الاستنساخ البشري بين الحرمة والإباحة

د. عبد الهادي الحكيم *

TT

اعتبر المؤتمر الإسلامي الدولي الثالث عشر للمجلس الاعلى للشؤون الاسلامية في مصر الذي اختتم اعماله اخيرا في القاهرة، والذي شارك فيه اكثر من 250 مفكرا وفقها اسلاميا من مختلف المذاهب الاسلامية، قضية «الاستنساخ البشري» من بين قضايا عديدة وملحة باتت بحاجة الى اجتهاد فقهي واضح وصريح يحدد الحكم الشرعي فيها لما لها من آثار حاضرة ومستقبلية مهمة على الفرد والمجتمع.

فمنذ أن أعلنت شركة BBL الأسكوتلندية للهندسة الوراثية عن استنساخ النعجة دوللي عام 1997م وعمليات الاستنساخ وتجاربه قائمة على قدم وساق، فقد عادت الشركة نفسها بعد حين لتعلن في الشهر الماضي أنها استنسخت أول خنزيرين صغيرين يمكن نقل أعضاء منهما للإنسان، وقالت وكالة «رويترز» للأنباء نقلاً عن شركة BBL نفسها: «إنها تأمل في أن تكون أعضاء مثل الكلى والقلب والأجهزة الحيوية الأخرى في الجسم ملائمة للاستنساخ البشري».

وقبل عدة أيام وبالتحديد يوم الأربعاء المصادف 2001/5/9م نقلت وكالة «رويترز» للأنباء أيضاً أن شركة BRESAGEN للهندسة الوراثية في مدينة ADELAID الأسترالية التي تعمل بالاشتراك مع مستشفى VINCENT SAINT في مدينة MELBOURNE باستراليا، أعلنت أنها «استنسخت خنزيراً من خلايا مجمدة في نتروجين سائل لأكثر من عامين، وأن التكنولوجيا التي استخدمتها في استنساخ الخنزير الأسترالي مختلفة عن تلك التي استخدمت في استنساخ النعجة دوللي قبل عدة أعوام». واضافت الوكالة نقلاً عن الشركة الاسترالية أن «أول خنزير استرالي مستنسخ عمره الآن خمسة أسابيع، وقد تم فطامه، وهو في صحة جيدة وينمو بصورة طبيعية».

وذكرت الشركة الأسترالية «ان استنساخ الخنزير يمكن أن ينقذ حياة بعض من آلاف البشر الذين يموتون سنوياً وهم ينتظرون زرع أعضاء لهم بدل أعضائهم المعطوبة». وجنباً إلى جنب ومع ظهور أول خبر عن التقنية الجديدة بنجاح عملية استنساخ النعجة دوللي عام 1997م بدأ الفقهاء المسلمون على اختلاف مذاهبهم الفقهية ومدارسهم الفكرية يدلون بدلوهم فيه محاولين الإجابة عن سؤال بدأ يؤرق العديدين منهم ومن سائليهم: ترى هل الاستنساخ البشري عمل محرم أو مباح؟

ويستطيع المتتبع لفتاوى هؤلاء الفقهاء من خلال ما بثته منها وسائل الإعلام المرئية والمسموعة حيناً وما نشرته الكتب والدوريات المختلفة أحياناً أن يقول: إن غالبية الفقهاء مالت إلى القول بعدم مشروعية الاستنساخ البشري، وربما تعدى بعضهم ذلك إلى القول بعدم مشروعية الاستنساخ مطلقاً. من ذلك ما استهل به الدكتور محمد سيد طنطاوي شيخ الأزهر جوابه عن سؤال وجه اليه حول الموقف الشرعي من الاستنساخ البشري بادئاً حديثه بالاستشهاد بالآيتين الكريمتين «هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء» و«أنه خلق الزوجين الذكر والأنثى من نطفة إذا تمنى»، مضيفاً «أما غير ذلك فهو حرام».

كذلك افتى الشيخ جواد التبريزي من كبار فقهاء الجمهورية الإسلامية في إيران بعدم جواز الاستنساخ البشري قائلاً: «لا يجوز الاستنساخ البشري لأن التمايز بين أبناء البشر ضرورة للمجتمعات الانسانية اقتضتها حكمة اللّه سبحانه، قال تعالى «ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف السنتكم وألوانكم» وقال جل وعلا «وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا» وذلك لتوقف النظام العام عليه، بينما الاستنساخ البشري ـ إضافة إلى استلزامه محرمات أخرى كمباشرة غير المماثل والنظر إلى العورة ـ يوجب اختلال النظام العام».

