السعودية: جدل فقهي واجتماعي حول قضية «الكفاءة» في الزواج

بعد تسجيل المحاكم لحالات تفريق بين أزواج:

TT

فجرت قضايا التفريق بين الزوجين لعدم «كفاءة النسب» والتي ازداد عدد المنظور منها أمام المحاكم الشرعية السعودية في الآونة الأخيرة، وبالأخص عقب أحداث قضية الجوف وتصديق محكمة الاستئناف على قرار تفريق «فاطمة ومنصور»، شأنا اجتماعيا ظل محظورا وغير مطروق لسنوات طويلة، وذلك في سيطرة الأعراف والتقاليد على مسألة المصاهرة والزواج، باعتماد تصنيفات أسرية وقبائلية حدت من حرية اختيار الطرفين، الأمر الذي ترتب عليه في أحوال عدة، تفريق قسري ما بين الزوجين لعدم مراعاة واحترام التركيبة الاجتماعية القبلية.

ورغم ما أثارته قضايا التفريق القسري ما بين الأزواج السعوديين، ورغم وجود الأبناء ومضي سنوات عديدة على النكاح من مخاوف للتشتيت الأسري، ما بين الأوساط الاجتماعية، فقد اعتبر بعض رجال الدين والقضاة «كفاءة النسب» أحد الشروط الأساسية لصحة النكاح، داعين الى ضرورة احترام الأنساب والتركيبة الاجتماعية، الأمر الذي لم يوافق عليه البعض الآخر من العلماء والدعاة.

من ناحيته، أوضح الشيخ عبد الله بن منيع عضو هيئة كبار العلماء لـ«الشرق الأوسط»، اعتبار العلماء في مسوغات الزواج وأركانه الكفاءة شرط من شروط صحة النكاح، مبينا أن الكفاءة تقدر بحسبها ومن خلال الأعراف والتقاليد التي يعيشها المجتمع، فالتقاليد المبنية على التمسك بأحوال القبلية تتسبب مخالفتها الفتن والعداوات والقطيعة بين الأقارب، كما ذكر بن منيع فأي زواج «قد يترتب عليه إحدى الإشكاليات في حال عدم تطابق الكفاءة النسبية أو الكفاءة الاجتماعية، فهو محل نظر، وقد يكون للقضاء مجال وفق تقدير العواقب المترتبة على انتهاك معيار وضابط الكفاءة».

ومن الجانب الشرعي، ذكر بن منيع حث الرسول الكريم على تزويج من تميز بالدين والخلق، باعتبار أن التقوى والصلاح والالتزام بالمقتضيات الشرعية هي الكفاءة المعتبرة في الشريعة الإسلامية، مستدركا ذلك بضرورة مراعاة أسباب الصلة والبعد عن الفتن والعداوات، مما يترتب عليه تأثير على الأنساب.

ونفى الشيخ عبد الله بن منيع وجود أي مسعى لعرض قضية «تكافؤ النسب» على هيئة كبار العلماء لدراسة القضية من جوانبها الشرعية والاجتماعية لإصدار رأي موحد، مؤكدا أنه «في حال عرض القضية من قبل ولي الأمر فستشرع هيئة كبار العلماء على دراستها والنظر فيها». وطالب بن منيع أن «كل من له أهلية للتوجيه والإفتاء ضرورة ملاحظة كافة الجوانب والاعتبارات المترتبة على الزواج، في ظل عدم تكافؤ النسب إلى جانب احترام الأنساب» وثبوتها، وعدم القدح والجرح مع ذلك بشعور ذوي الأنساب المعتبرة، مما قد يكون محل همز ولمز، الأمر الذي يتعارض مع المقتضيات الشرعية المتعلقة بالعبد عن الطعن في الأنساب، مشيرا إلى أن الاستفاضة في النسب محل اعتبار وثبوت.

ولخص بن منيع حديثه بأن أي خرق للتقاليد والأعراف المتعلقة بالأنساب، يعتبر سببا من عوامل إثارة الفتن وبث الضغائن والعداوات، الأمر الذي نهى عنه الشرع الإسلامي.

ودعا بن منيع إلى ضرورة عدم النظر في اعتراض أي طرف من أسرة الزوجين لعدم تكافؤ النسب عقب فوات فترة زمنية طويلة على نكاح الرجل والمرأة وإنجاب الأطفال وبالأخص في حال عقد قران الفتاة بإذن وليها، موضحا أن على القاضي النظر في قضية تفريق الزوجين في حال ورود أي اعتراض من الأطراف المعنية، وإدراك العواقب السلبية لمثل هذا النكاح، الذي اعتبره انتهاكا لمقتضيات واحترام الأنساب في حال لم يمض فترة طويلة.

وحول موقف القضاة من قضية تكافؤ النسب وماهية الأحكام المترتبة، قال الشيخ عبد الله بن منيع، إن الحكم بتفريق الزوجين من عدمه، عائد إلى اجتهاد القاضي وتقديره.

وفيما يتعلق بدور العلماء والقضاة في التصدي لتقاليد وأعراف تنافي الإسلام، أوضح بن منيع أن «التقاليد قاهرة وما يبني على الفتن وقطع الصلات، ليس من مقاصد الشرع»، كما هو ناجم عن زواج غير متكافئ الأنساب.

