هل من سبب خاص يخلق متعصبين دينيين؟

السيد ولد اباه

TT

تساءل الزميل طارق الحميد في أحد مقالاته الاخيرة، معلقا على اعتقال المجموعة الإرهابية الأخيرة بالمملكة العربية السعودية «كيف يتم خلق تلك الجماعات في المجتمع رغم كل الجهود الأمنية؟». صحيح أن المملكة ليست استثناء.. فالمجموعات نفسها موجودة في كل مكان ... نشطة في ساحات عربية وإسلامية عديدة، ومع ذلك فإن البعض يرى للإرهاب الأصولي في الساحة السعودية خصوصياته التي تستدعي وقفة تحليل واستكناه. ولا شك أن الدورة الأخيرة للحوار الوطني التي خصصت لموضوع الإصلاح التربوي قد وضعت الإصبع على الرهان المحوري لأزمة العنف والتطرف الديني بإبراز الجوانب المتعلقة بالنموذج التعليمي والثقافة المدرسية العامة وطبيعة المادة الفكرية المتداولة. ولا بد في هذا الباب من التنبيه إلى خطأين شائعين هما من وجهة إرجاع هذه الثغرات التربوية إلى ما يعتقد أنه عقيدة رسمية للدولة أو من جهة أخرى إرجاعها إلى طبيعة التركيبة المجتمعية المحلية. أما المقاربة الأولى السائدة خصوصا في الأدبيات الغربية فتتلخص في اختزال الشرعية الدينية للدولة السعودية في شكل من «الأديولوجيا الوهابية» الحاكمة التي ينظر إليها بصفتها أكثر صيغ الإسلام السياسي عدوانية وانغلاقاً. وإذا كان من المؤكد بالنسبة للذين يعرفون جيدا خلفيات وأبعاد الثقافة السعودية أن هذا التصور زائف (لا وجود لعقيدة أو آيديولوجيا وهابية أو سلفية) إلا أنه لا بد من الإقرار أن التيارات المتطرفة المرفوضة رسميا والمعزولة داخل الحقل المؤسسي الديني استطاعت أن تبني شبكة نشطة داخل الفضاء التربوي والثقافي، مستندة لأكثر القراءات انغلاقا وإقصائية للتراث السلفي الحنبلي. ومن المفارقات المثيرة أن تستند هذه التيارات لرمز علمي وفكري كبير بحجم ابن تيمية بالرجوع المتسرع غير الدقيق لبعض نصوصه المطبوعة بالظرفية التاريخية الوسطية (مواجهة الغزو التتاري والصراع الطائفي المتجاوز). فالقراءة المتمعنة لنصوص ابن تيمية تبين تعايش مستوين في فكره (على غرار كل كبار الفلاسفة) المستوى الآيديولوجي التعبوي المباشر الرامي إلى توثيق اللحمة الفكرية العقدية للمجتمع والمستوى العقلاني الأعمق الذي يقوم على فكرتين محوريتين هما: ازدواجية الحقيقة وطرق التعبير عنها، ومنزلة العقل والمصلحة في بناء المعارف وإدارة شؤون الناس (لنا عودة موسعة للموضوع). ومن الواضح أن هذه السلفية التكفيرية المقاتلة نبتة غربية داخل الأرضية الثقافية السعودية، لها جذورها المعروفة التي ليس هنا مجال التعرض لها. أما المقاربة الثانية فترد بصفة واسعة في بعض الأدبيات الاجتماعية والسياسية العربية بالانطلاق من قراءة زائفة ومتعسفة لتركيبة المجتمع السعودي بصفته حصيلة العقلية العصبية البدوية والريع النفطي. والخلل الواضح في هذه المقاربة يتمثل في عدم إدراك الحجم الهائل للتحولات المجتمعية العميقة التي تولدت عن الحقبة النفطية وانعكاساتها الاقتصادية. ومن أهم هذه التحولات بروز طبقة وسطى واسعة متعلمة ونشطة وتتمتع بانفتاح واسع على العالم وبارتباط وثيق بمراكز المنظومة الاقتصادية والتقنية الدولية. فمن الخلف النظر لواقع النخبة السعودية من بوابة المجموعات المتطرفة المحدودة، وإن كان لا بد من التنبيه إلى أن خلفيات الإرهاب في المملكة لا تفسر كما هو الحال في أكثر البلدان العربية بالعوامل الاقتصادية والاجتماعية (الإقصاء والفقر والتهميش) بل له في بعض جوانبه مسببات ثقافية أشرنا إليها. والمفارقة البادية للعيان هنا: أن هذه المجموعات المعزولة الهامشية قد ارتفع صوتها في الآونة الأخيرة، في ما وراء عمليات العنف التي تراجعت بشكل واسع. وفي حادثة حصلت في أحد مسارح الرياض مؤخرا دليل على هذا البروز الاستعراضي. وقد كنت حاضرا في العام الماضي خلال الأنشطة الثقافية لمعرض الكتاب بالرياض عندما حاولت المجموعة نفسها التشويش على الندوات الفكرية المتميزة التي أقيمت بالمناسبة. وكنت أوانها قد التقيت بأحد الشخصيات الدينية المرموقة النشطة في برامج الحوار الثقافي الوطني، نبهتني إلى أن الأمر يتعلق أساسا بفئات شبابية محدودة الثقافة ضحلة الاطلاع على المعرفة الشرعية، تستمد المادة العلمية من ساحات الإنترنت وكتيبات التعبئة المبسطة. سألت محاوري لماذا لا تقدم لهؤلاء بضاعة بديلة؟ فاعترف أن الحاجة قائمة والمقصد موجود، بيد أن المسألة تتجاوز الحيز الثقافي السعودي، إذ مصادر التأثير تأتي في الغالب من الخارج، واتفقنا على أن العلاج الأوحد هو الإسراع في دفع باب الإصلاح الثقافي والتربوي الشامل بغرس قيم الانفتاح والتجديد والنقد والتساؤل التي هي قيم إسلامية أصيلة. قلت لمحاوري: إن الخطوة الأولى هي تحقيق مصالحة طلاب التعليم الشرعي مع ثقافة عصرهم، بإقناعهم أن الحداثة ليست غزوا ثقافيا مرفوضا بل رهان إنساني كوني وأن البشر عيال الله يتشابهون في الخلق وإن اختلفوا في المعتقد.