«الشيخ المعجزة» يثير جدلا في الأوساط الدعوية

ظاهرة تخصص الأطفال في وعظ الجماهير والخطابة فيهم

TT

ظاهرة مزاحمة «الشيوخ الصغار» أو «الدعاة الأطفال» للفقهاء والعلماء المخضرمين في اعتلاء منابر خطب الجمعة في عدد من الدول العربية وتقديم الدروس الوعظية الدينية والإجابة على استشارات العامة، الأمر الذي امتد أيضا إلى تسجيل دروس وعظية أبطالها «الدعاة الأطفال» توزع حاليا في الأسواق السعودية.. ظاهرة عمرها اكثر من عقد، انقسم العلماء حيالها ما بين مؤيد ومعارض.

كان لمحاكاة أطفال ما دون العاشرة لهيئة العلماء ورجال الدين كارتداء اللباس الأزهري وإلقاء خطب الجمعة متلاعبا بنبرات صوته لخلق روح حماسية مستعينا بحركات من يديه الصغيرتين باعتباره حافظا للقرآن الكريم والأحاديث المتفق عليها، منافيا لحقوق الطفل كما رأى المعارضون، لما في ذلك الأمر من سلب للبراءة، واستغلال «راق ومهذب» للطفل، من خلال الظهور عبر القنوات الفضائية ومواقع الانترنت، تماما كما يحدث مع الطفل المعجزة في الغناء وفي تقديم العروض البهلوانية في السيرك.

في المقابل، ذهب بعض المؤيدين إلى حد اعتبار تعليم الطفل على الخطابة والشؤون الدعوية، إحدى أساسيات التربية الإسلامية النموذجية، بما فيها اعتباره كـ«شو» عرض في مختلف المناسبات، حيث أن هذا الأمر من وجهة نظرهم فرصة للأطفال الآخرين الاقتداء بهم واتباع حذوهم.

نماذج واقعيه لـ«الدعاة الأطفال» شكل ظهور الطفل الداعية «أمجد» 11 عاما في فلسطين، والذي ما زال وحتى اليوم يلقي خطبه ودروسه الوعظية في أكثر من أربعين مسجدا، ظاهرة غريبة بعض الشيء، قبل أن تنهال عليه الاتصالات لإلقاء الدروس في المساجد مرتديا العمة وسروالا يعلوان جلبابا قصيرا، في مؤشر لتقبل العامة لهذا النوع من الظهور.

ومع توجه «الدعاة الأطفال» ومحاكاتهم لشخصيات إسلامية معروفة لمشوارها الطويل في مجال الدعوة كالشيخ «كشك»، ظهر أيضا في مصر الطفل «مسلم» 4 أعوام والذي يرى فيه والده رغم كتابته كما ذكر في أحد اللقاءات لخطب ابنه «الشيخ الصغير» الذي يعكف لساعات طويلة على حفظها، «مشروع عالم كبير يقدم للأمة»، وهو ذاته الذي عرضت إحدى خطبه على شاشة تلفاز إحدى القنوات الفضائية، وهي التي تحدث فيها عن تغريب الأمة مستندا لأقوال شيخ الإسلام «ابن تيمية».

وتلى الطفل المصري، الذي بدا وكأنه نجم لامع في مرحلة من المراحل السابقة، بروق نجم الشيخ الصغير «ضياء» في سماء سوريا بالإضافة إلى الداعية الفتى «عبد الله الجبر» الذي تفوق على «الدعاة الأطفال» السابقين بتسجيل محاضرته الدعوية وخطبه الدينية والتي بدأ في إلقائها في 9 من عمره عقب حفظه للقرآن و2000 حديث شريف في التاسعة من عمره توزع حاليا في الأسواق السعودية، وكما ذكر أبو عبد الله مسؤول في احدى مؤسسات التسجيلات الإسلامية أن للطفل الداعية عبد الله الجبر ما يقارب 20 شريطا تم توزيع 15 ألف نسخة في السعودية من شريطه «سكرات الموت» والتي ألقاها وهو لا يتجاوز التاسعة من عمره.

