كاتبة إيطالية: شرف لي أن أتحدث عن الإسلام ولا أبغي من ذلك جزاء ولا شكورا

في كتاب جديد لها .. ريتا دي ميليو تسلط الضوء للإيطاليين على عظمة الإسلام وسماحته

ريتا دي ميليو
TT

«شرف لي أن أتحدث عن الإسلام.. لا أبغي من ذلك جزاء ولا شكورا».. هكذا قالت لي الأستاذة الإيطالية الكبيرة ريتا دي ميليو، وهي تقدم لي كتابها «الإسلام.. ذلك المجهول في الغرب». كثيرون هم الكتاب والمؤلفون الأوروبيون الذين يتحدثون اليوم عن الإسلام، ولكن القليل منهم من يتحدث عن علم حقيقي، والكثير منهم هم من يجرون وراء الأفكار المسبقة السطحية، التي تدين الإسلام وتبحث في تاريخه وسلوك التابعين له عما يدينهم، ويصم الدين نفسه بأبشع التهم. من هذا القليل تبرز هذه المؤلفة الإيطالية التي عاشت وتجولت في مدن العالم الإسلامي، ولم تكتب عن الإسلام إلا بعد أن قرأته ودرسته وعاشته. مع كتابها «الإسلام.. ذلك المجهول في الغرب: الدين الإسلامي في ضوء القرآن والسنة»، الذي تجري ترجمته الآن إلى العربية، نقدم هذه القراءة السريعة لأهم محتوياته. الكتاب في مجمله جديد على الثقافة الأوروبية، فهو صادر من أوساطها ويتكلم بإحدى لغاتها، ورغم أنه بدا محايدا في عرض الإسلام كحضارة وثقافة، إلا أنه، ربما للمرة الأولى، يقدمه على أنه دين سماوي، يقف على قدم المساواة مع الأديان السماوية الأخرى، بعد أن كان ديدن الغرب ـ والمستشرقين على وجه خاص ـ اعتبار أن الإسلام في أفضل الظروف طائفة منشقة عن المسيحية وخارجة عليها. أما في هذا الكتاب فإن ريتا دي ميليو تعلن منذ بداية سطوره أنها سوف تكتب عن الدين الذي تحبه وتحترمه، وتعمل على تبليغ محتواه لمن لم يعرف، ليس لأنها تعمل في مجال الدعوة، بل لما ترى من تعرض الإسلام إلى ظلم كبير من جانب من لم يعرفه من الغرب، وقدم إليه بصورة مشوهة، أحيانا عمدا، وأحيانا عن جهل وضيق أفق. إننا بصدد كتاب يكتب عن محمد (صلى الله عليه وسلم) باعتباره نبي الله ورسوله، وعن الله الواحد الأحد في كل الأديان. وهي لا تنفي الاختلاف، ولكنها في نفس الوقت تعزز الاتفاق، وهو في رأيها اتفاق كبير وذو مغزى ولا يصح تجاهله. جاء الكتاب في فصول سريعة بدأت بعرض لحياة الرسول (صلى الله عليه وسلم)، أبرزت فيها المؤلفة الخصال التي اشتهر بها قبل البعثة النبوية مثل الصدق والأمانة، كما عرضت لحال المجتمع العربي قبل نزول الإسلام، وكيف جاء هذا الدين لكي يصلح الكثير من الأمور التي كانت تضرب في أساس هذا المجتمع، وليحوله من مجتمع بدوي بدائي إلى واحد من أعظم الحضارات التي شهدها التاريخ. وربما كان أهم ما في هذا الجزء من عرض الحياة الأولى للرسول (صلى الله عليه وسلم) هو أنه ابتعد عن الطروحات التي سادت في كتب وأفكار عدد غير قليل من المستشرقين، بل ردت عليهم المؤلفة وأكدت أن محمدا هو نبي الله ورسوله وأن رسالته منزلة من السماء. ولمحت إلى أن أول من اعترف بنبوة محمد (صلى الله عليه وسلم) كان