من أجل فهم أعمق للاستشراق

TT

سعدت بحضور هذه الندوة (ندوة القرآن الكريم في دراسات المستشرقين) لأسباب كثيرة أولها أنها أتت بي الى طيبة الطيبة على ساكنها أفضل الصلاة وأزكى التسليم، وثانيا لأن في زيارتي لهذا البلد الطيب صلة للرحم أرجو الله ان يكتب أجرها، وثالثا لقاء العلماء والتعلم، ورابعا أنها تتناول قضية شغلت فترة طويلة من حياتي في الاهتمام بها، ألا وهي الاستشراق.

ولا بد من تقديم الشكر أولا لرعاية مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف لهذه الندوة، فهو الصرح العلمي الكبير الذي لم ينشغل فقط بطباعة كتاب الله على أرقى المستويات، بل راح يعقد الندوات وينشر الكتب والمجلات، ويقدم البحوث العلمية القيمة. وتأتي هذه الندوة في سلسلة ندواته التي تعقد سنويا تقريبا ليضيف الى صرح انجازاته التي يستحق عليها الشكر والثناء.

صحيح ان الندوة تتناول الاستشراق في جانب دراسته للقرآن الكريم، وهو جانب عظيم، لأن المستشرقين لا يمكنهم ان يعرفوا الاسلام والمسلمين ان لم يدرسوا هذا الكتاب الذي يعد الاساس في شخصية المسلم. فنهض نفر منهم لدراسة هذا الكتاب من نواح عديدة، يدرسون مصدريته ويدرسون موضوعاته ومعانيه ويدرسون ألفاظه ولغته، ويدرسون كيف تعامل المسلمون مع هذا النص الكريم، يدركون حقيقة قدسية هذا الكتاب ومدى تعلق الأمة الاسلامية به، يعرفون كيف دوِّن ويعرفون انه لا يوجد كتاب في الدنيا نال من العناية والاهتمام ما ناله القرآن الكريم.

ولكنهم، بالاضافة الى دراستهم للقرآن الكريم، يدرسون كل ما يتعلق بحياة الامة الاسلامية في المجالات العلمية والسياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية. وكان المستشرق يبدأ في معرفة اللغة ثم ينتقل الى دراسة كل ما يتعلق بالاسلام والمسلمين، كان المستشرق يزعم لنفسه ان يعرف كل شيء عن هذه الامة، تاريخا وثقافة، ويعرف الفقه والحديث والعقيدة. ولكن تطور الاستشراق الى تخصصات غير محدودة. فإن كل الاستشراق يدرس العالم الاسلامي من خلال الدراسات التاريخية والدراسات الاجتماعية والدراسات الجغرافية والسياسية، ويدرسون المسلمين من زوايا علم النفس يحللون ويجرون التجارب. ولم يعد ثمة المستشرق القديم وانما نشأ جيل بالغ في التخصص الدقيق حتى ليكاد الباحث الغربي يصرف حياته كلها في دراسة قضية واحدة مثل الحركات الاسلامية في بلد عربي مسلم، او يدرس المرأة او المجتمع في دولة، او حتى يختار اقليما من اقاليم تلك الدولة، ويمعن في التخصص حتى يدرس مدينة من المدن.

والاستشراق القديم كان يقوم على اكتاف العلماء الغربيين الذين أفنوا اعمارهم في دراستنا والتعرف الينا، حتى اذا نشطت البعثات العلمية الى البلاد الاوروبية والاميركية ليس لدراسة الطب والهندسة والكيمياء والفيزياء والرياضيات بل اصبح المبتعثون العرب المسلمون يدرسون علم الاجتماع وعلم النفس والتربية، بل منهم من يدرس اللغة العربية على ايدي الباحثين الغربيين، ومنهم من يدرس ايضا الشريعة الاسلامية، ومنهم من يتخصص في دراسة الفقه او الحديث على ايديهم. فصار كثير من هؤلاء الطلبة اداة في ايدي اساتذتهم والمؤسسات العلمية الغربية التي يدرسون فيها، فيكلفون بدراسة قضايا معينة في المجتمعات العربية والاسلامية فتصبح هذه الرسائل مصدرا للمعلومات عن الاسلام والمسلمين، فهم ابناء البلاد يستطيعون الوصول الى معلومات في بلادهم لا يستطيع المستشرقون او الباحثون الغربيون مهما أوتوا من طاقة ومعرفة ان يصلوا اليها، وبالتالي تصبح رسائل ابنائنا مصدرا لهم عنا. ويكفي ان نعرف حقيقة هذا الامر ان راجعنا قوائم الرسائل العلمية التي تمنح للطلاب العرب والمسلمين.

