التفاعل بين الوحدة والأطر الثقافية والكونية في الدين الإسلامي

في ملتقى علمي دولي بتونس حول «الإسلام واحدا ومتعددا»

ملصق الملتقى («الشرق الأوسط»)
TT

كيف يمكن أن نفهم علاقة الوحدة والتعدد في الدين الإسلامي عقيدة وشرعية؟ وما الثابت والمتغير في الدين الإسلامي نظرية وممارسة؟ وكيف تعددت ثقافات المنتسبين إلى هذا الدين رغم وحدة المرجع والأصول؟

لتقديم إجابات شافية عن هذه الإشكالات وغيرها، نظم المعهد الأعلى لأصول الدين بتونس التابع لجامعة الزيتونة أخيرا ملتقى دوليا حول موضوع «الإسلام واحدا ومتعددا» وذلك بالتعاون مع مؤسسة «كونراد أديناور» الألمانية، وبمشاركة عدد من الأساتذة الجامعيين من تونس وسورية ولبنان والأردن والمملكة العربية السعودية وألمانيا وإيطاليا، نذكر منهم محمد الخضراوي ونادودا سهيل وكريشان لوشون وعبد الودود غرور وجورج جبور وعباس جلبي وهوشماند زاده شهرزاد وإقبال الغربي وأبو بكر باقادر. ويندرج موضوع الملتقى ضمن الاهتمامات الثقافية الراهنة وخصوصا واقع تاريخ الإسلام، الذي لا يخلو بوصفه دينا حيا من جدلية الوحدة وطلب التنوع، الشيء الذي جعل فكره، الذي يحافظ على وحدة العقيدة، يبدو وكأنه في صدام مع واقع الممارسة التي هي متعددة.

وتركز اهتمام المداخلات حول المحاور التالية: ـ الوحدة والتعدد في الإسلام عبر التاريخ. ـ الفاعل بين الوحدة والتعدد والكونية في الإسلام. ـ الوحدة والتعدد في الإسلام بين النظري والممارسات الاجتماعية.

ـ الوحدة والتعدد في الإسلام والإطار الاجتماعي الثقافي في العالم الإسلامي.

واللافت للانتباه في هذا الملتقى الدولي حول «الإسلام واحدا ومتعددا»، أن الحوار هو حوار في الدين الواحد، تناوله أصحاب الدين الواحد وأصحاب الديانات الأخرى. كما أن جميع الفرق تقريبا تم تمثيلها وذلك على غرار الشيعة والدروز، علما أنه بالنسبة إلى الدروز تعتبر المشاركة الأولى من نوعها على الصعيدين العربي والإسلامي.

قد افتتح الأستاذ سالم بويحيى رئيس جامعة الزيتونة، برنامج الملتقى بمداخلة أبرز فيها أن مقولة «الإسلام واحدا ومتعددا» حقيقة تاريخية واضحة من خلال مختلف الممارسات والقراءات والمدارس والمذاهب والفرق الإسلامية التي تفاعلت مع الوحي، وبحثت لنفسها عن تجليات ثقافية مختلفة ومتنوعة باختلاف شعوبها وأجناسها التي اعتنقت الإسلام وأصبح مكونا عميقا من مكونات هويتها عبر التاريخ. وأضاف بويحيى أن الإسلام قد راعى هذا الاختلاف والتنوع ولم يلغ الخصوصيات، فكان الوحي المنزل مراعيا منذ البداية للتنوع اللغوي الذي كان سمة من سمات البيئة العربية القبلية المعقدة في عصر التنزيل وبعده (نزول القرآن على سبعة أحرف)، وكان خطاب القرآن للناس كافة، قد استلزم مراعاة التنوع والثراء البشريين على حد السواء فكان مشتملا على المحكم والمتشابه مواكبا للوقائع حاثا على التأويل والاجتهاد. فلم يخل فهم العقيدة والشريعة من تمازج بين العقل والوحي ومن استنطاق للنصوص وسبر في أغوار المسكوت عنه، ومحاولة بناء منظومة أصولية ومقاصدية تساعد على تطوير عملية الاجتهاد في حضور النص أو في غيابه.

