الصراع على الفتوى بين الفقهاء والدعاة.. وتحذير من فتاوى سفكت الدماء

طارق السويدان: لا لتحويل المفتي إلى «الولي الفقيه» وغياب الثقة عن الفتوى الرسمية لتحول رواتب العلماء إلى الحكومات * أحمد حسون مفتي سوريا: مؤسسات الإفتاء تشريعية وأموالها من الوقف * عبد الله بن منيع: الفتوى توقيع عن الله

TT

أعاد اتفاق نحو 150 عالما سنيا عراقيا في ختام مؤتمر استمر يومين في عمان أخيرا على تشكيل مجلس فقهي لإصدار الفتاوى الشرعية يطلق عليه «مجلس علماء العراق» يأخذ على عاتقه مهمة إصدار الفتاوى الدينية في العراق في سبيل مكافحة الفتاوى المتسرعة و«فتاوى أنصاف المتعلمين» حيث لا بد ان تكون الفتوى صادرة عن جماعة من «أهل العلم والدراسة». قضية «الإفتاء وأهله» بعد تضارب الرؤى الشرعية في ذات المسائل الفقهية وتخبط الأفراد في أكثر القضايا جدلا وبالأخص ما يتعلق بفتاوى القتال في الأراضي الساخنة و«الجهاد» كالفتاوى المتسرعة من قبل من أطلق عليهم بـ«أنصاف المتعلمين» وجدت آذانا صاغية عبر الفضائيات العربية واهتماما في منتديات الشبكة العنكبوتية ليبقى رغم ذلك فتح باب الفتيا لطلاب العلم الجدد تحسبا من الوقوع في ما يسمى بـ«ولاية الفقيه» أو الاعتماد بحسب الأصوات المعارضة على فتاوى المؤسسات الرسمية منعا للتخبط القائم مثار جدل في الأوساط العربية والإسلامية.

فتاوى سفكت الدماء وفرقت الأمة

* من جهته أكد الدكتور احمد حسون مفتي سوريا في حديثه مع «الشرق الأوسط» أهمية كلمة «الفتيا» في التاريخ الإسلامي كونها دخولا في منهج الله ونقلا عنه سبحانه مؤكدا ابتعاد الصحابة والسلف الصالح عن الفتيا متى ما استطاعوا لخطورتها، إذ قد تورد صاحبها «النار» إن لم يكن واثقا منها، منتقدا تصدر بعض أئمة المساجد وطلاب العلم في القنوات الفضائية بإصدار فتوى تفرق الأمة وتشتت شملها رغم عدم تمكنهم من العلم الشرعي الأمر الذي يوصل في أوقات أخرى إلى سفك الدماء ودعا حسون إلى جمع مفتي الدول العربية ضمن ما اسماه باتحاد المفتين في العالم العربي ليتوسع بعد ذلك اتحادا في العالم الإسلامي كي تعاد للفتوى مكانتها وهيبتها وإعادتها إلى موقعها الإسلامي الصحيح حيث أن الرسول الكريم كان يحدد من يفتي للآخرين ومن يؤم بهم، مؤكدا أن كثرة الفتاوى التي تصدر وبالأخص من قبل غير المختصين والمؤهلين تؤدي بالأفراد الوقوع في حرمات وسفك دماء الآخرين والتشدد على الأمة، راجيا استجابة المفتين لإنشاء اتحاد المفتين ووضع الأسس واليات عمل منعا من تدخل العامة في الفتيا. وحول مسألة غياب ثقة الأفراد بمفتي الدول الإسلامية والمؤسسة الدينية الرسمية قال إن ذلك إنما لإعطاء النفس تبريرا للمخالفة، فالمفتي كما ذكر أوسع اطلاعا ومعرفة كما انه لا يفتي في المسائل استنادا لمذهب واحد، وأكد حسون أن مهمة المفتي تكمن في إيجاد نص لإخراج المسلمين من الحرام وما يبعد المجتمع عن التشدد إلى السهولة واليسر وليس كما يصوره البعض لخدمة رغبات الحاكم، فالمفتي بحسبه «في خدمة المستفتي ليخرجه من الحرام».

وقال حسون مفتي سوريا انه من خلال استقرائه للتاريخ الإسلامي ومراقبته لم يجد ما ينافي أيا من فتاوى المفتين الرسميين للكتاب والسنة وإنما هو استنباط من النص للتقريب بين المسلمين وإلغاء الصدامات مما أدى بالمتشددين إلى الطعن في الفتاوى الرسمية.

وأكد المفتي السوري جازما انه في حال تحول المعارضين المتشددين لما يصدر عن المفتين الرسميين إلى موقع المفتي نفسه فسيتحدثون تماما ويفتون بذات ما قال، فالبعيدون عن موقع الفتوى بحسبه «اعتمدوا التشدد في الإفتاء لبعدهم عن تفاصيل المجتمعات وضيق أفقهم». وفيما يتعلق باستقلالية المؤسسات الدينية أكد حسون أن الأصل في مؤسسات الإفتاء هو الاستقلال، كونها مؤسسة تشريعية وليست تنفيذية، منوها إلى أن مهمة شيخ الأزهر النظر في شؤون الجامعة أما مسألة الإفتاء فتعود للمفتي ذاته.

