مراجعات جماعة الجهاد.. مناورة أم قطيعة مع الإرهاب؟

ندوة في القاهرة ناقشت سياقاتها ومرجعياتها ودوافعها المختلفة

جانب من ندوة «مراجعات جماعة الجهاد» التي عقدها مركز القاهرة لدراسات حقوق الانسان («الشرق الاوسط»)
TT

في سياق الزخم الإعلامي الذي صاحب الإعلان عن نشر المراجعات الفكرية لجماعة الجهاد المصرية، لم يتسن للعديد من الباحثين الوقوف على أبعادها ومستوياتها وسياقاتها المعرفية والسياسية على حد سواء. كما لم تطرح أغلب التغطيات تساؤلات ما بعدية فيما يتعلق بمستقبل ومصير وأثر هذه المراجعات بالنسبة للجهاديين وللحياة السياسية، وحتى بالنسبة للشخص العادي الذي دفع من قبل فاتورة أخطاء هؤلاء. فهل نحن إزاء تأسيس لمرجعية جديدة داخل المرجعية الأساس للتيار الجهادي؟ أم أن تلك المراجعات ليست إلا من قبيل التكتيك والمناورة؟ أم انها على العكس من ذلك تعد بداية قطيعة حقيقية مع جذور العنف والإرهاب؟! في هذا السياق عقد أخيرا مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان ندوة موسعة، في إطار احتفالاته بمرور 59 سنة على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، تحت عنوان «مراجعات الجهاد هل هي مناورة أم قطيعة حقيقية مع الإرهاب؟!»، حاضر فيها كل من الدكتور عمرو حمزاوي كبير الباحثين في مؤسسة كارنيجي للسلام، والدكتور ضياء رشوان الخبير بشؤون الحركات الإسلامية في مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية، وعبد الرحيم علي الباحث في الحركات الإسلامية، وسامح فوزي الباحث والكاتب القبطي.

المراجعات والسياقات العامة: في البداية أكد حمزاوي أن ما أثير من جدل حول المراجعات وأسبابها وطبيعتها أمر لا يخلو من دلالة بالغة كما يعبر عن حالة صحية في الإطار الثقافي والسياسي العام ليس فقط على المستوى المصري الذي ظهرت فيه المراجعات وإنما على المستوى الإسلامي عامة. وأضاف في تعليقه على مجمل الشكوك التي أثارها البعض حول المراجعات: على المشككين أن يعيدوا النظر إلى الفكرة من خلال النص والذي لا يحاكم خارج سياقاته العامة وأن أي طرح بعيد عن هذه السياقات سيكون خاطئا. مؤكدا أن التساؤل حول المراجعات وما إذا كانت مناورة أم لا هو في حد ذاته غير منهجي واختبار للنوايا ينطلق من نظرة استاتيكية للجماعة، والمجتمع عامة لا تأخذ في الاعتبار أن الواقع متغير دائما وأن ثمة جماعات بدأت بنبذ العنف تكتيكيا ثم انتهت للإقرار به مبدئيا وربما للأبد. كما أن التساؤل أيضا يضع المراجعات في إطارها الفردي وليس المجتمعي. وبحسبه يجب البحث بداية في تداعياتها السياسية والفكرية وتفعيلها من أجل الاستفادة منها بدلا من كثرة الجدل حول طبيعتها والهدف منها. وفي مقابل ذلك طرح حمزاوي ثلاثة تساؤلات حول السياقات كما طرح أيضا عوامل أربعة رئيسية في فهم سياقات المراجعات. التساؤلات الثلاثة هي: 1 ـ ما السياق العام الذي تتراجع فيه كافة الجماعات والحركات الآيديولوجية التي تتبنى العنف حين تتحول إلى حركات مسالمة أو تباشر العمل السياسي؟

2 ـ ما مدى جدية المراجعات وهل تمثل بالفعل قطيعة معرفية مع جذور العنف أم أنها ليست إلا فعلا وخطوة تكتيكية؟

3 ـ التساؤل الثالث يتعلق بما بعد المراجعات، حول مستقبل الجهاديين بعد ترشيد الجهاد هل سينتهي التنظيم فعليا ويشتبكوا مع العمل السياسي أم سينتهي الأمر عند هذا الحد؟

أما العوامل الرئيسية الأربعة التي لا بد منها لفهم سياق المراجعات فهي:

1 ـ عامل المردود المتوقع والحساب العقلاني للمراجعات، بمعنى مدى اقتناع الجهاديين بأن الاستعمال المطلق للعنف لا يحقق أهدافهم ومن ثم لا بد من ترشيد العمل الجهادي.

2 ـ عامل المناخ أو الفضاء المصري العام الذي بات مقتنعا هو الآخر برفض واستنكار العنف السياسي، وهو ما لم يكن موجودا من قبل خلال عقد التسعينيات.

3 ـ عامل التغييرات الداخلية التي تطرأ على الحركة ومن ثم اختلاف نظرة الأجيال للعنف والإرهاب.