مسيحيا، وهو ما استغله مفكرون آخرون ليقدحوا في النبوة ويشككوا فيها، عندما اعتبروا أن محمدا لم يكن إلا قسا متمردا وناقما. والمؤلفة تطرح أفكارها بقوة وترد عليها بقوة أيضا، من دون خوف أو تردد، بل لا تتردد في اتهام كتاب بني جلدتها بالغرور حينا وبالجهل دائما. وضعت ريتا دي ميليو مقدمة لكتابها تعبر فيها عما يجيش في وجدانها من حب وتأثر بالدين الإسلامي، إلى الحد الذي يجعلك تتصور أنها اعتنقت الإسلام بالفعل. في مقدمة الكتاب تشير الكاتبة إلى أن الإسلام لا يمكن أن يحيط به أي كتاب مهما تضخمت صفحاته، فهو يستحق الكثير من الكتب، لكي تلم بجوانبه المتعددة، وهو كالماسة لها ألف بريق، وليس من الإنصاف اختصاره في كتاب واحد. وفي هذا إشارة إلى القضايا الكثيرة التي يمكن الكلام فيها عن الإسلام والجوانب المتعددة له، وتبرير للقراءة الموجزة السريعة لهذا الدين، بهدف التعريف، أكثر من الدخول في مناقشات وجدل حول القضايا الخلافية. ورغم هذا، ورغم نص الكاتبة على أنها تأخذ بمنهج التبليغ الإسلامي، فقد تعرضت في فصول كتابها المختلفة إلى كثير من القضايا الخلافية، قالت فيها رأيها بصراحة وجرأة، خاصة قضية الجهاد، التي قدمت فيها تبريرات منطقية عقلانية للجهاد الإسلامي، بعيدا عن استغلال هذا الفرض الديني لأهداف سياسية وإرهابية. وفصلها في الجهاد، رغم أنه يتحدث عن الجهاد بوصفه «الحرب المقدسة»، وهو التعبير الذي لم يعرفه الإسلام، ولكنه منقول عن الغربيين في حروبهم الصليبية، ولكنها استخدمت المصطلح الغربي لكي تقرب إلى أذهان الغربيين هذا المفهوم، هذا الفصل عن الجهاد يعتبر من أجمل ما كتبه قلم غربي منصف ومحايد في هذه القضية. فهي ترى فيه فرضا على كل مسلم، ولكنها تقول إن الحرب في الإسلامية دفاعية، لأن القرآن ينهى صراحة عن الاعتداء على الغير، ويأمر المسلمين بالدفاع عن أنفسهم، وعن أموالهم، وبالتعاضد لنصر المستضعفين من المسلمين. تأخذ ريتا دي ميليو بالمنهج العزيز على الغرب، وهو النقدي التاريخي، الذي يحاول أن يتناول الأحداث في الجزيرة العربية، من خلال الترتيب الزمني لحدوثها، وتفسيرها ضمن السياق التاريخي لهذه العصور، من دون أن تعطي للبعد الغيبي ثقلا كبيرا في التفسير، ورغم هذا فهي تصل إلى نفس النتائج التي يمكن أن يصل إليها علماء الدين، اعتمادا على النصوص المقدسة وحدها، من دون تحليلها نقديا وضمن السياق الاجتماعي والإنساني والتاريخي لها. ولهذا فإنه ليس من المبالغة أن نعترف لها بفضل الاجتهاد في تفسير بعض أحداث التاريخ، التي تخص مسيرة الدين والحضارة الإسلاميين. هكذا تبدأ ريتا دي ميليو بعرض حياة العرب قبل الإسلام وترسم خريطة للمعتقدات الدينية، التي كانت سائدة في هذه المنطقة، والتي تجاورت فيها الوثنية إلى جانب عبادات غريبة للنباتات والأشجار والأشياء المختلفة، كما كان هناك انتشار محدود، وفي مواضع بعينها للمسيحية واليهودية، خاصة في اليمن وفي شمال الجزيرة العربية.