ولا يخفى ما في هذا العمل من جهد كبير للمحافظة على مرونة التشريع ومواكبته لمختلف المستجدات. كما أبرز رئيس جامعة الزيتونة أن الإسلام في نظمه واحد ومتعدد في آن، وذلك بقابليته للإثراء والتعدد عند تفاعل الفكر مع النص وعند معانقة الثقافي للعلوي والمفارق، وهو ما أكد حيوية العقل الإسلامي على مر الزمان، لذلك فقد استنتج بويحيى أنه لا مناص اليوم من صياغة رؤية واقعية وعملية بعيدا عن التعصب والغلو المفضيين إلى تقزيم الفكر الإسلامي واحتكار الحقيقة والمعرفة، إذ أن الحوار البناء المحقق للتقارب البشري والتخفيف من التوتر بين الشعوب لا يبدأ إلا بالتقارب الإسلامي أولا، وهو ما يشكل مفتاح التقارب والوفاق بين الأديان والحضارات والثقافات في مرحلة لاحقة. أما السيد هاردي أوستري المدير الإقليمي لمؤسسة «كونراد أديناور»، فلاحظ أن موضوع الملتقى العلمي الدولي «الإسلام بين الوحدة والتعدد» هو موضوع راهن ويكتسي دلالة مهمة، مضيفا أن من يتابع النقاشات الدائرة في أوربا وفي المنطقة حول الإسلام يدرك سريعا، حسب رأيه، وجود اتجاهين متعارضين، يحددان التمثلات حول الإسلام ويلعبان دورا موجها للتطورات السياسية والاجتماعية.

الخطاب حول الإسلام في أوربا خارج دوائر الخبراء المحدودة، مطبوع في جانب كبير منه برؤية تميل غالبا إلى تمثل الإسلام كدين يملك أفقا محصورا واتجاها وحيدا، وهو ما يقود إلى الخلط وإلى التعميمات ويروج بالنتيجة إلى الأفكار والتمثلات الخاطئة.

ويضيف السيد أوستري أنه فقط في السنين الأخيرة وعبر المعلومات المتدفقة من وسائل الاتصال، فرضت ضرورة «البحث عميقا في تاريخ الإسلام وحاضره من أجل الحصول على صورة أكثر واقعية للإسلام».

من جهة أخرى أثار الخضراوي محمد مسألة التأويل ومدى ضرورتها لاستمرارية النص القرآني ومغالبته لحركة الزمن، مبررا أن المراوحة بين الوحدة والتعدد، تعكس معادلة المقروء والقراءة. والنص القرآني يمتلك قيمته التمثيلية على المستويات الثقافية والاجتماعية والحضارية انطلاقا من مقوماته الاعتيادية ومنظومته التشريعية، وبالنظر إلى النص الديني المكتوب ندرك أنه يقوم على شفافية لسانية. فالقرآن متحد السور والآيات والكلمات والحروف. فهو بهذا يمثل مرجعية متوحدة لكل بحث معرفي في مجال الإسلاميات. إلا أن البناء السيميائي لهذا النص/ المرجع منفتح على مختلف الرهانات الإبستيمولوجية ومختلف المشاريع العقلية والتأملية التي تنتجها استراتيجيات القراءة في مقاطع التاريخ. ولهذا تعددت تفاسير القرآن وترددت بين المعنى الحرفي والمعنى المجازي، حتى انفتحت المفاهيم والمدلولات لكل المدارس والفرق والآيديولوجيات رغم وفرتها وتنوعها البالغ حد التناقض. وسواء كانت مباحث القرآن لاهوية أو وضعية، فإن النص القرآني ما زال يحظى باهتمامات إنسانية متعددة المشاريع والمشارب.

ويرى المتدخل أننا ننظر إلى هذه المتابعات النصية بوصفها ظواهر للفهم تعكس أنماط التجارب المعيشة وأنساق المعرفة التي تغطي لحظتنا الراهنة، وهنا تطرح مسألة الحقيقة: هل هي مسألة ذاتية تسمح بها حرية القراءة وديمقراطية اللغة التي توفرها اعتباطية العلامة، أم أنها مسألة موضوعية يتوجب أن تلتزم بالفهم المقاصدي المراد من الإرسال النصي؟ وهل ان المفاهيم الدينية لها خصوصياتها المضمونية وأن خصوصيات القارئ تعدم خصوصيات البث؟ لذلك فإن الأستاذ الخضراوي توصل إلى أن النص المتوحد يتعدد ليفرض استمراريته ومغالبته لحركة الزمن.

أما الأستاذة هوشماند زادة شهرزاد من معهد الدراسات حول الأديان والثقافات في روما العاصمة الإيطالية، فقد تناولت مسألة الإنسان الكامل في التشيع الإثني عشري، مبينة خصائص التشيع الإثني عشري كلاما وفلسفة وتصوفا، وهي الاعتقاد في وصية النبي محمد صلى الله عليه وسلم، لعلي بن أبي طالب، رضي الله عنه، بالخلافة من بعده، وتوالي الإمامة في نسل علي من فاطمة الزهراء إلى غاية الإمام الغائب، مع التوقف بالتحليل عند ثلاث محطات رئيسية: فاتحة السلسلة وخاتمتها، مرورا بالإمام الحسين وذلك من خلال جملة من النصوص التي تبرز خصائص هذه العقيدة لا سيما من الناحية الروحانية ذات الصلة الوثيقة بعقيدة الإنسان الكامل كما نجدها عند المتصوفة، مما يجعل ـ والكلام للباحثة ـ من مفهوم الكمال الإنساني جسرا رابطا بين السنة والشيعة وبين الأديان عموما.