4 ـ منظومة العلاقة بالنظام الحاكم: أي حسابات الربح والخسارة فيما يتعلق باستخدام العنف أو عدمه مع النظام الحاكم. ما بعد المراجعات: وفيما يخص التساؤل حول ما بعد المراجعات؟ أشار حمزاوي إلى وجود نمطين من الحركات الآيديولوجية التي استعملت العنف للوصول لأهدافها، وهما: الحركات اليسارية في الخبرة الأوروبية، والتي استعملت العنف ضد الأنظمة الحاكمة ثم اختفت بالمعنى التنظيمي، وإن ظلت باقية بالمعنى الفكري، ثم تطورت لاحقا واندمجت في سياق التجربة الحزبية لتلد حزب الخضر في ألمانيا على سبيل المثال. ثم حركات التحرر الوطني والتي تربط بين استعمال العنف وبين غاية معينة تتمثل في الاستقلال، وهي أسبق تاريخيا، كحركة المؤتمر الوطني في جنوب أفريقيا والجيش الجمهوري الأيرلندي وحركات مشابهة في أميركا اللاتينية والتي تحولت عن العنف بعد أن حققت أهدافها وأصبحت تمارس العمل السياسي من خلال الأحزاب السياسية.

وعن مصير التنظيم يتوقع حمزاوي أن يختفي الجهاد تنظيميا فيما ستبقى قدراته البشرية فكريا والتي ستكون مساحات دورها المحتمل أحد سياقين: الأول، إما أن يتيح لها النظام السياسي مساحة من حرية الحركة فتصبح جزءا من السياق السياسي الرسمي. والثاني، وإما أن يضغط المجتمع وقواه الحية من أجل أن تعود الجماعة للبدايات كجماعة دعوية.

وعن تقييمه للمراجعات وصف حمزاوي جماعة الجهاد بأنها جزء لا يتجزأ من قوام المجتمع المصري، ومن ثم لم يكن سيد إمام يبتعد عن تنظيرات السياسيين فيما هو يكتب الوثيقة وإنما يأخذ في اعتباره تغير الحال الآن عما كان قائما آنذاك. كما أعرب عن اعتقاده بأن المخاطب الأول في الوثيقة هو التيارات الجهادية عامة وبالتحديد قلب الحركة نفسها، متوقعا أن يتبع إمام الوثيقة بخطابات تشمل دوائر أخرى أكثر اتساعا. ومن جانبه، أثار عبد الرحيم علي تساؤلات متعلقة بالتشكيك في قيمة المراجعات ومضمونها وتوقيتها، خاصة أن المناخ المصري السائد الآن يخلو من موجات العنف كما كان من قبل. مؤكدا أنه لا يحاكم النيات وإنما الأوراق. وأن الانتقاد ليس تشكيكا على اعتبار أن استمرار الصراع يضر بكل القوى السياسية والمجتمعية ويتيح العمل بالقوانين الاستثنائية بدعوى فزاعة الإسلاميين. وأنه لا يجوز التعامل بالثمن: ادفع مراجعات.. ندفع إفراجات! مطالبا بنزع ملف المراجعات من القبضة الأمنية وإتاحته للرأي العام ليثير بدوره عديدا من الحراك.

في المقابل، أكد سامح فوزي: أننا لا نزال نفتقد عملا متكاملا وأنه حتى يحين ذلك يصعب التكهن بدوافع ظهور الوثيقة وتداعياتها سواء على المستوى المصري أو الإسلامي. مشيرا إلى أن ثمة مداخل عديدة لتناول موضوع المراجعات، وأنه في الوقت الذي تشهد فيه المدارس الفكرية والحركات الدينية تغييرا فكريا دائما، مثل حركة لاهوت التحرير في أميركا اللاتينية التي شهدت مراجعات قوية، وأخذت أبعادا سياسية بعد انتقالها من أميركا اللاتينية إلى أفريقيا وآسيا فإن المراجعات الحالية تمثل تراجعا فيما يتعلق بالموقف من الأقباط، على الرغم من أنها تأتي على ذكر المواطنة في أكثر من موضع منها. وبرأيه فإن الوثيقة لا تزال تقر بالذمية معتبرة إياها وضعا وليست عقدا على خلاف ما أوجبه الفقه الإسلامي الحديث من أن الذمية عقد وليست وضع، على عكس المراجعات التي تكتفي بتوصية المسلمين بمعاملة طيبة للأقباط مع تقديم النصح للنصارى بعدم استفزاز المسلمين! كما تذكر أن «المعاملات التجارية تجوز بين الطرفين». متساءلا: كيف يمكن قبول مثل هذه الاجتهادات التي لا ترقى للحد الأدنى من متطلبات الدولة الحديثة؟ هل لمجرد أنها تعبر عن تغيير طرأ على أفكار القائمين عليها؟ وهل يتحمل الأقباط الأمر مرتين: الأولى وقت وقوع العنف، والثانية عند التراجع عنه؟! وأكد فوزي في السياق ذاته أن ثمة تصورا كان سائدا بصدد اعتبار أن التعامل مع الأقباط لم يكن جزءا من المشروع الفكري للجهاديين، لكنهم وفي إطار صراعهم المرير مع الدولة أصبح الأقباط أحد ضحاياهم؛ لأنهم اعتبروهم موالين للحاكم الكافر، قائلين إن الكافر لا يعصم ماله ونفسه إلا بعهد وإن الجزية لم تسقط عنهم وإنما أسقطها الخديوي سعيد.

