خطاب النخبة

TT

الشرائع السماوية خاطبت الجمهور بلغة قريبة سهلة، لكن المشكلة أن البعض يصعّب العبارة ويعقّد المعلومة حتى لا يفهمه إلا نفرٌ يسير، فإذا تكلم تقعَّر وتشدَّق، والبياض إذا كثر أصبح برصاً، وكان ينبغي على رجال العلم والثقافة وحملة الأقلام عموماً أن يتنزّلوا بخطابهم إلى جماهير الناس، ولا ينتهي عجبي من كبار المثقفين وهم يلوكون مصطلحات لا يعرفها إلا ابن رشد وجان جاك روسو وفولتير، ولقد سمعتُ أحد المفكرين الفلاسفة الكبار وقد جاوز الثمانين في إحدى القنوات وهو يتكلّم بحذر وتكلّف وتنطع، ثم سعل ثم عطس ثم تثاءب ثم عبس وبسر ثم أدبر واستكبر، يحدثنا عن الجوهر والعَرَض عند سقراط، ونظرية الشك عند ديكارت، بعبارات ملغَّزَة كأنها طلاسم، فقلت في نفسي: من يفهم هذا الكلام؟ وبعض طلاب الجامعات العرب لا يعرف هل سقراط صيني أو روسي أو من عمّال الفحم في ساحل العاج، وبقيتُ أشاهد هذا الفيلسوف وهو يعصر ذهنه ويقطّب جبينه؛ ليقول لنا: «إن المعرفة تنطلق من أُطر المصطلحات وتنبثق من بوتقة العلم اللامتناهي لنجد فيها الأفكار الماضويّة والآيديولوجيات حسب ذهنية المتلقي المحايد» فقلت: الحمد لله على السلامة، ورجعتُ إلى نصوص الوحي وكلام الأنبياء وحِكَم العلماء، فوجدتُ السهولة والإشراق والوضوح، هل نحن بحاجة، حتى نثبت للناس أننا مثقفون وفلاسفة، أن نمطرهم بمصطلحات غريبة شائكة يُصاب منها السامع والقارئ بدوار ودواخ؟ لمن نتحدث إذا كان جمهورنا لا يفهم ما نقول ولا يعي ما نكتب؟ إن التصعيب والتعسير يجيدهما الكثير ولكن التيسير والتسهيل لا يجيدهما إلا القليل، وكلام بعض الفلاسفة كلحم جملٍ غثٍّ في إناء من ذهب على رأس جبل وعر، فلا اللحم سمين يستاهل أن يُحمل، ولا الجبل سهل يُرتقى فيه، ثم إن كثيراً من القضايا الفلسفية قد عفا عليها الزمن وجدّت هناك مصطلحات علمية، فلماذا نخاطب القوم بخطاب ارسطاطليس وجالينوس، ولقد قرأنا لأساطين العلم والأدب شعراً ونثراً كالشافعي والجاحظ وابن تيمية والمتنبي فوجدنا إشراق العبارة، ووضوح الفكرة وسهولة الجُمل وعذوبة اللفظ، بل إن بعض الأدباء يعدُّ مقدمة ابن خلدون لوحات أدبية جميلة مع العلم أن توينبي المؤرخ الإنجليزي الشهير يقول: «ما أنتج عقل بشري كمقدمة ابن خلدون». إن بعض مثقفينا يحتاجون إلى دورات تدريبية مع كتب الجاحظ ولسان الدين الخطيب وابن الجوزي؛ ليخرجوا من عقدة التكلّف والأحاجي والألغاز التي يمطروننا بها صباح مساء وكأنها طلاسم المنجمين، إن أكبر مثقف في عالم الأدب عند العرب هو الجاحظ، ومع هذا فمازال كلامه عذباً سهلاً يذوب رقةً ويفيض إشراقاً ويشع جمالاً كما قال ابن الرومي في محبوبته: وحديثُها السحرُ الحلال لو اَنَّها لم تجن قتلَ المسلم المتحرِّزِ إنْ طال لم يُملَل وإن هي أوجزت ودَّ المحدَّثُ أنها لم توجزِ سلام على من أحسن الخطاب وطالع بيان القرآن الآسر؛ ليعيش تلك الفصاحة الباهرة مع ظهور المعنى وحسن السياق وجماليات التركيب، ولقد أنبهر العلاّمة الزمخشري وهو أحد أساطين البيان العربي من أسرِ وفخامة وحلاوة القرآن، بل لقد اندهشت قريش وهم روَّاد الفصاحة من هذا الكتاب الخالد وأعلن الجميع عجزهم عن معارضته ومجاراته، بل عجبت منه الجن وتواضع له الإنس وسجد في محراب فصاحته العقل، مع العلم بأن القرآن ميسَّر في فهمه، سهل في معرفة مقاصده بخلاف كلام النخبة الذين وعَّروا مسلك الخطاب وصعَّبوا طريق الفهم على المتلقي، فصارت كتبهم جثثاً هامدة لا روح فيها ولا حياة، فصار يطبع من كل كتاب لهم ألف نسخة وباعوا منها ثلاثين نسخة بعد التخفيض، كما قال أحد فلاسفة العصر: إن الفلاسفة تقول كلاماً غير مفهوم إلى قومٍ لا يفهمون شيئاً، وبعض العباقرة يحسن تسهيل العبارة وتيسير المعلومة ولكنه أحياناً يبتلى بلوثة فيصعِّب، كما قال أبو الطيب المتنبي يمدح عضد الدولة: فَما يُسمى كَفَنّا خُسرَ مُسمٍ وَلا يُكَنى كَفَنّا خُسرَ كاني فضحك منه الأدباء.