وقد ذهب أحد كبار الفقهاء في المملكة العربية السعودية الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين إلى أبعد من ذلك في التحريم عندما أفتى قائلاً: «إن الاستنساخ أكبر فساد في الأرض»، وقال: إني أرى أن أدنى عقوبة للذين ابتكروا الاستنساخ أن تقطع أيديهم من خلاف، هذه أدنى عقوبة، وإلا فيجب إعدامهم». وهناك فقهاء آخرون قالوا بحرمة الاستنساخ البشري أذكر منهم الشيخ محمد سعيد البوطي رئيس قسم العقائد والأديان في كلية الشريعة بجامعة دمشق، والشيخ الراحل محمد مهدي شمس الدين من كبار فقهاء لبنان ورئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى فيه وغير هؤلاء الفقهاء كثير.

ولعل آخر رأي فقهي نشر قبل أقل من شهر حول حرمة الاستنساخ هو رأي الشيخ نصر فريد واصل مفتي الديار المصرية الذي قال ردا على إعلان أحد العلماء الإيطاليين الذي سبق أن صرح بأن «نظرية الاستنساخ البشري الكامل أصبحت حقيقة واقعة وأن العلم لن يتوقف عند هذا الحد»، «إن الاستنساخ الكلي في النفس البشرية أمر غير جائز شرعاً من خلال العرض على الكتاب والسنة وعلى كل القواعد العامة والخاصة»، من دون أن يحدد الآيات والأحاديث والقواعد التي عرض الشيخ الاستنساخ عليها. بيد أن القول بحرمة الاستنساخ البشري ليس هو القول الفقهي الوحيد فيه. فهناك فقهاء آخرون نحو منحى آخر مختلفاً في النظر الشرعي اليه فقالوا بإباحة الاستنساخ البشري في حد ذاته «أي بقطع النظر عن العناوين الأخرى التي قد تستوجب حكماً آخر مغايراً لحكمه الأصلي، فيقال مثلاً: الغيبة في حد ذاتها حرام ولكنها قد تجوز إذا ترتبت عليها مصلحة أهم كنصح المستشير مثلاً». فيكون معنى قول الفقهاء: إن الاستنساخ البشري مباح في حد ذاته، أي أن الاستنساخ بما هو استنساخ بمعزل عن الأمور الأخرى المترتبة عليه أو المقارنة والمصاحبة له هو عمل مشروع يباح فعله ولا يحرم. ولكن إذا اقترن به عمل خارجي محرم تحول حكمه الشرعي من الإباحة إلى التحريم، كما لو أقترنت عملية الاستنساخ أو توقفت على اقتراف فعل محرم آخر كلمس ما يحرم لمسه وامثال ذلك من المحرمات الأخرى التي هي ليست من صميم عملية الاستنساخ في شيء فيكون الاستنساخ حينئذ عملاً محرماً غير مشروع، لا لأنه عمل محرم في نفسه بل لأن الاستنساخ البشري متوقف على محرم أو مقارن أو مترتب على محرم فيحرم لحرمة ذلك المحرم ليس إلا.

وقد افتى بذلك قسم من الفقهاء والمجتهدين امثال الشيخ محمد سعيد الحكيم والشيخ كاظم الحائري وغيرهما.

يقول الشيخ محمد سعيد الحكيم وهو من كبار الفقهاء في النجف الأشرف بالعراق جواباً عن سؤال وجهته اليه حول الاستنساخ البشري ما نصه: «الظاهر اباحة إنتاج الكائن الحي بهذه الطريقة أو نحوها مما يرجع لأستخدام نواميس الكون التي أودعها اللّه تعالى فيه والتي يكون في استكشافها المزيد من معرفة آياته تعالى وعظيم قدرته ودقة صنعه استزادة في تثبيت الحجة وتنبيها على صدق الدعوة كما قال تعالى «سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد». ولا يحرم من ذلك إلا ما حرَّمه اللّه تعالى وهو الزنا، ويلحق به على الأحوط وجوباً تلقيح بويضة المرأة بحيمن الرجل الأجنبي تلقيحاً صناعياً خارج الرحم، بحيث ينتسب الكائن الحي لأبوين أجنبيين ليس بينهما سبب محلل للنكاح.

أما ما عدا ذلك من الطرق فلا يحرم في نفسه إلا أن يقارن أمراً محرماً كالنظر لما يحرم النظر اليه مثلاً أو غير ذلك من المحرمات الأخرى».

ويرى القائلون بمشروعية الاستنساخ البشري أن المحاذير التي ساقها من يذهبون إلى حرمة الاستنساخ البشري غير ناهضة للقول بحرمته من قبيل: ان الاستنساخ البشري محرم لأن التكاثر سيقع خلاف الطرق الطبيعية المألوفة وخارج نطاق منظومة الأسرة، وأن الاستنساخ سيمكن المجرمين من الهرب من وجه العدالة لوجود النسخ الأخرى فلا يعرف المجرم الحقيقي من بينهم، وما شابه ذلك من أمور أخرى ستنشأ عنه لا تحمد عقباها، وأنه قد تسبق عملية استنساخ ناجحة عشرات وربما مئات العمليات الفاشلة التي تستلزم اتلاف خلاياها الحية كما حصل لعملية النعجة دوللي الناجحة التي سبقتها (277) عملية استنساخ فاشلة، وغير ذلك من الإشكالات الأخرى غير التامة.