وعلى العكس من ذلك، أكد ضياء رشوان أن الحركة الجهادية جزء لا يتجزأ من الحركات الدينية التي تهتم بعلوم العقيدة أولا، وأنها لا تهتم بالفقه إلا بما يؤدي لتصحيح العقيدة في المحل الأول والأخير، فقضيتها الرئيسية هي: تعبيد الناس لربهم، وهو أمر معتمد في أدبيات هذه الحركات في آسيا وأوروبا وأفريقيا. وعلى العكس من ذلك، تهتم الحركات غير الجهادية بالشريعة وتطبيقاتها فمقصودها تطبيق برنامج وليس أسلمة المجتمع.

وتساءل رشوان: هل نحن أمام خطوة واحدة أم عملية تشبه ما قامت به الجماعة الإسلامية؟ مؤكدا في إجابته عن هذا التساؤل أن المراجعات خطوة عملية وسيتلوها خطوات أخرى، ومن ثم فهي ليست من قبيل التراجعات كما وصفها البعض؛ لأن المراجعات تضم في مجملها عمليات أربع: اثنتان تتعلقان بالماضي وهما: إجراء نقد عميق للأنساق الفكرية العتيقة والتي كانت تحكم هذا الفضاء في الماضي، ويتواكب مع ذلك نقد جملة الممارسات العملية التي كانت تتم وفقا لذلك السياق الفكري/العقائدي. واثنتان تتعلقان بالمستقبل: الأولى، بناء نسق فكري طموح يطرح رؤية جدية ويرسم في المقابل مشهدا آخر، وترتبط بذلك ممارسة عملية تتوقف على المسموح والممنوع في الفضاء السياسي العام. ووفقا للعمليات الأربع السابقة، يمكننا الحديث عن مراجعات وليس تراجعات وأيضا يمكننا القول بتفرد الحركات الإسلامية المصرية في هذا السياق، لأن ما حدث في الجزائر والسعودية من تخلي الآلاف والمئات عن العنف لم يكن في حقيقة الأمر سوى تراجعا وليس مراجعة.

نقلة نوعية بكل المقاييس: وفي بحثه مدى التطور الذي حدث في فكر سيد إمام يؤكد رشوان أنه في وثيقته هذه يبحث في الفقه، وليس العقيدة كما كان شأنه في كتابيه العمدة والجامع، اللذين بدأهما بمباحث في العقيدة، ففي كتابه «العمدة في إعداد العدة» أقر إمام بالاستضعاف داعيا إلى الإعداد للجهاد من أجل التغلب على هذا الاستضعاف، أما في الوثيقة فينطلق من نفس النقطة لكن من أجل أن يجعلها حدا لإسقاط فرض الجهاد. أيضا كان في كتابيه السابقين لا يشير إلى الواقع وإنما ينتقل من النص إلى النص، وهذا هو شأن الجهاديين الذين يتحدثون في المطلق دون المتعين غالبا، أما في الوثيقة التي بين أيدينا فإنه تنطلق من الواقع للفقه ومن الفقه للواقع، أي أنه يعود إلى فقه الواقع شأنه في ذلك شأن كبار الفقهاء. وأشار رشوان إلى أن الأفكار لا تولد كبيرة وناصعة، وإنما تبدأ وتتطور. وسيد إمام بدأ مؤلفاته بالعمدة عام 1988، ويناقش فيه قضية الجهاد ثم كتاب الجامع 1993، وهو كتاب موسوعي يتعلق بكل مجالات العلوم الإسلامية، والآن يكتب وثيقة كلية تتناول ترشيد الجهاد وتقترب من قضايا أخرى مما سيأتي دوره في المستقبل بما يعني أنها ليست جامعة وأن تحميلها أكثر مما تحمله هو «تنطع»! وعن مستقبل الجماعة بعد المراجعات، أكد رشوان أنه يمكن العودة للتاريخ الإسلامي لمعرفة مصير التيارات المشابهة، حيث ظهرت أفكار الغلو مع غزو التتار للعالم الإسلامي وقبلها وقت الفتنة الكبرى، وأدت إلى مقتل صحابة وخلفاء وعلماء قبل أن تختفي تدريجيا. وأن الجماعات الجهادية إنما تصاعد وتيرتها ثم لا تلبث أن تتراجع عن أفكارها مرة أخرى وتدخل في عملية تنتهي بزوالها، وأن أقصى وقت عاشته من قبل كان 60 عاما، عندما شكل الخوارج دولة في جبل نفوسة في ليبيا! وأنه قبل ظهور هذه الجماعات في مصر لم يكن لأي منها وجود طوال مائتي عام، ومن الواضح أنها تعيش لحظاتها الأخيرة الآن.

وفي الختام وصف رشوان المراجعات بأنها تمثل نقلة نوعية في فكر الحركات الجهادية وأن علينا عدم استباق أحكام الفشل مقدما في انتظار الخطوات التي ستحدث فيما بعد.