* تجربة حية لـ«الشيخ الصغير» ولمعرفة ما إن كان انخراط الأطفال في عالم الخطابة والوعظ انتهاكا لطفولتهم بتحويلهم نموذجا اكبر مما هم عليه فعلا حيث يطلق عليه «الشيخ» أو «مولانا» بينما هو مجرد طفل موهوب بما لديه من ملكة الحفظ والتقليد، توجهت «الشرق الأوسط» بتساؤلاتها لعبد الله الجبر الفتى الداعية 21 عاما والذي بدأ مشواره الدعوي والخطابي في التاسعة من عمره عقب أن حفظ القران الكريم وألفي حديث شريف على يد الشيخ مصطفى العدوية في مصر لتبدأ مرحلة عروض إلقاء الدروس الوعظية والتحضير للخطب ألقى عددا منها في مساجد مختلفة في السعودية سُجل بعض منها لتبدأ في الرواج ما بين العامة. وكما قال الفتى الداعية عبد الله الجبر كانت أول خطبة ألقاها ولمدة عشرين دقيقة في احد المساجد مثلت بداية ظهوره أمام الملأ في التاسعة من عمره وكانت سببا في تعرف عدد من الأئمة والمشايخ على «الشيخ الصغير» الذين لم يتوانوا عن تخصيص دقائق له لإلقاء خطبه عقب كل صلاة حتى أن انتهى الأمر بإلقاء خطبة الجمعة كاملة وهو لا يتجاوز العاشرة من عمره.

أما المواضيع والقضايا التي دأب على إلقائها «التقوى» و«التوحيد وأقسامه» وغير ذلك من المواضيع التي طالما ساعده والده على إعدادها وكتابتها، اشار الجبر إلى أن تعلم فن الخطابة والإلقاء كان أيضا على يد والده ورئيس جماعة أنصار السنة في ذلك الوقت الشيخ محمود غريب.

وفيما يتعلق بالمصاعب فقد كانت في الحفظ والمراجعة التي كانت بحاجة إلى جهد كبير منه كما ذكر، إلا أن الانتقادات انهالت عليه من الطرفين سواء أكانت من قبل «المحبين» كما وصفهم أم «الحاقدين» فكان تحفظ الأولى على ضرورة التركيز على جانب التمكن العلمي والشرعي من كافة جوانبه ثم البدء عقب بلوغه سن النضج بإلقاء الدروس الوعظية والخطب الدينية. واكتشف الداعية الفتى الجبر أن ما قيل له قبيل سنوات عدة من قبل «المحبين» كان صائبا، مشيرا إلى أن بدء الدعوة في سن الطفولة تجعل من «الداعية» كالورقة المحروقة بعد نضجه إذا تبقى الأذهان محتفظة به بصورة «الشيخ الصغير» إضافة إلى استنفاد كل طاقاته، مؤكدا أن ما سينهجه مع أطفاله في المستقبل هو الاكتفاء بتحفيظهم القرآن الكريم والسنة النبوية في سن مبكرة وعدم الانخراط في المجال الدعوي وإلقاء الخطب سوى عقب بلوغهم سن الرشد والتمكن من العلوم الشرعية كافة قبل المواجهة كما أفاد.

ومن بين السلبيات أوضح الجبر أن اكتسابه للشهرة منذ أن كان صغيرا بسبب ما تميز به من قدرة على الحفظ وإلقاء الخطب زالت بعد نضجه، مفيدا بانه أصبح الآن مجهولا لدى الآخرين حيث أن كثيرا منهم كما ذكر لا يعلم أن الأشرطة الدعوية لـ«الشيخ الصغير» هي لذات من يلقي خطب الجمعة في الوقت الحالي. وحول أسباب حرص الأب على تنمية الجوانب الدعوية والخطابية لابنه الداعية في سن مبكرة قال أبو عبد الله لـ«الشرق الأوسط»، وله من الأبناء أربعة معظمهم من حفظة القرآن الكريم، انه وعقب أن لاحظ فصاحة الطفل في الحديث وهو لا يتجاوز الثانية من عمره بدأ الاهتمام بتحفيظه القرآن والذي أتمه في السابعة من عمره حتى أن عمد الأب عقب ذلك إلى تحفيظه وعلى يد من المشايخ المعروفين الأحاديث الشريفة والذي أتم حفظ كتاب «اللؤلؤ المرجان لما اتفق عليه الشيخان» في التاسعة من عمره، لتبدأ مسيرة «الشيخ الصغير» بإلقاء خطبه لدقائق معدودة وبمساعدة الأب في مختلف المناسبات حتى أن بدا في إلقاء خطبة الجمعة كاملة وهو في العاشرة من عمره، وكما ذكر الأب أبو عبد الله فنصوص ومواضيع الخطبة كانت تصاغ وتنظم من قبله وبمشاركة «الداعية الصغير».