في شبه الجزيرة العربية، وبخلاف تقديس الأشجار والنباتات، كانت هناك عبادات للأحجار المقدسة، وهي أحجار متحركة أو متساقطة أو صخور بارزة أو معلقة، تحمل الملامح البشرية، ولم يكونوا يعبدونها لذاتها، وإنما باعتبارها حاملة للألوهية أو رمزا لها. فكانوا يقيمون إلى جوارها الاحتفالات الدينية التي تشتمل على القرابين وأعمال الحج والمهرجانات. أما البدو الرحل فكان لديهم على العكس محراب متنقل، يسمى القبة، وهو نوع من المراكب المقدسة، كانت ترافق القبائل في تنقلاتها السلمية أو الحربية.

والكاهن، وهو شخصية بين القس والساحر، كان له تأثير كبير، وكانوا يستشيرونه في الأمور المهمة. وفضلا عن الأصنام كان العرب يؤمنون بالجن، وهي مخلوقات غير مرئية، يمكن أن تكون طيبة أو تكون شريرة ، ويمكنها أن تؤثر سلبا أو إيجابا على حياة البشر. وتشير ريتا دي ميليو إلى النظام السياسي السائد في الجزيرة العربية قبل الإسلام وهو تنظيم سياسي واحد هو القبيلة. كانت الصلة الوثيقة بين أبناء القبيلة الواحدة ناشئة عن وعي أبنائها بأنهم سلالة جد واحد مشترك. وهذا الجد، طبقا للتراث العربي، سليل جد آخر، وهو زعيم مجموعة من القبائل، وهكذا من جد إلى جد نصل إلى شخصيتين رئيسيتين، تعتبران الأصل في أهل شبه الجزيرة كلها. هاتان المجموعتان الكبيرتان يمكن تقسيمهما إلى مجموعة الشمال ومجموعة الجنوب. المجموعة الجنوبية هي القحطانية التي تنتسب إلى جدهم قحطان، والمجموعة الشمالية تحمل اسم العدنانيين وتنتسب إلى عدنان، ويسمون كذلك بالإسماعيليين، لأنهم يعتبرون عدنان سليلا لإسماعيل بن إبراهيم. وكان أهل مكة يسيرون على سنة باقي أهل شبه الجزيرة، ويعتمدون نظاما اجتماعيا قائما على القبلية. وأكبر قبائل مكة التي كانت تضم معظم السكان، وبصفة خاصة الأغنياء وكبار القوم، هي قريش، ومنها الكلمة المعروفة في الإيطالية، القرشيين Quraishiti. كان لمجلس القبيلة مقر، وله رئيس هو الذي يدير شؤون المدينة. وقد تكونت وتشكلت مهام توزعت على القبيلة، منها خدمة وصيانة الكعبة، ووفادة وسقاية وإطعام الحجيج، وهكذا دواليك. وقد وصلت الحياة الاجتماعية في هذه المدينة إلى مستويات أكثر رقيا من تلك التي شهدتها المراكز الحضرية الأخرى، خاصة مجتمعات البداوة. هذا هو باختصار حال البيئة الدينية والاجتماعية التي ولد محمد وعاش فيها حتى نزول الوحي، وما تبعه من انتشار للإسلام.

تعرض المؤلفة مولد وحياة الرسول محمد بنفس الطريقة والمنهج التاريخي النقدي الذي يقبله الغرب، ولكنها تأخذ في الاعتبار في نفس الوقت أن المسلمين يعتبرون أن حياة محمد وأقواله وأفعاله جزءا لا يتجزأ من العقيدة الإسلامية، التي تقوم على القرآن والسنة.

