إجماع قضائي وحقوقي على غياب الأنظمة المساعدة على ظهور «العقوبات البديلة»

TT

أجمع عدد من القضاة الشرعيين والحقوقيين في السعودية، على صعوبة اعتماد «العقوبات البديلة» كخيار آخر لحبس الحرية (السجن)، في ظل غياب نظام للعقوبات يحدد الجرائم وعقوباتها، إلى جانب غياب آلية تنفيذ «العقوبات البديلة» المقررة.

وتسبب حصر الأنظمة الجزائية السعودية القائمة، كنظام الغش والتزوير، العقوبة في السجن أو الغرامة المالية، بحسب المختصين، في تعقيد مهمة القاضي عند الرغبة في الحكم بعقوبة بديلة لتلك الأحكام، كالخدمة الاجتماعية والحبس في المنزل أو إطلاق سراح مشروط وغيرها.

يأتي الحديث عن «العقوبات البديلة» في الوقت الذي تعكف فيه وزارة العدل في السعودية بالتعاون مع عدد من الجهات الحكومية المختصة، على إعداد دراسة شاملة لإيجاد بدائل لعقوبة السجن، وهي العقوبة التي غالبا ما يلجأ القضاء السعودي إلى إيقاعها على الأشخاص، ممن تستحق جرائمهم سلب حرياتهم.

وتشارك حاليا بعض الجهات الحكومية المختصة في دراسة إيجاد بدائل لعقوبة السجن كتقديم خدمات اجتماعية أو حضور السجين دورات تدريبية إصلاحية أو المشاركة في الأعمال الخيرية ونحوها.

وتزامنا مع ذلك تؤكد وزارة العدل على أن القضاء في أساسه ومرتكزه يعتمد على الكتاب والسنة، وتقدير التعزيرات في الشريعة متروك لاجتهاد القاضي وليس في الشرع أو النظام تقييد لعقوبات محدودة في كل الجرائم.

* ضرورة تغيير الأنظمة القائمة طالب حجاب الذيابي، المحاضر في المعهد العالي للقضاء ـ قسم السياسة الشرعية، بضرورة تغيير بعض الأنظمة القائمة وإعادة النظر فيها لفتح الباب أمام العقوبات البديلة وعدم حصرها في عقوبتين، الأمر الذي أشكل على القضاة اجتهاد عقوبة ملائمة تبعا لحالة وظروف المخالف، كون بعض الأنظمة الجنائية كالتزوير والاختلاس وسوء استغلال السلطة والنفوذ، محصورة بالسجن والغرامة المالية، الأمر الذي يعيق القاضي في اجتهاد عقوبة أخرى في حال لزم الأمر.

وأرجع الذيابي تخوف المعارضين من تطبيق «العقوبات البديلة» إلى عدم تصور ماهية هذه العقوبات لدى المختصين والعامة، ومدى مشروعيتها، والجدوى منها، الأمر الذي يقف حاجزا في وجه القضاة، منوها بأهمية «العقوبات البديلة» التي تكمن في تخفيف نزلاء السجناء، فالعقوبات التي تحقق الزجر والردع لابد من اعتمادها عوضا عن حبس الحرية مع عدم إلغائها تماما.

وبين الذيابي أن الفرصة سانحة للقضاة في سبيل اعتماد «العقوبات البديلة» في بعض الأمور، باستثناء ما تم حصره في الأنظمة الخاصة، مشيرا إلى اعتماد ديوان المظالم حاليا بعض أنواع العقوبات البديلة، كالغرامة المالية ووقف تنفيذ العقوبة لتجنب السجن.

وأوضح الذيابي في توصيات بحثه الخاص حول بدائل السجن أن «الشريعة الإسلامية تعطشت لعقوبات بديلة عن حبس الحرية، منها حكم الرسول الكريم بالملازمة أو الحبس في الدور أو في المسجد، بالإضافة إلى الغرامة المالية والجلد وأحيانا أخرى الاكتفاء بالتوبيخ»، مشيرا إلى أن الهدف من العقوبة في الشريعة الإسلامية الإصلاح والزجر وليس التشفي والانتقام.