وحول تجربة تسجيل الأشرطة الوعظية الدينية قال أبو عبد الله انه وفي فترة وجيزة بدأت بعض الشركات بتسجيل خطبه في صلاة الجمعة حتى تقدمت شركات التسجيلات الإسلامية بعد ذلك بأخذ الدروس الوعظية عنه وتسجلها باتفاق مشترك بين الطرفين. ولم تقتصر تجربة «الطفل الداعية» على إلقاء الدروس الوعظية والإرشادية التي شملت أحاديث عن المرأة وتحديات الأمة الإسلامية و«سكرات الموت» وإنما أيضا وهو لا يزال في العاشرة من عمره بدا في الإجابة عن استفسارات العامة لما يتعلق بالشؤون والواجبات الدينية كما أكد أبو عبد الله «الفتى الداعية».

* إلقاء الخطب والدروس الدينية جائز لـ«الطفل» واعتبر الشيخ عبد الله بن منيع عضو هيئة كبار العلماء في حديثه لـ«الشرق الأوسط» أن إلقاء الخطب والدروس الوعظية لمن في سن مبكرة من قبل عدد من الفتية ممن لا تتجاوز أعمارهم العاشرة أو يفوق ذلك بقليل ظاهرة جيدة ولا بد من تشجيعها، مشترطا ذلك بوجود المتابعة والإحاطة بالرعاية والمراقبة من قبل العلماء.

ورأى بن منيع أنه لا مانع من إلقاء من هو دون العاشرة من عمره لخطب الجمعة في حال كان مؤهلا لذلك الأمر الذي قصد به تمكنه من العلم الشرعي، وفي حال عدم وجود من يقوم بأداء الخطبة أكثر منه علما، مفيدا بأن كتابة ولي الأمر (الأب) للخطبة أو الدروس الوعظية لا تبدل من الأمر في حال كان للطفل القدرة على الخطابة والإلقاء.

* «خطابة» الصغير مدعاة للغرور والرياء وحول تحويل بعض الأطفال الموهوبين والمبدعين لـ«خطباء» و«علماء» ومدى انسجامه مع مبادئ الشريعة الإسلامية أوضح الشيخ والداعية المعروف عايض القرني لـ«الشرق الأوسط» أنه بمشاهدته وملامسته لمثل هذه المظاهر في المجتمع السعودي ومعايشته لعدد منها، فإنه يشير إلى أن حفظ الطفل للقرآن الكريم والمتون وإلقاءها في مجالس عامة له عليها بعض التحفظات، والتي منها اعتباره لذلك احد مداخل الرياء التي قد تصيب قلب الأب أو الطفل إلى جانب الخشية من تعرض الطفل للحسد. ولم يعارض القرني تشجيع الأطفال الموهوبين وبصورة جماعية ومنظمة من قبل جهات رسمية على حفظ القران والأحاديث الشريفة معترضا في الوقت ذاته أن يطاف بالأطفال في المجالس والجوامع للتعريف بهم وبما يتميزون به من موهبة الحفظ أو الخطابة متسائلا عن فحوى الرسالة التي يرغب الأب في إيصالها للعامة. وأوضح القرني ومن خلال إحدى مشاهداته حجز مواعيد مختلفة لـ«الشيخ الصغير» مع عدد من الدعاة المعروفين وضرب المواعيد له لعرض «بضاعته» في المجالس، واوقاتا أخرى تكون بصورة «سوقية» بحسب وصفه. «لا بد من إكرام المبدع والمتميز وإنما لا يكون بهذه الطريقة» كما أكد الداعية عائض القرني، مفيدا بأن في ذلك تشهيرا بالطفل وإحراجه أمام جموع البالغين، الأمر الذي قد تكون له نتائج عكسية على نفسيته، ويأتي ذلك كله تبريرا من قبل الآباء أن هذه هي «التربية الإسلامية النموذجية».