وسأعرض ردود هذه الإشكالات باختصار قدر ما تسمح به هذه العجالة. فالتكاثر البشري خلاف الطرق الطبيعية المألوفة وخارج نطاق منظومة الأسرة لا يصلح أن يكون وجهاً مقبولاً للقول بتحريم الاستنساخ البشري، حيث لا دليل في الشريعة على حصر مسار الإنسان في انتاجه وتكاثره ضمن الطرق الطبيعية المألوفة فقط وتحريم غيرها من الطرق الموصلة إلى الهدف من خلال استخدام نواميس الكون المودعة فيه التي يطلعه اللّه عليها بالبحث والاجتهاد والاستزادة من طرق المعرفة ثم حث الخطى لعمارة الأرض باكتشاف المزيد من القوانين والنظريات العلمية الرائدة لخدمة الانسان وإسعاده.

كما لا دليل على حصر التكاثر البشري ضمن نطاق منظومة الأسرة ـ وإن كانت الأسرة هي أفضل هذه الطرق وأكملها وأسعدها للإنسان حتى الآن ـ لا سيما بعد خلق الإنسان الأول بدءاً من طين ثم خلق نبي اللّه عيسى (عليه السلام) من غير أب بصريح القرآن الكريم.

أما القول إن الاستنساخ سيمكن المجرمين من الاختفاء لوجود نسخ أخرى منهم فلا يمكن معرفة المجرم حينئذ من البريء فهو كسابقه لا يقتضي التحريم، ذلك ان الإجرام وإن كان محرماً إلا أن فعل ما قد يستغله الجرم ليس محرماً على الفاعل. وما أكثر ما يقوم به العالم اليوم وفي غير اليوم من إنتاج وسائل استغلها أو يستغلها المجرمون فتنفعهم في اجرامهم أكثر مما تنفعهم هذه العملية ولم يخطر على بال أحد تحريمها.

أما القول بأن نجاح تجربة استنساخ واحدة قد تسبقها عشرات وربما مئات التجارب الفاشلة التي تستتبع لا محالة إتلاف الجم الغفير من الخلايا الحية أثناء التجربة، وهو محرم، فيحرم الاستنساخ البشري لذلك، فهو كسابقيه إشكال غير تام. لأن المحرم هو عملية قتل الكائن الحي المحترم الدم، وذلك بمثل تعمد إسقاط الجنين وليس المحرم على الإنسان المكلف إنتاج كائن ربما يموت قبل أن يستكمل شروط الحياة، من دون أن تكون للمكلف يد في موته، ألا ترى أنه يحق للزوج أن يتصل بزوجته جنسياً، وهي مهيأة للحمل، ثم يسقط الجنين بعد ذلك، ليس بسبب الزوج، بل نتيجة عدم استكمال الجنين شروط الحياة فيه بسبب قصور الحيمن أو البويضة أو عدم تهيؤ الظرف المناسب لاستكمال الجنين نموه وكسبه الحياة أو غير ذلك من الأسباب الفسلجية الأخرى.

ويحسن بي أن أضيف أن القول إن إباحة الاستنساخ البشري مقيدة بعدم حصول ضرر بليغ منه، لما ورد في السنة النبوية الشريفة من أنه: «لا ضرر ولا ضرار». كما أحب أن أضيف أنه يمكن لولي الأمر اتخاذ قرار ولائي خاص بموجب ولايته الشرعية لشؤون الأمة بحظر عمليات الاستنساخ البشري مؤقتاً لأسباب منها الاحتراس من استغلال الدول والشركات الكبرى متعددة الجنسيات للدول الفقيرة وتحويل بعض مواطنيها إلى حقول تجارب كما فعلت في الماضي في مناسبات شتى وما زالت، حتى إذا ثبت لولي الأمر خلاف ذلك، وانه لا ضرر من الاستنساخ وأن فوائده باتت واضحة جلية أمكنه رفع ذلك الحظر المؤقت عنه والسماح به، خاصة في الحالات المرضية المستعصية التي ينحصر أمر علاجها به.

مختتماً الحديث بأنه ينبغي الحذر الشديد والتريث التام فيه رغم إباحته الشرعية ـ على تقدير القول بها ـ حتى يقول الخبراء المعنيون بأمره كلمتهم فيه، كل في مجال اختصاصه، فإذا قدر للاستنساخ بعد الفحص الشديد والتروي وكثرة التجارب والإحصائيات والدراسات المستفيضة لجوانبه كافة أن يكون أميناً من كل ضرر بليغ محتمل، حاضراً ومستقبلاً، بشهادة الخبراء الموثوقين، وهو ما لم يحدث للآن، وربما لا يحدث في المستقبل القريب ايضاً، اصبح بالإمكان إعادة النظر في أمر التوجس منه.

* باحث اسلامي