يا مشعل المبتهج

د. عائض القرني

TT

سرّني أن أخي مشعل السديري مبتهج، فأنا ممن يحب الخير لإخوانه كما قال الشاعر:

فلا نزلتْ عليَّ ولا بأرضي

سحائبُ ليس تنتظم البلادا

والمعنى لا أنزل الله عليَّ الغيث وحدي إذا لم يعم هذا الغيث كل الأقطار، ولعل للأخ مشعل من اسمه نصيب فهو يُشعل في ليل الأحزان قنديلا من التفاؤل، ويضيء في دياجير الهموم شمعة من الأمل، أما أثر (الدين معاملة) والذي دعاني الأستاذ مشعل لشرحه فليس بحديث نبوي، قال الألباني: لا أصل له، ولكنه من كلام العلماء، ومعناه متفق على صحته من كل علماء الإسلام، والمعنى أن حسن المعاملة مع الآخرين من أهم مقاصد الدين الإسلامي. فالصلاة مثلا وهي عبادة شخصية تحمل رسالة في المعاملة، قال تعالى: «إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر»، ومن مقاصد الزكاة طهارة النفس والضمير من الغش والحقد والبغضاء والكراهية، قال تعالى: «خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها»، والصيام تهذيب للروح وكفٌ للنفس من طغيانها وعدوانها وبغيها وفجورها، يقول سبحانه بعد أن ذكر الصيام: «لعلكم تتقون»، إن الدين ليس شكلا بلا مضمون، ولا طقوس بلا مُثُل، ولا حركات بلهاء بلا مقاصد، ولا مظاهر جوفاء بلا حقائق، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «اتق الله حيثما كنت واتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخُلُق حسن»، وقال: «وتبسّمك في وجه أخيك صدقة»، وقال: «ألا أنبئكم بأحبكم إليّ وأقربكم مجالس يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا، الموطئون أكنافا الذين يألفون ويُؤلفون»، ونحن بحاجة ماسة إلى حمل الدين الصحيح البعيد عن الإفراط والتفريط وتفعيله في حياتنا ظاهراً وباطناً، عقيدة وعبادة، أخلاقاً وسلوكاً، جسداً وروحاً، قولا وعملا، ولهذا لما زكّى أحد الناس رجلا عند عمر بن الخطاب، قال له عمر: هل جاورته؟ هل سافرت معه؟ هل عاملته بالدرهم والدينار؟ قال الرجل: لا لم يحصل من ذلك شيء، فقال عمر له: قم أنت لا تعرف الرجل لعلك رأيته يرفع رأسه في المسجد ويخفضه فزكّيته، ومقصود عمر أن الصلاة تدعو لحسن المعاملة من الصدق والوفاء والبر والصلة وليست مجرد حركات وسكنات، ولذلك تجد بعض المسلمين يفهم أن الدِّين في المسجد فحسب فإذا خرج من باب المسجد علّق الدين على باب المسجد كما يعلّق ثوبه فإذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر، وإذا عاهد غدر، وإذا اؤتمن خان، عاق لوالديه، قاطع لرحمه، شرير جبّار، ظلوم غشوم، حقود حسود، منّاع للخير معتدٍ أثيم، فأي دين عند من هذا حاله؟ الدين: صلاة في المسجد، وحسن معاملة في السوق، وبر للوالدين وصلة للأرحام، وحسن خُلُق مع الناس، وإتقان للعمل في المصنع والعيادة والمزرعة والورشة، الدين ميثاق شرف، وعقد ربّاني بين العبد وربه يقوم على التّخلق بمكارم الأخلاق، ومعالي الأمور، والتّحلي بأشرف الخصال، وأنبل الخِلال، الدين الصحيح لا يمثله عربيد متحلّل، ولا غالٍ متطرف، بل يمثله الصادقون من أهل المنهج السليم والصراط المستقيم والخط المعتدل الوسط «وكذلك جعلناكم أمة وسطا»، وأعود لأخي مشعل وأشكره على مباركته في نجاح كتاب «لا تحزن» وحتى لا يظن البعض أنني أكدّس حقوقه المالية تكديساً، فأُصاب بالعين فأقول لهم: قد أعلنتُ مع الأستاذ البارع تركي الدخيل في برنامج «إضاءات» لعموم المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها أن حقوق الكتاب ليست لي، فليبلّغ الحاضر الغائب ويكفيني الدعاء والثناء الحسن، أما الأحاديث النبوية فأبشّر أخي مشعل أن الله قد قيّض للسنة النبوية علماء جهابذة نخلوها حرفاً حرفاً وأخرجوا الصحيح من الضعيف وهي مدوّنة محفوظة لا يستطيع أحد أن يضيف كلمة واحدة إلا وقد كُشف أمره وظهر زيفه، والبخاري ذكر كثيراً من الأحاديث الصحيحة ولم يجمعها كلها فأكمل مسلم ثم أهل الصحاح والسنن حتى صارت هذه دواوين الإسلام المعتبرة، وغالب طلبة العلم الشرعي الآن يمّيزون الحديث الصحيح من الحسن من الضعيف من الموضوع، وهذا من حفظ الله لهذه الشريعة المطهرة. وفي الأخير فأنا ممن يحس الظن بإخواني في ردودهم وملاحظاتهم عليَّ كما قال والدكم ووالدنا:

لا خاب ظني فالرفيق الموالي

مالي مشاريهٍ على باقي الناسْ