كما تعرضت لزواجه من السيدة خديجة، التي جذبت استقامته انتباهها، فكلفته بتجارتها وأرسلت معه ميسرة، الذي حكى لها بعد عودته عن المعجزات التي أتى بها الرسول في رحلته، واستشارت فيها قريبا لها هو ورقة بن نوفل، الذي أكد لها أن هذه الصفات تنطبق على النبي، الذي بشرت به الكتب المقدسة، والذي سوف يظهر في بلاد العرب. فرحت خديجة بهذا وعرضت الزواج على محمد فقبل وأنجب منها أربع بنات: زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة، وولدين ماتا. كان يسر الحال الذي جاءه من زواجه بخديجة، سببا في أن يستطيع محمد التفرغ لحياة تلائم ميوله الطبيعية: الخلوة والتأمل، ثم تحكي المؤلفة كيف هبط الوحي على النبي في غار حراء، كما ترويه الروايات العربية، وقد جاءت في هذا السياق التاريخي متسقة ومتوافقة، والأهم أنها لم تبذر أي بذرة شك في بعثة الرسول، وفي نزول الوحي عليه، وفي أن القرآن الكريم هو كتاب الله المنزل للعالمين. وقدمت المؤلفة للهجرة النبوية وهجرة المسلمين الأولى والثانية، ووصفت محمدا في المدينة بأنه كان نبيا وكان زعيما سياسيا عبقريا، استطاع أن يقود الأمة منطلقا من المدينة، رغم كل مشاكلها، ورافعا شأن الأمة إلى عنان السماء. كما أشارت إلى أول ميثاق للتعامل مع الآخر في التاريخ، وهو «صحيفة المدينة» التي رتبت حقوق المسلمين وغير المسلمين في دولة الإسلام الجديدة. ورغم هذا فقد عرضت الوضع في المدينة كما يلي: «في المدينة اعتنق الوثنيون الإسلام وأظهر المسيحيون تعاطفهم مع النبي، أما اليهود فظلوا متصلفين ومعادين رغم العهد الذي أشرنا إليه». وفي الكتاب كله نلمح حرص المؤلفة على إظهار أن اليهود ظلوا دائما يلقون معاملة حسنة من الإسلام، ولكنهم لا يردون هذه المعاملة بمثلها، وإنما كان ديدنهم دائما الغدر ونقض العهود، وهو بالتأكيد من المواقف الشجاعة، التي يقل من يقررها في الغرب، خوفا من التهمة الشائعة بمعاداة السامية، التي أصبحت تخيف الأقلام جميعها هناك. الرأي الوحيد الذي تأثر بما يكتبه المستشرقون هو ما روته المؤلفة عن فترة صدر الإسلام، وبالتحديد غزوة بدر، فقد قالت: «ودفعت ضرورة توفير احتياجات الجماعات محمدا إلى مهاجمة قافلة ثرية لمكة، كانت متجهة إليها من الشام. وعندما علمت قريش أرسلت جيشا يغيثها مكونا من ألف رجل..». فالمستشرقون عادة يرون أن محمدا والمسلمين كانوا يهاجمون القوافل ويقطعون الطريق لتوفير الطعام والشراب للمهاجرين، وهو ما لم يكن صحيحا، وإنما كانت هناك أسباب أخرى يرغب عن ذكرها هؤلاء ولم تذكرها المؤلفة أيضا. رغم أنها بعد ذلك تروي معركة بدر من الوجهة الإسلامية، وأن الله عزز فيها المسلمين بجند من عنده، كما يؤكد القرآن الكريم، ليس هذا وحسب، بل إنها عندما تعرضت إلى قضية الجهاد في الفصل العاشر من الكتاب، نفت عن غزوة بدر أن تكون بهدف قطع الطريق على قوافل مكة، وإنما كانت حربا للدفاع عن النفس والمال. تفرد المؤلفة جزءا خاصا بمحمد النبي والإنسان، وتقرر فيه إن شخصية محمد هي إحدى الشخصيات الأكثر تفردا من بين أعظم الشخصيات