* خصوصية أم ماذا؟ للرد على هذا السؤال، ذكر القاضي إبراهيم الخضيري في محكمة التمييز في الرياض، تميز المجتمع السعودي من بين سائر المجتمعات الأخرى بقربه من المجتمع المحمدي، معتبرا إياهم نسل أصحاب الرسول الكريم، الأمر الذي يترتب عليه اتخاذ المجتمع القبلي، الحق الكامل في السيطرة والتنظير والتنظيم، مشيرا إلى منح الشريعة الإسلامية حق التعايش السلمي للزوجين غير المتكافئ النسب في حال كان برضاء الجميع ومن دون استثناء. وأوضح الخضيري، انه في حال وجود اعتراض يترتب عليه حصول الفتنة والضرر، فالقضاء السعودي يقتدي بسنة الرسول الكريم في درء الفتن والشرور، الأمر الذي يترتب عليه ضرورة الفصل والتفريق بين الزوجين حفاظا على حياتهما ومستقبل أبنائهما، ورفع الضرر عن قبيلة الزوجة أو الزوج. وأكد القاضي الخضيري، أن القضاء السعودي يعتمد التفريق في النسب، واعتماد الكفاءة في النسب، باعتباره قولا لجماهير أهل العلم من الأحناف والشافعية والحنابلة إلى جانب المالكية، فالمتأصل شرعا كما ذكر، أن التفريق بين الزوجين لعدم كفاءة النسب هو المعمول به قضائيا.

وحول مسألة تفريق الزوجين حتى وبعد إنجاب الأطفال، برره الخضيري أن الضرر سيطول الأطفال جميعهم في حال بلوغهم سن الرشد، وفي ذلك حماية لهم، داعيا وسائل الإعلام إلى أهمية توعية الأفراد في السعودية بضرورة احترام وجودهم في ظل مجتمع قبلي يعظم الشريعة الإسلامية وأواصر النسب.

وأفاد الخضيري بأن منع الزواج لعدم تكافؤ النسب، ليس من باب التقليل من شأن أحد الأطراف، وإنما لكونها تركيبة اجتماعية، وتنظيما أسريا درج عليه المجتمع منذ مئات السنين، مطالبا بضرورة احترام التركيبة الاجتماعية السائدة واحترامها.

* الإسلام مع وحدة الجنس البشري وفي هذا السياق، أبدى الشيخ سعيد بن مسفر، اعتراضه على مسألة الكفاءة النسبية، مبينا أن الكفاءة التي عدها الشرع الإسلامي أحد الأسس والأصول، التي اوجب مراعاتها عند تكوين الأسرة للمحافظة عليها بالكفاءة في «الدين فقط»، حيث لا يبيح للرجل الزواج من مشركة أو كافرة، كما المرأة أيضا، وإنما يحق للرجل الزواج من كتابية طمعا في إسلامها.

وقال بن مسفر إعلان الإسلام وحدة الجنس البشري وإلغاء جميع المفاضلات والتفرقات، فالناس جميعهم لآدم وآدم من تراب، مفيدا بأن وظيفة الشعوب للتعارف وليس للتفاضل، مشيرا إلى انه في حال موافقة الطرفين الرجل والمرأة في الزواج رغم عدم التكافؤ في النواحي الاجتماعية والنسبية، فلا يحق حينها لأي كان، التدخل لإلغاء النكاح باعتبارها قضية شخصية، فدور ولي الأمر مقتصر على النصح فقط، من دون إرغام الفتاة على الرفض في حال إصرارها على الزواج، مشيرا إلى حقها في اللجوء والاستعانة بالقضاء لإنصافها في حال حدوث ذلك، حيث أن الرضا والاقتناع متطلبان أساسيان بحسبه.

وحول ما شهده المجتمع السعودي مؤخرا من تصديق محكمة الاستئناف على حكم تفريق أحد الزوجين لعدم كفاءة النسب، رغم إنجابهما للأطفال، قال الداعية سعيد بن مسفر إن الحكم قد جافى الصواب لكل من المحكمة العامة والتمييز في التصديق على قرار تفريق الزوجين، الأمر الذي ستترتب عليه مفاسد عديدة، جراء تشتت الأطفال وإصرار الزوجين على البقاء معا، مشيرا أن الأولى في هذه الحالة، هو الأخذ بالأقوال الشرعية الأخرى والأدلة الصريحة التي تدعم بقاء الحياة الزوجية، رغم عدم الكفاءة الاجتماعية والنسب.

ورد بن مسفر على تبرير تفريق الزوجين بحجة تجنب الفتن والمفاسد مستقبلا بقوله: «انه محض تحكم، وقول بغير علم»، مشيرا إلى أن العلاج لا بد، أن يكون بعيدا عن الإضرار باستقرار الأسرة، فالمنطق والعقل بحسب الداعية بن مسفر، يقضي ويحتم توعية الأفراد المعارضين واطلاعهم على الحق في هذه المسألة لا الرضوخ للعادات والتقاليد، التي لا تستند إلى دليل شرعي.

* رؤية شرعية أم اجتماعية؟

من ناحيتها، قالت الدكتورة عزيزة عنبر أستاذة مساعدة في جامعة الملك سعود وناشطة اجتماعية، إن أبغض الحلال عند الله تعالى الطلاق، ومعيار التفاضل في الدين الإسلامي إنما يعود للتقوى، رافضة الاستناد في مسألة تكافؤ النسب والتفريق بين الزوجين إلى الدين والذي اعتبرته بعيدا عن الدعوة إلى تدمير اسر مستقرة.

وأكدت عزيزة عنبر مسؤولية رجال الدين في النظر للقضية بتجرد وموضوعية، وليس لاعتبارات شخصية، متسائلة حول خلفيات مبررات حكم الفصل والتفريق بين الزوجين، من قبل بعض رجال الدين، ما أن كانت لرؤية شرعية أم نظرة شخصية.