ولا يكتفي المشرفون بأن يجعلوا الحصول على الدرجة العلمية وسيلة لهم لتحصيل معلومات عن المجتمعات العربية الاسلامية بل انهم يؤثرون في رؤية الطلاب الى قضايا مجتمعاتهم. فلو اخذنا مسألة المرأة وحقوقها، فإن كتابات بعض الطلاب العرب والمسلمون تصطبغ بوجهة النظر الغربية فتكون من مفردات او مصطلحات البحث، حقوق المرأة، تحرير المرأة، اضطهاد المرأة، ويعود الطالب الى بلاده وقد تأثر بالنظرة الغربية الى شريعتنا الاسلامية. وكم احتفى الغربيون او الدوائر الاستشراقية والتنصيرية بكتابات قاسم امين، وقد احتفت بعده بالطاهر الحداد في تونس في كتابه (امرأتنا امام المجتمع والدين) الذي يطعن فيه في الشريعة الاسلامية.

ومن العجيب ان اللجنة البريطانية التي كانت برئاسة سير وليام هايتر، والتي كانت مكلفة من قبل الحكومة البريطانية عام 1960م ان تدرس احتياجات بريطانيا في مجال دراسات العالم الاسلامي، لم تكن تعرف اهمية توجيه الطلاب الاجانب لدراسة مشكلات بلادهم الا عندما زارت جامعة «ماكيل» بكندا فوجدت هذا الامر وتساءلت اللجنة عن المبررات لذلك فأخبروا ان الطلاب يكونون منفصلين عن تلك المشكلات فينظرون اليها بموضوعية وحيادية، وقد يكون الامر مقبولا لولا ان وراء الاكمة ما وراءها واثبت الايام ان ثمة اسبابا اخرى وراء هذا الامر.

الاستشراق المعاصر او الدراسات الشرق اوسطية تحتفي ببعض منحرفي الفكر من ابناء المسلمين وترفع من شأنهم وتقدم لهم المناصب الرفيعة، ويدعون الى تقديم المحاضرات وتنشر كتبهم ومقالاتهم وابحاثهم في كبريات المحلات ودور النشر الغربية، ويترأس هؤلاء جلسات المؤتمرات العلمية، حتى ان الجمعية الدولية للدراسات الآسيوية والشمال افريقية اختارت باحثا عرابا نائبا للرئيس، ولم يكن اختياره الا لانه مبهر بالغرب معجب به.

نحن بحاجة الى معرفة عميقة بالدراسات العربية والاسلامية في الغرب التي لم يعد يطلق عليها مصطلح استشراق، نحن بحاجة الى ان نرسل اليهم من ابنائنا الذين عرفوا الاسلام معرفة حقيقية ووصلوا الى درجة عالية من الاعتزاز به، كما اننا بحاجة الى المشاركة في ندواتهم ومؤتمراتهم وحلقات البحث العلمي، ويجب ان نختار من العلماء والباحثين المسلمين من يجيد اللغات الغربية ليصل اليهم في اكبر تجمعاتهم الفكرية والثقافية، وان يتحلى بالادب القرآني في مجادلة اهل الكتاب، وللحقيقة ان القوم لديهم الاستعداد ليسمعوا الحق لو بذلنا نحن الجهد ان نصلهم.

واختم حديثي عن الاستشراق بالدعوة الى ان ندرسهم وان نتعمق في فهمهم ودراسة قضاياهم الفكرية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وحتى اللاهوتية، وعرفت ان بعض المعاهد اللاهوتية ترحب بباحثين مسلمين لدراسة الفكر اللاهوتي الغربي، ألسنا أمة الشهادة ؟ وكيف لنا ان نصل الى الشهادة عليهم وعلى البشر اجمعين بدون معرفة حقيقية؟ فهل من مستجيب؟

* باحث سعودي وأستاذ الاستشراق المشارك بقسم الثقافة الاسلامية بجامعة الملك سعود