التي صنعت تاريخ البشرية. ومعجزاته، بالنسبة لمن يؤمن به وبالنسبة لمن لا يؤمن، تعد من الأحداث المذهلة. ولكنه كان هو نفسه المعجزة الأكبر، شخصيته وحياته. ولأن ما تقوله ريتا دي ميليو في هذا الموضوع يستحق أن يعرض بالكامل، فهو ممتع كتابة وأسلوبا، فسوف نعرض له في ما يلي مع بعض الاختصار غير المخل بالمعنى والسياق. في مكة كان رجلا وديعا، يكاد يكون زاهدا في تعبده وفي عزلته الروحية. وكان رب بيت مثاليا طوال عشرته التي دامت خمسة وعشرين عاما من الحب مع زوجته التي كانت تكبره، خديجة. ورغم ما تعرض له من عداوة واستهزاء، فإنه ظل واثقا من نفسه ومن النصر النهائي لربه، ويجيب بهدوء ليهزأ من الكفار بآيات من القرآن وهو يهددهم بنار السعير. وفي المدينة تحول إلى رجل سياسي محنك، حتى أصبح رئيس دولة ومحاربا لا يشق له غبار. من ذا الذي يستطيع أن يتعرف في هذا الواعظ الوديع الذي كان في مكة على الفارس المقدام الذي يقود جيشه لفتح الجزيرة العربية وما خلفها؟ يحكى أن النبي كان يمكن التعرف عليه من بين جميع المحاربين، رغم وجهه المغطى، وذلك من خلال ومضات بريق في عينيه.

من يريد أن يشوه هذه الشخصية العظيمة فهو يضعه عادة في مقارنة بالمسيح. ولكن الشخصية الزاهدة للمسيح ليس لها أي علاقة بإنسانية محمد. فنبي الإسلام الذي كان يخوض الحروب، ويشن الغارات ويمارس القصاص، يجب النظر إليه داخل البيئة التي وجد فيها، والذي كانت طريقة حياته فيها هي القاعدة. فقد كان «رجلا مثل جميع الرجال»، رجلا مصطفى ولكنه في جميع الأحوال رجل، وقد أكد القرآن على هذا المفهوم مرتين. المرة الأولى في سورة الكهف الآية 110: «قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ». والمرة الثانية في سورة الإسراء الآية 93: «قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً».

والفارق بينه وبين الآخرين من البشر هو أن الله اصطفاه وكلفه بتبليغ رسالته. وجعل منه خاتم الأنبياء! وهناك من لا يزال يرى في القرآن مجموعة من القواعد الدينية من أصول مسيحية ويهودية، تعلمها محمد من خلال اتصالاته مع شخصيات كبيرة تنتمي إلى هذين الدينين، قابلهم في مكة وفي المدينة. ومنها لفق محمد قرآنه. أي أن هؤلاء يرمون محمد بالانتحال. وفي هذا المجال فإنني أطرح الأسئلة التالية. لماذا كان عليه أن يخترع كذبة ضخمة مهولة مثل تلك؟ لجنون العظمة، حبا بالسلطة؟ في مكة، حيث لم يحقق الكثير من النجاح وواجه العديد من الآلام، لم يكن ليلتزم بهذا الصراع الذي كان يبدو بلا مخرج، إلا إذا مقتنعا بصحة رسالته. كيف استطاع أن يفحم بآيات القرآن اللاذعة الكاذبين والمنافقين إذا كان هو نفسه كاذبا؟ وإذا كان هو الذي ابتدع هذا الإسلام من بنات أفكاره فلماذا لم يجعله بسيطا سهلا مقبولا من غالبية قومه؟ هؤلاء القوم الذين كانوا مشركين وثنيين وأتى لهم بدين توحيدي؟ بالإضافة إلى الديانة التوحيدية لماذا فرض عليهم صيام رمضان وهو أمر شاق جدا في شبه الجزيرة العربية حارقة الحرارة؟ وكيف أمكن أن يصبح من أصدقائه أشخاص من نبلاء الروح ومن الموهوبين بالذكاء الراقي إذا لم يكونوا يعتبرونه من الصادقين؟ وكيف استطاع وهو الأمي أن ينتج عملا على قدر كبير من القيمة أدبيا ولغويا؟ كم من الأسئلة التي يمكن طرحها وكم من الإجابات! ولكن هذا العرض هو عرض إسلامي وليس دراسة نقدية. وبالنسبة للمسلمين فإن محمدا هو نبي شديد النقاء والصدق، رسول الله، قدوة للمؤمنين، وخاتم للنبيين. على اتهامه بالقسوة يمكن الرد ببساطة: لقد عاقب محمد بقسوة أفرادا ارتكبوا جرائم، أو أعداء عنيدين مثل القلائل (ستة) من القرشيين عند فتح مكة، واليهود الذين خانوه.. واستعمل كل الوسائل التي أتاحها له المجتمع آنذاك للدفاع عن جماعته ودعمها. حارب بإمكانيات متواضعة وبمعاونة قليلة حتى لا يسقط أمام الأعداء والمنافقين الذين كانوا يريدون له الخراب. ولكي يواجه احتياجات جماعته لجأ إلى شن الغارات، التي كانت تعتبر مشروعة في شبه الجزيرة العربية منذ أزمنة أبعد وليست قابلة للحكم عليها بمقاييس أفكارنا الغربية. والحروب التي قام بها، سواء دفاعية أو هجومية، كانت لنشر دعوته. ولكن هذا العمل الوحشي في حياة الإنسانية حاول هو أن يجعله أقل وحشية. فقد أمر جنوده: «لا تقتلوا شيخاً فانياً لا تقتلوا امرأة لا تقتلوا صغيراً رضيعاً لا تهدموا بناءً لا تحرقوا شجراً لا تقطعوا نخلاً وأحسنوا».

كم هو فارق كبير بين هذا وقلة من المتطرفين في إحدى دول شمال أفريقيا الذين لم يتورعوا ولا يتورعون عن قتل البشر من جميع الأعمار والملل. لقد قتلوا طفلا في مقبرة! ولكني لا أزيد على هذا. ولكن هل يكون «المتطرفون» هم فعلا من يرتكبون مثل هذه الجرائم البشعة؟ أم كما يرى البعض، هم «آخرون» لهم مصلحة في إظهار المسلمين في زي القتلة السفاحين؟ من يدري! ومع ذلك لا بد من الاعتراف بأن التطرف يؤدي إلى كثير من التجاوزات التي لا تخطر على البال! يحلو لبعض الكتاب الغربيين على غير علم أن يتندروا بالزيجات المتعددة، التي عقدها محمد (صلى الله عليه وسلم) في المدينة ويركزون على الجانب الشهواني فيها. أولئك الكتاب لا يضعون في حسبانهم، أو لا يعرفون، العادات السارية في زمن النبي، حيث كان الزواج يتم بسهولة فائقة وينفسخ من دون قيود، وتعدد الزوجات كان هو القاعدة العامة. والإسلام الذي كان يدعو إليه محمد وضع للزواج قواعد لم تكن موجودة قبله. وينبغي التأكيد مع ذلك على أنه تقدم في العمر، وحتى الخمسين من عمره، كان مخلصا لخديجة. وبعد أن ماتت عقد عددا من الزيجات الكثير منها كان لأهداف سياسية. فجميع زوجاته (ومن بينهن التاسعة وهي يهودية) كن جميعهن أرامل، وواحدة فقط هي التي كانت صغيرة السن، وهي عائشة بنت أبي بكر، وقد تزوجها عذراء. وكانت بعض الزيجات أيضا بدافع انجاب ولد ذكر، لأن من أنجبهم من خديجة وماريا القبطية ماتوا. ومن ثم فقد تحمل مسؤولية وأعباء أسرية ضخمة، رغم قلة موارده المالية، ومع ذلك لم يستخدم الحق في الطلاق. وعلى أي حال فإن الإسلام لا يحبذ الطلاق. وهناك كثير من الآيات القرآنية التي تدين الطلاق ضمنيا، وكثير من الأحاديث تؤكد على هذا المعنى، مثل: «تزوجوا ولا