من وحي أزمة محاضرة البابا: سؤال الإسلام والعقل والحرية

إبراهيم العاتي

TT

لم تشكل محاضرة البابا بنديكت السادس عشر في جامعة ريجنسبورج بألمانيا حول الإسلام مفاجأة كاملة بالنسبة للمراقب المدقق، لأن جزءاً منها وهو المتعلق بالربط بين الإسلام والعنف أمر دأب على ترديده نقاد الإسلام وخصومه، وشكل صورة نمطية في التصور الغربي عن الإسلام.

لكن المفاجئ في كلام البابا هو حديثه عن العقل بين الإسلام والمسيحية، واعتبار أن المسيحية هي الديانة التي يلتقي فيها العقل والإيمان على عكس الإسلام الذي فرض وانتشر عن طريق العنف! والمفاجئ والمستغرب أيضا أن ينقل البابا نصاً مسيئاً للنبي محمد (ص) لإمبراطور بيزنطي كان في حالة حرب ضد المسلمين، ويرتب على قوله نتائج في العقيدة والإيمان ورفض العنف، فيما يبدو تبنياً لقول ذلك الإمبراطور. والأمر الأخير المثير للاستغراب، والذي شكل ثالثة الأثافي للهجوم البابوي المغلف بعباءة أكاديمية، هو أن يصدر ذلك من (الحبر الأعظم) شخصياً، دون اكتراث بالحوار الديني الذي تبناه الفاتيكان مع الإسلام وعلمائه منذ عقود، ودونما تحسب لما قد تؤدي إليه تصريحات كهذه من تسميم للعلاقة بين المسلمين والمسيحيين، وبين العالم الإسلامي والغرب في ظل حالة المواجهة والاحتقان السائدة اليوم والتي تتخذ شكلاً تصادمياً متزايداً.

وإذا قمنا بمراجعة نقدية لما ورد في كلام البابا يستوقفنا أولاً ما نقله عن الإمبراطور البيزنطي مانويل الثاني ( 1350ـ1425م) الذي دوّن كتاباً ضمنه محاورات جرت بينه وبين عالم مسلم أثناء احتدام الصراع مع الجيوش التركية التي كانت تعد العدة لإسقاط دولة بيزنطة، وهو ما حصل بعد حوالي عقدين. حيث يسأل الإمبراطور محاوره قائلا: «أرني شيئاً جديداً أتى به محمد، فلن تجد إلا ما هو شرير ولا إنساني، مثل أمره بنشر الدين الذي كان يبشر به بحد السيف».

والغريب أن البابا الذي اقتبس هذا النص الاستفزازي لم يقم بمراجعة نقدية له، بل راح يبني عليه آراءه الأخرى التي وردت في المحاضرة، أي أن الأمر تجاوز حدود الاقتباس الصرف إلى اقتناع بما ورد في مضمون النص نفسه. لقد كان البابا أستاذاً جامعياً، وألقى محاضرته في حرم جامعي، ويشترط والحال هذه أن يلتزم بشروط المنهج الموضوعي، فهل من الموضوعية في شيء أن يرجع في فهم الإسلام إلى شخص معاد للمسلمين، بل في حالة حرب معهم، ويترك كتب التاريخ الإسلامي الكبرى التي دونت سيرة الرسول (ص) وتاريخ الدعوة المحمدية؟

لو كلف البابا نفسه الرجوع إلى المصادر الإسلامية الأصيلة لرأى أن المسلمين الأوائل كانوا هم المعتدى عليهم، وقد صبروا على الأذى والعذاب الذي صبه عليهم طغاة قريش، ولما وصل الأمر إلى حد لا يطاق هاجر بعضهم إلى الحبشة ثم هاجر القسم الآخر، ومعهم النبي الأكرم (ص)، إلى المدينة. لكن الأعداء لم يتركوهم وشأنهم بل لاحقوهم إلى هناك، فنزلت الآية الكريمة التي أذنت لهم بالقتال إذا قوتلوا. قال تعالى: «أُذن للذين يُقاتَلون بأنهم ظُلموا وإن الله على نصرهم لقدير. الذين أُخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله». ومع ذلك حينما فتح المسلمون مكة عامل الرسول (ص) أعداءه الذين آذوه وأجبروه على الهجرة من بلده بالعفو والرحمة، وتلك أخلاق النبوة التي تحمل الرحمة للناس «وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين».

فالقتال في الإسلام هو حالة استثنائية لرد العدوان الذي فرض على المسلمين، أما الأساس في نشر الديانة الإسلامية فهو الدعوة إلى الله بالحسنى والحكمة. قال تعالى: «ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن». وعلى أساس هذه القاعدة الذهبية دخلت الكثير من شعوب العالم في الإسلام، ومثال ذلك شعوب الشرق الأقصى كإندونيسيا وماليزيا وغيرهما، فقد انتشر الإسلام فيهما عن طريق التجار المسلمين، وقل مثل ذلك في كثير من مناطق أفريقيا، حيث لم يعرف أن حروباً دينية شنها المسلمون لهذا الغرض. إن الإسلام يرفض الإكراه في أمور العقيدة، قال تعالى: «لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي» (البقرة: 256)، وقد نزلت هذه الآية حينما كان المسلمون قي المدينة، وقد تأسس لهم كيان منيع حررهم من بطش قريش وسطوتها، وسبب نزولها أن رجلاً مسلماً من الأنصار أراد أن يكره ولديه، وكانا نصرانيين، على اعتناق الإسلام، فنزلت هذه الآية ناهية عن ذلك.