ويؤيد القاضي صالح آل الشيخ رئيس محكمة الرياض مبدأ «العقوبات البديلة» في سبيل الحد من عقوبة حبس الحرية، والتي عدها عقوبة مستحدثة في عهد الخليفة الراشد الثاني عمر بن الخطاب، حيث أن أصل العقوبات الشرعية، كما ذكر، الجلد والتغريب وغيرهما.

إلا أنه يؤكد أن تفعيل مثل هذه العقوبات من قبل القضاة أنفسهم في الوقت الحالي بحاجة إلى أمور عدة، في مقدمتها توفير آلية واضحة ومتكاملة لمتابعة تطبيق العقوبات البديلة وتنفيذها، تجنبا للفوضى، مشيرا إلى أن القاضي لن يتمكن من إصدار أحكام في ظل عدم تيقنه من احتمالية تنفيذها ووقوعها على المتهم.

وأفاد آل الشيخ بضرورة ملاءمة «العقوبات البديلة» المقترحة في سبيل ردع المخالفين وحفظ أمن المجتمع، مشيرا إلى أهمية عدم اعتبار هذه العقوبات بمثابة غطاء لضعاف النفوس، وعدم تهيئة العقوبات البديلة للتطبيق.

من جانبه، رأى ناصر آل طالب، القاضي في محكمة عرعر، عدم مبادرة القضاة في أحكامهم بعقوبات بديلة في الوقت الحالي، حتى يتأكدوا من توفر أدوات التنفيذ لهذه العقوبات، مشيرا إلى أن إيقاع عقوبة تنظيف المسجد، على سبيل المثال، لمائة ساعة بحاجة إلى أن تكون الجهة التنفيذية مستعدة لمتابعة هذا العمل الإضافي، والتي يجدها آل ناصر غير مهيأة حاليا لمتابعة مثل هذه العقوبات. وانسجاما مع ما نصت عليه القوانين الدولية والخاصة بحقوق الإنسان على احترام حرية الفرد والعمل على حمايتها وعدم تقييدها إلا في حدود الضرورة، وتقدر الضرورة بقدرها دون إفراط أو تفريط.

الشريعة الإسلامية بحسب آل طالب أتاحت فرصة إيجاد عقوبات متعددة بالإمكان اعتبارها بدائل لعقوبة السجن, موضحا أن من العقوبات الموقعة على بعض «المعاصي» عتق رقبة، بالإضافة إلى كفارات الصيام 3 أيام، داعيا إلى النظر في هذا المعنى لتوليد أفكار منسجمة مع القضايا المعاصرة.

وقال آل طالب إنه من المناسب العودة إلى أصحاب الحقوق الخاصة لسؤالهم عن نوعية العقاب المراد إيقاعه أن كان بالسجن أو استبداله بفرض أي عمل خيري على الغريم، كبناء مسجد. واعتبر القاضي آل طالب أن البحث عن بدائل لعقوبة السجن مطلب ملح في كثير من القضايا التي تظهر من خلالها السلبيات الكبيرة المترتبة على الأشخاص، كالحرمان من الوظيفة أو الانقطاع عن الدراسة أو حصول الطلاق، إضافة إلى الاختلاط بالمجرمين.

ودعا آل طالب إلى ضرورة تشكيل لجنة مكونة من وزارة العدل والداخلية ومتخصصين في علم النفس والتربية والسلوك والجريمة، بالإضافة إلى وزارة الشؤون الاجتماعية لبحث الموضوع والاستفادة من تجارب الدول الغربية والشرقية، التي قطعت أشواطا جيدة في هذا الشأن.

* القوانين الدولية تحصر «سلب الحرية» تطالب المواثيق الدولية المهتمة بالشأن الحقوقي ضرورة ابتعاد المجتمع عن اللجوء إلى التجريم والعقاب الذي يمثل مساسا بالحقوق، إلا إذا لم يكن بالإمكان حماية المصلحة الاجتماعية بتدابير أخرى، وإلا أصبح عملا تعسفيا واستبدادا، بمعنى أن القيام بعملية التجريم وفرض عقوبة جنائية في مواجهتها هو وضع تمليه الضرورة لا ينبغي اللجوء إليه سوى عقب استنفاد الوسائل الأخرى.

