التطبيق إلا باعتراف المذنب نفسه، او منتفية بفعل التوبة (كما يرى بعض الفقهاء). ومن ثم فانها ليست مدونة قانونية آلية، بل هي الحد الاقصى للردع الذي يراد به استباق الجريمة. ـ ان بعض الحدود ليست موضوع اجماع، كما هو شأن حد الردة الذي صنفه الفقهاء الاحناف في باب الحرابة، أي الخيانة العظمى ورفع السلاح ضد الدولة (اصدر الدكتور طه جابر العلواني المفكر والفقيه العراقي المعروف كتابا هاما يؤصل فيه هذه الفكرة، وقد علق عليه الشيخ عبد الله بن بيه تعليقا وافيا معمقا). كما ان حد الرجم الذي ورد في حديث صحيح (وان كان حديث احاد) لم تأخذ به بعض طوائف الامة. وقد ذهب الشيخ محمد ابو زهرة الى انه نسخ بآية الجلد، وله في الامر آراء جريئة نقلها الى طلبته وان لم يكتبها خوفا من ردة الفعل. ـ ذهب الفقهاء الى ان تطبيق الحدود متوقف اجرائيا على موافقة الحاكم الذي بمقدوره تأخير التنفيذ بحسب مصلحة الامة. ولا شك ان هذه الحيلة هي مستند العديد من البلدان التي اقرت تطبيق الشريعة الاسلامية، بدون ان تتخذ الجانب الجنائي من احكامها. ـ ذهب بعض فقهاء المغرب والاندلس الى امكانية تعويض الحدود الشرعية بالعقوبة المالية، ولهم في الموضوع ابحاث مستفيضة لم يمط عنها اللثام بعد. واذا كان محاوري لم يذهب الى حد القول بإمكانية إلغاء هذه العقوبات الجنائية إلا ان بعض المفكرين المسلمين المعاصرين تخطى هذا الحاجز الحساس، من بينهم المفكر التونسي المعروف محمد الطالبي الذي اعتبر ان الاسلام ليس ديانة قانونية على طريقة اليهودية الارثوكسية، بل يضم منظومة اخلاقية قيمية، لا يمكن النظر الى هذه العقوبات خارجها، من حيث كونها عقوبات كانت إما متبعة في التقليد اليهودي المسيحي او في التقليد العربي الجاهلي، ولذا ليست بذاتها ملزمة للمسلمين في العصر الراهن. ذكرت الرأي للدكتور طه جابر العلواني، فرد بالقول انه لا يرى ان العقوبات الاسلامية تطرح مشكلا جوهريا اليوم، فاذا استثنينا عقوبة قطع يد السارق، فإن الحدود الاخرى هي مجرد موجهات رادعة لا تتوفر شروط تطبيقها. اما قطع يد السارق فليس عقوبة آلية، بل هو الملجأ الاخير عندما تخفق كل الحلول الاخرى. بيد ان مدار الاشكال الفعلي يتعلق بمبدأ العقوبة البدنية الذي اصبح مرفوضا في المنظور التشريعي المعاصر. وتعاني المجتمعات المسلمة اليوم من إشكالية عصية يطرحها التضارب القائم بين مصادقتها على عشرات الاتفاقيات الدولية المانعة للعقوبة البدنية (من منطلق التصور الليبرالي الانساني لكرامة الانسان) والتزامها بأحكام الاسلام التي تنص دساترها على انه دين الدولة ومصدر التشريع. فالسؤال المطروح ـ في ما وراء اجندة الحوار حول موضوع تطبيق الحدود الجنائية الاسلامية الذي يعتبره البعض فيصل التفرقة بين الدولة الاسلامية والدولة الكافرة او الجاهلية ـ هو الى أي حد يمكن للمنظور الاجتهادي ان يحل هذه العقدة في سياق الالتزام بموجهات الشرع ومصالح الامة وضوابط اندماجها في منظومتها العالمية، بدل الاكتفاء بالحيل الفقهية المحدودة او بالخطاب العاطفي الانفعالي الذي قد يرضي الضمير بدون فاعلية في الواقع. لا شك ان الحوار مفتوح بحدة، ويتطلب اسهامات جريئة من علمائنا وفقهائنا.. وحسب طارق رمضان انه طرح الاسئلة وفتح السبل، وان لم تلق دعوته تجاوبا.