وقد اعتبر المسلمون آية «لا إكراه في الدين» أساً من أسس الدين، وركناً عظيماً من أركان سياسته، فلم يجيزوا إكراه أحد على الدخول فيه، كما لم يجيزوا لأحد أن يكره أحداً على الخروج منه. (تفسير المراغي، ج3 ص18).

لكن البابا الذي يستشهد بتلك الآية يعبر عن جهل واضح بالقرآن وأسباب ومراحل نزوله فيقول ـ نقلاً عن العارفين ـ أن تلك الآية (تعود للحقبة التي لم يكن لمحمد فيها سلطة ويخضع لتهديدات)! ... وتلك هي المرحلة المكية، ولو كلف البابا قراءة القرآن، وهو كتاب المسلمين المقدس، لعرف أن الآية مدنية نزلت وحياً من السماء وليست من اجتهادات النبي (ص) كما يوحي كلامه، وقد كان المسلمون يملكون أسباب القوة التي تؤهلهم لإكراه أتباع الديانات الأخرى كاليهود والنصارى لو أرادوا، ولكنهم رفضوا ذلك التزاماً بأوامر دينهم التي ترفض الإكراه وتقر الحرية الدينية، وهو ما أكدته آية أخرى، كقوله تعالى: «ولو شاء ربك لآمن من في الأرض جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين».

وبعد أن انتشر الإسلام في أرجاء المعمورة، وقامت للمسلمين دول قوية، بقي أتباع الديانات الأخرى كاليهود والنصارى والصابئة على دياناتهم، في ظل أجواء من التسامح والحرية الدينية لم يعرف لها العصر الوسيط مثيلاً. ولكن هل التزم المسيحيون في إسبانيا بمبادئ المسيح التي يفتخر بها البابا في محاضرته أم أنهم أجبروا المسلمين بعد سقوط دولتهم على اعتناق المسيحية بوحشية لا نظير لها؟ بل حتى من تنصر منهم أخضعوه لمحاكم التفتيش التي تدار من قبل القساوسة لامتحان صحة إيمانهم، وما يختلج في ضمائرهم، تحت التعذيب، وبمباركة بابا روما حينذاك، حتى قضي على كل أثر للمسلمين هناك، وحولت جميع مساجدهم وجامعاتهم، التي كانت مراكز الإشعاع الحضاري في العصور الأوروبية المظلمة، إلى كنائس.

وكان ذلك إيذاناً بحقبة ظلامية كبرى امتدت في أوروبا تطارد وتبطش بالعلماء والفلاسفة العقليين وكل مفكري التنوير من الرشديين اللاتين الذين تأثروا بالفيلسوف المسلم ابن رشد، وبالتراث العلمي الرياضي والتجريبي للعلماء المسلمين أمثال الكندي والفارابي وابن سينا والخوارزمي والرازي الطبيب وابن الهيثم وغيرهم ممن ترجمت أعمالهم إلى اللاتينية وكانوا حجر الأساس في قيام الحضارة الحديثة.

ولعل الفيلسوف الإيطالي برونو الذي أحرق حياً، وعالم الطبيعة غاليليو الذي هدد بالمصير نفسه إذا لم يتراجع عن قوله بدوران الأرض خير شاهد على تلك الحقبة المظلمة التي لم يتخلص منها العالم إلا بعد تحجيم سلطة الكنيسة البابوية ومنعها من التدخل في شؤون السياسة والعلم وغير ذلك من الأمور العامة، وقصر نشاطها على الجوانب الروحية داخل الكنائس.

أما الإسلام فقد كان دين العقل والبرهان الصادق «قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين»، وعلى هذا الأساس قام علم الكلام للاستدلال العقلي على قضايا العقيدة. ولو تصفحنا القرآن الكريم لوجدناه حافلاً بالآيات التي تحث على الحكمة «يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيرا»، وتدعو إلى التعقل «كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون»، وإلى التفكر «فاقصص القصص لعلهم يتفكرون»، والابتعاد عن الظن «إن الظن لا يغني من الحق شيئاً»، وعن الهوى «ومن أضل من اتبع هواه». وتدعو إلى العلم «يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات»، «هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون».

وقد رسم الإسلام طريقاً للإيمان يقوم على التأمل في الكون والإنسان، والانتقال من المحسوس إلى المعقول للوصول إلى الإيمان الحق القائم على العلم واليقين لا على تقليد الآباء والأجداد. قال تعالى: «فلينظر الإنسان مم خلق»، وقوله سبحانه: « قل انظروا ماذا في السموات والأرض» أو «قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق».

ولقد كان لتلك الآيات الكثيرة التي تحث على العلم والمعرفة الأثر الحاسم في إثراء العقل المسلم، وإطلاق قدراته الكامنة لاكتشاف حقائق الأشياء، وبناء نهضة علمية وحضارية لم يعرف العالم لها مثيلاً في العصر الوسيط. وليتأمل البابا في نصوصه الدينية إن كان فيها ما يضاهي القرآن في هذا الجانب من حيث الكم والكيف، ثم ليستخلص حقيقة الإيمان في الإسلام التي تقوم على العقل والبرهان لا على القهر والعدوان.

*عميد الدراسات العليا في الجامعة العالمية للعلوم الإسلامية (لندن)