وحول قضية التمويل أوضح أن الأموال المخصصة لمؤسسات الإفتاء إنما هي من أوقاف «للفتيا» داعيا في الوقت ذاته إلى ضرورة اعتماد المفتي على دخل خاص لا يتعلق بالوظيفة بحيث لا يأخذ أجرا على فتواه كي لا يكون للجهة الباذلة للأجر أي تأثير على فتواه . واعتبر الشيخ عبد الله بن منيع عضو هيئة كبار العلماء في السعودية أن للفتوى مقاما عظيما له خطورته وتوقيع عن الله تعالى، والذي بسببه يتحتم على المفتي الاستشعار بالمكانة الرفيعة والخطيرة لتحققها بين أمرين إما الفوز بمرضاة الله تعالى والحصول على التوجيه الشرعي الذي من شأنه أن يكون أحد أنواع رسالة الرسل أو احد أسباب البعد عن طهارة النفس وبراءة الذمة. وأشار المنيع إلى أن المجتمع يفسده شخصان «نصف طبيب ونصف متعلم» الأمر الذي ينبغي بسببه أن يكون المفتي على جانب كبير من التمكن في العلوم الشرعية إضافة إلى المعرفة والإدراك بمقاصد الشريعة الإسلامية حيث أن الدين ـ كما شدد المنيع ـ وسيلة إصلاح واعتدال وامن عام فيما يتعلق برابطة العبد مع خالقه وبرابطة الإنسان مع شرائح مجتمعه . وأضاف المنيع أن من يدعي بكونه أهلا للفتوى رغم كونه في أول سلم العلم الشرعي فلا شك انه قد أقحم نفسه في متاهات وظلمات قد لا ينجو من آثارها، مطالبا بعدم تقدم وتجرؤ طالب العلم على الإفتاء سوى عقب تسلحه بأصول الإفتاء وتمكنه من النصوص الشرعية ومقاصد الشريعة.

وعزا المنيع التحمس والإسراع في الفتاوى ما بين طلاب العلم الجدد إلى الغرور وضعف الإدراك والشعور بالكمال بالرغم، مفيدا بمعاناة الأمة من التخبط جراء تضارب الفتاوى الصدارة من دون أهلها الذين ساهموا بحسبه بـ«زعزعة الثقة بالدين ورجالاته» مرجعا المسؤولية في ذلك على كلا الطرفين (المفتي والمستفتي). فتح باب الإفتاء تجنبا لولاية الفقيه

* وكان للدكتور طارق السويدان رأي مغاير في مسألة فتح باب الفتيا أمام طلاب العلم الشرعي الجدد، مناديا بضرورة عدم تقييد الفُتيا وتأطيرها ضمن شروط محددة للمجتهد تجنبا لقصرها على أفراد محددين في الأمة «فقلة المشاركين في الإفتاء» كما قال «ستمنع الاستفادة من عقول عديدة مجتهدة ستساهم حتما في بلورة الآراء بصورة أكبر» مشيرا إلى انه وكما ثبت تاريخيا بارتكاب اكبر العلماء والفقهاء أخطاء في بعض فتياهم ومن أجل ذلك ففتح باب الفتيا أمام المؤهلين بالعلم الشرعي من الطلاب الجدد «سيسمح بتعزيز النقاش والتباحث في المسائل الفقهية». وأضاف السويدان ان من ايجابيات فتح الفتيا ورغم قلة العلم الشرعي أمام طلاب العلم تهيئة وتدريب الشباب على الفتيا رغم ما قد ينتج عنه من اختلاف وتباين يتم تفادي نتائجه من خلال الحجة والبرهان من قبل كبار العلماء وبحث وسائل الإعلام فيها حيث أن الأمة كما ذكر «لن تجتمع على ضلالة» منوها إلى أن فتح الفتيا يسمح بمقارعة الحجة بالحجة واقتصارها على أفراد معينين وسيتسبب في تحويل العلماء إلى «ولاية فقيه» بمنعها أي آراء مخالفة، بما في ذلك من تكريس للهيمنة الفردية على السياسة والاقتصاد والحياة الاجتماعية.

ودعا إلى إيجاد مستويات من الفتوى والمؤسسات العلمية الدينية، فما يهم الأفراد من الشؤون الاجتماعية يمكن أن يشكل لها مؤسسة عالمية تضم علماء من مختلف الأقطار للمشاركة في فتوى جماعية إلى جانب إنشاء مؤسسات شرعية قطرية لإصدار فتاوى تختص بالإقليم التابع لها. ورغم ميل طارق السويدان للفتوى الجماعية إلى انه لم يشجع إغلاقها ومنع الشباب ـ وبالأخص خريجي العلوم الشرعية ـ من المشاركة في الحوار الشرعي والنقاش العلمي بالدليل والبرهان، كما لا يرى السويدان السماح لشخص واحد الإفتاء للأمة بأسرها مهما بلغ علمه الشرعي لتباين الظروف الاجتماعية من قطر لآخر فالفُتيا لا بد ان تكون «مسألة جماعية تشمل علماء الأمة».

وأكد السويدان أن حل كثرة الفتاوى المتضاربة مع بعضها لا يكون بالمنع وإنما معالجة الأمر بمؤسسة جماعية قوية تتناسب مع حجم الأحداث مؤكدا أن الفكر والعلم لا يواجهان ولا يجابهان بالمنع والتحجيم وإنما يعالج أيضا بالفكر والعلم. واتفق السويدان مع من يقول بغياب ثقة أفراد الأمة في المؤسسة الدينية الرسمية الموكل إليها إصدار الفتاوى الرسمية سواء أكان في كفاءتها العلمية ومدى الاطمئنان لمدى استقلالية هذه المؤسسات في فتاواها عن رغبات السياسيين، مفيدا بأن ذلك بدا جليا بعد أن وضعت الدولة المصرية يدها على الأزهر حيث لم يعد مستقلا ماليا وسياسيا فأمواله لم تعد من الوقف وإنما من الدولة إلى جانب التعيين. واختتم السويدان حديثه «بعد أن أصبحت رواتب العلماء في يد الحكومات فقد الناس الثقة بالفتوى الرسمية».