وحول البدء في تحفيظ الطفل القرآن الكريم وهو لا يتجاوز الثانية والثالثة من عمره أو حفظ الأحاديث الشريفة قال الداعية عائض القرني إن الإسلام دين واقعي راعى النمو العقلي والجسمي للإنسان، فأمر الرسول الكريم بتوجيه طفل السابعة لأداء الصلاة وليس قبلا، فحكمة ذلك بحسبه لمراعاة نمو العاطفة والجسم والعقل، مستشهدا أيضا بالآية الكريمة التي أشارت إلى طلب إخوة يوسف مرافقته لهم للعب، الأمر الذي استدل به القرني على ضرورة إتاحة الفرصة للطفل للتمتع بطفولته البريئة بالقيام بالأعمال المباحة وان كان ميله في الحفظ والاطلاع وباختيار شخصي دون توجيه أو إرغام، فلا يمنع من ذلك.

ومن تجاوز الخامسة عشرة لا يعارض الداعية عائض القرني تقديمه دروسه وعظية وإلقاء الخطب على عامة الناس والمصلين حيث أن التاريخ الاسلامي كما ذكر شهد مشاركة من هم في مثل هذا العمر في المعارك والغزوات، مشترطا في ذلك ضبط الأمر وعدم فتح الباب على مصراعيه أمام كل من رغب في إلقاء الخطب والدروس الوعظية الدينية. وشدد القرني على ضرورة اقتصار جهد الشباب في مسألة الوعظ والإرشاد في المسائل الحياتية والآداب العامة بدون الاجتهاد وتقديم الفتيا في المسائل الدينية، محذرا من خطورة الأمر إن حصل.

وقال الدكتور عبد العزيز الحربي مدير مركز التراث الإسلامي في جامعة أم القرى بأهمية النظر في حال الطفل وطريقة عرضه على الناس، ورغم ايجابيات الأمر لما يتعلق بتشجيع الطفل إلا انه قد يصيب الطفل بالغرور أو يأخذ منحى مغايرا في حياته بعد بلوغه كما المشهود في بعض الحالات السابقة كما ذكر. وأيد تشجيع أولياء الأمور لابنائهم حفظ القرآن والأحاديث الشريفة في سن مبكرة، رافضا أن يمتد الأمر إلى الرقي بالطفل لمكانة الفقهاء والعلماء بإلقاء الخطب والدروس الوعظية والإجابة على استفسارات العامة باعتباره محاكيا ومقلدا، فمنافسة العلماء بحسبه ليست وظيفته، مؤكدا عدم إباحة الصلاة خلفه في حال لم يبلغ، أو حتى الأذان.

* رأي الطب النفسي اعتبر منير نصر استشاري الطب النفسي أن تلقين الطفل الصغير للدروس الوعظية الدينية وإلقاء الخطب في المساجد إنما هو استغلال له ولبراءته، مشيرا انه في بعض الحالات في حال كان الطفل مرغما على اتباع الطريق الدعوي والخطابي فالأمر حتما كما ذكر سينقلب ضده متخذا طريقا مغايرا لذلك.

وأوضح النصر أن انخراط الطفل في المجال الدعوي والخطابي سيتسبب في عزله عن المجتمع الآخر فارضا عليه تقمص دور ليس بدوره، منوها إلى أن إعجاب الآخرين بـ«الطفل الداعية» ليس لقناعة منهم بدوره الديني والإرشادي وإنما فقط لما يتمتع فيه من موهبة الحفظ وملكة التقليد والمحاكاة.