وترى ذات المواثيق أن سلب الحرية لا يكون إلا لمن تشكل حريته خطرا أو إفسادا للآخرين، حسب نص البند الثاني من الوثيقة الخضراء الكبرى لحقوق الإنسان. كما يجب على المشرع اللجوء إلى بدائل العقوبة قبل اللجوء إلى العقوبة، فإن عليه أيضا اعتماد «العقوبات البديلة» للعقوبات السالبة للحرية في البداية، وتترتب العقوبات بذلك بدائل العقوبة، تليها عقوبات بديلة للعقوبات السالبة للحرية، وأخيرا عقوبات سالبة للحرية.

وفي هذا الصدد، أفاد المحامي والحقوقي خالد المطيري، أن التراث القضائي الذي ينهل منه القضاة هو السبب الأكبر في عدم اعتماد العقوبات البديلة، حتى الوقت الحالي، كون المؤسسة القضائية في السعودية تأسست وهي تسير باتباع طريقة قضائية منفردة بمراجع فقهية وقانونية واحدة، بعيدة عن التقنين والتطور في العمل القانوني، إلى جانب دور النقص التشريعي الهائل في القانون الجنائي السعودي، الذي بحسب المطيري، لا توجد قواعد جنائية مكتوبة أو قانونية تتعلق بالتجريم والعقاب تتيح من خلالها إيجاد العقوبات البديلة، مما اعتبره إخلالا كبيراً بمبدأ مشروعية الجريمة والعقاب الذي يفترض أن تكون جميع الأفعال المجرمة وعقوباتها محصورة ومعروفة.

وأكد المطيري أن التشريع الجنائي الإسلامي فتح باب الاجتهاد لتحديد الجرائم وعقوباتها فيما يعرف بالتعزيرات، وهي جميع الأفعال التي يرى المجتمع تجريمها، وبالتالي استحقاق مرتكبها للعقوبة، ولم يلزم القائم بالتشريع على اتباع نمط معين في العقوبات، كما لا يوجد نص في الشريعة يحدد الجريمة والعقوبة غير ما جاء في الحدود، بالتالي فإن القول بعدم ورود مثل هذه العقوبات في الشريعة قول مرفوض بحسب المحامي المطيري، مؤكدا أن «عدم وجود تطبيق لها في التاريخ الإسلامي لا يعني رفضها».

وحول مدى إمكانية البدء في تفعيل العقوبات البديلة في السعودية بين المطيري استحالة تفعيل هذه العقوبات دون صدور نظام للعقوبات يحدد من خلاله الجرائم وعقوباتها، وبالتالي يسند تنفيذ العقوبة إلى السلطة القضائية، وذلك عبر ما سماه «قاضي تنفيذ العقوبات».

وبحسب المطيري، فإن قاضي العقوبات، هو من يتولى تحديد ماهية العقوبة ومتابعة تطبيقها بعيداً عن السلطة التنفيذية، فبعد صدور الحكم القضائي الذي يدين المتهم ويحدد عقوبة سجنه ومدتها يستطيع قاضي تنفيذ العقوبات تغيير العقوبة إلى عقوبة بديلة، حسب ظروف المتهم، والأصلح له وللمجتمع، شريطة عدم إخلاله بموضوع الحكم القضائي في التجريم ومدة الحكم. وفي معظم التشريعات بحسب المطيري يحق للمتهم الطلب من القاضي إيقاع عقوبة بديلة عليه وعلى القاضي الاستجابة لهذا الطلب.

يذكر أن مجمل القضايا المنظورة أمام المحاكم السعودية من قضايا حقوقية وجنائية وانهائية بلغ 715885 قضية عام 2005، حيث شكلت القضايا الحقوقية نسبة مقدارها 34 في المائة، والجنائية 16 في المائة. أما القضايا الإنهائية فبلغت نسبتها 50 في المائة.