ومن المداخلات المهمة أيضا في ملتقى «الإسلام واحدا ومتعددا»، نذكر دراسة باقادر أبوبكر الذي تناول ظاهرة الوحدة والتعدد في الإسلام في سياق الأطر الاجتماعية والثقافية في العالم الإسلامي. وكشف في مقاربته الأنثروبولوجية أنه بالرغم من أن مفهوم الجامعة، بوصفها صرحا تعليميا، اكتمل وتكوّن في سياق الحضارة الإسلامية: في الأزهر والقرويين والزيتونة والنظاميات وبيت الحكمة، وقامت على نموذجه فكرة الجامعة الأكاديمية في الغرب (السوربون وأكسفورد وكيمبردج وهايدنبرغ ولولونيا ولايبزغ، وحتى الجامعات في العالم الجديد في هارفارد وغيرها) على أسس دينية، فإن مفهوم الجامعة في العالم الإسلامي في صورته الأساسية بقي تقليديا، بل رافضا لعمليات التحديث والتأسيس للعلوم الحديثة. فبينما نجد هذه الجامعات ذات الأصول الدينية في الغرب قد تمكنت من التأسيس للفكر الحديث، مع المحافظة على تراثها القديم، كان علينا في العالم الإسلامي إعادة اكتشاف مفهوم الجامعة من جديد والقيام بالفصل بين نوعين من التعليم: تقليدي وحديث.

ويقول باقادر في هذا السياق إن «التعليم في معظم أنحاء العالم العربي أصبح انفصالا واضحا بين نوعين من التعليم؛ أحدهما تقليدي ديني يهتم بتدريس ورعاية العلوم الإسلامية العربية في أشكالها التقليدية وينحصر ضمن هذه الدوائر، وآخر دنيوي يسعى إلى تقليد الجامعات الغربية في مجالات «العلوم الحديثة»، أي بعيدا عن الدراسات الدينية اللاهوتية بمعناها الغربي. وظهر في بعض البلدان انفصال واضح وعميق بين عالمي خريجي النوعين من التعليم، أحدهما يهتم بشؤون الآخرة والترويج للأفكار الدينية وبالذات الفقهية والكلامية، وهو غالبا ما يعيش في الماضي الإسلامي بخلافاته ومفاهيمه وقضاياه، ويعمل في حالة نشاطه على التأكيد على أهمية الانكفاء على الذكريات والتاريخ قدر المستطاع. وهناك نوع آخر من التعليم، حديث يعمل جاهدا لاستيعاب الأفكار والمفاهيم، بل الصراعات الغربية الحديثة، ويقدم للمجتمع النخب المهنية في كافة المجالات، سوى بعض المجالات الدينية المحددة كالإرشاد والقضاء في بعض البلدان. وإن تجاوز هذين النظامين التعليميين أمر ظاهر في العديد من البلدان الإسلامية، ولعلنا لا نجانب الحقيقة إن قلنا إن هذين النوعين من التعليم لا يلتقيان، ويقدمان لمن يعملون فيهما عوالم ومرجعيات مختلفة يصعب التعرف على المشترك بينهم».

ويرى الباحث باقادر أن الحاجة ملحة لتأسيس خطاب، يسمح بالتراكم وإحداث قطائع معرفية مع بعض القضايا من دون مماطلة أو تراجع عن بعض الإجابات الحاسمة لبعض قضايا العصر الحديث، الأمر الذي يستدعي ـ حسب رأيه ـ إعادة النظر في دور العلوم الدينية في معالجة قضايا العصر، ليس انطلاقا من العودة دائما إلى الأساس العلمي، الذي تركه السلف من دون تقييم، بل نقد حاسم. ويؤكد نفس المصدر على أهمية أن تكون كليات الشريعة في العالم العربي جزءا لا يتجزأ من النسق الأكاديمي، الذي يدرس علوم الهندسة والطب والعلوم الاجتماعية والطبيعية، أي مصالحة حقيقية وجذرية بين التعليم التقليدي والحديث.

وقد تضمن الملتقى مداخلات أخرى مهمة نظرت في مسألة الإسلام الأفريقي بين التوحد والهويات والإسلام في آسيا ومسألة التعدد والحرية الدينية في الإسلام وغير ذلك من مراكز الاهتمام.