تطلقوا فإن الطلاق يهتز له العرش».. «أبغض الحلال إلى الله الطلاق، ما أحل الله شيئا أبغض إليه من الطلاق». ولم يختلف سلوك محمد في هذا عن سلوك الأنبياء القدامى، مثل داوود وموسى، الذين لم يفكر أحد مطلقا في إدانتهم بسبب تعدد الزوجات، بنفس القدر الذي حدث مع نبي الإسلام! رغم السلطة التي اكتسبها في المدينة لم يكن محمد أبدا رجلا ثريا، أو سيدا عظيما، أو ملكا له قصور مشيدة وثياب فاخرة، لا لنفسه ولا لمن يعول. كان رجلا معتدلا مقتصدا. يحكي التراث أن طعامه اليومي كان يتكون معظمه من بضع ثمرات تمر وكوب من الحليب. وذات يوم دخل عليه عمر بن الخطاب، الذي سوف يصبح ثاني الخلفاء المسلمين، وسأله: أما أنا فاشهد أنك رسول الله ولأنت أكرم على الله من قيصر وكسرى وهما فيما هما فيه من الدنيا وأنت على الحصير قد أثر في جنبك!! فقال الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): أما ترضى أن يكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟! وقد بنى لنفسه في المدينة في بداية هجرته إليها مسكنا واسعا بسيطا له فناء كبير، حيث كان يعقد الاجتماعات مع المؤمنين لإبلاغهم بالوحي الإلهي، ولإقامة صلاة الجماعة، ولإعطاء الأوامر من كل نوع سواء ذات الطابع الديني أو المدني أو الحربي، حيث كان محمد يستقبل السفارات التي تأتي للتعرف عليه وتقديم الهدايا له، حيث كانت تعيش زوجاته. أما عن الثروات فكان يستطيع الحصول على الكثير منها ولكنه لم يكن يريد. حذره ربه من هذا في كثير من سور القرآن. كان حب النبي للضعفاء حبا يضرب به المثل، سواء من الرجال أو الأطفال، من الفقراء واليتامى. فقد كان هو فقيرا يتيما. وفي هذا المجال يكفي أن نذكر أقواله التالية: «خير بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه وشر بيت فيه يتيم يساء إليه، أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين، ويشير بإصبعيه». «من مسح رأس يتيم لم يمسحه إلا لله كان له بكل شعرة مرت عليها يده حسنات» «لكل أمر مفتاح، ومفتاح الجنة حب المساكين والفقراء، وهم جلساء الله يوم القيامة». أما حبه وعطفه على الحيوان فيمكن أن نلخصه في القصة التالية: ذات يوم نام النبي وعندما استيقظ وجد قطا قد تسلل إلى كم ثوبه الواسع ونام هو الآخر، فتركه ولم يتحرك حتى لا يزعجه، إلى أن استيقظ القط وانصرف من نفسه.

محمد، النبي والإنسان، بضعف أي كائن بشري، وبالقوة التي أمده بها الإيمان العميق برسالة الرسول الذي بعثه الله، كان بلا شك، وهو ما أؤكده وأشدد عليه لأنني مؤمنة به، من أعظم الشخصيات في التاريخ الإنساني. فهو لم يكن وحسب صاحب دعوة لديانة توحيدية، وإنما كان مناديا بالأخلاق السامية. نصر الضعيف على القوي، والفقير على الغني وحماية المعدمين وأشار إلى أن الغاية الأخيرة هي الحياة الخالدة. ووصل إلى أرقى مراتب الأخلاق عندما راح يبلغ ما أرسله إليه ربه: (سورة الليل من الآية 14 إلى الآية 21): وكان يدعو: "قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ".(سورة الأنعام الآيتان 162-163).