الفكر العربي بلا هوية

عائض القرني

TT

لا يوجد للفكر العربي المعاصر معالم ثابتة، ولا مسارات محدّدة، بحيث يتميز عن غيره من أفكار الأمم والشعوب، فهو متماهٍ وعشوائي إلى درجة دخول الديني واللاديني والمؤمن والملحد تحت مسمى الفكر العربي، وإذا لم يكن لهذا الفكر شخصيته البارزة والمتفردة عن الأفكار الأخرى، فلماذا نسميه الفكر العربي؟ فهو إذاً كغيره من الأفكار كالفكر الغربي والصيني والكوري ونحو ذلك، ونحن العرب شرفنا الوحيد هو رسولنا الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم، وما جاء به من عند ربه تعالى، أما مآثر الجاهلية الجهلاء، أو شجاعتها الهوجاء، أو مكارمها الرعناء، فعند الأمم والشعوب أضعاف مضاعفة من هذا الكم من الأخبار والروايات والقصص، ولماذا لا يعلن الفكر العربي بصراحة وشجاعة ووضوح، أن رسالته هي رسالة الإسلام، وأن منطلقاته من الوحي المقدس، وأن هويته ربّانيّة محمّدية لا مساومة في ذلك ولا تنازل، حينها يُعرف الفكر العربي بهذه البصمة ويصبح له لون معروف، ومكان مرموق، ورسالة محدّدة محترمة، وإذا لم يحصل هذا التحديد، فما الفائدة فيما أن يُقال الفكر العربي، بل الأفكار العربية من إسلامية وقوميّة وبعثية وعلوية ودرزية ونصيريَّة وناصريَّة ونصرانيَّة، وسوف يدخل في هذا الفكر الشعارات القومية الزائفة، يقول الشاعر العربي القومي البعثي (طبعاً بلا إسلام):

آمنت بالبعث ربا لا شريك له

وبالعروبة ديناً ما له ثاني!!

وسوف يشمل الفكر العربي هتافات الشاعر القومي العربي (طبعاً بلا إسلام) القائل:

هبوا لي ديناً يجعل العرب ملة

وسيروا بجثماني على دين برهمِ

سلام على كفر يؤلّف بيننا

وأهـلاً وسهلاً بعده بجهنمِ

ويصبح الفكر العربي بلا هوية كثمن شاة الأعرابي، التي عرضها بالسوق للبيع فقيل له: بكم شاتك؟ فقال: شاتي بسبعة دراهم، وقد طُلبت مني بثمانية، فإن كنت تريدها بتسعة فخذها بعشرة، لماذا يخجل الفكر العربي المعاصر من إعلان هويته الإسلامية، بينما أعلن الرفاق الشيوعيون قديماً في عدن هويتهم، وأعلن البعثيون في أول بيان لهم رسالتهم، وصرّح الضبّاط الأحرار بتوجههم، وكل دعوة أو منظمة أو مؤسسة أو كيان يعلن بقوّة وبشجاعة عن مبادئه وهويته إلا الفكر العربي، فإنه غامض ومتردد رمادي اللون (مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء( كما قال عمران بن حطان:

يوم يمانٍ إذا لاقيت ذا يمنٍ

وإن لقيت معدّياً فعدنانِ

لا نريد للفكر العربي أن يعود إلى ملاعب الوثنية في داحس والغبراء، وعبس وذبيان، ومراتع الجهل، والتخلف في مغاني اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، نريد فكراً مؤمناً بالله في قافلة أبي بكر وعمر ومالك والشافعي والغزالي وابن تيمية وابن رشد وابن خلدون وإمام القافلة سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم:

فإما حياة نظّم الوحي سيرها

وإلا فموتٌ لا يسرُّ الأعاديا

وتأكد من بضاعة الفكر الوافدة إليك بأن يكون الطابع المسجل ربّانيا محمديا والشركة المنتجة «ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا»، والوكلاء الوحيدون «رجالاً لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله» والعلامة الفارقة «سيماهم في وجوههم من أثر السجود» والفكر العربي بلا وحي هو المسؤول عن هزائمنا ومآسينا، فهو الذي هزمنا في حزيران وسلَّمَ سيناء وباع الجولان، واحتل الكويت، وضرب الرياض بصواريخ سكود، وحارب دعوة التضامن الإسلامي التي أطلقها الملك فيصل، وكل شؤم دخل علينا فهو من الفكر العربي الأرضي المحارب للدّين، وكل انتصارات حصلت لنا فهي ثمرة لاعتصامنا بحبل الله في بدر وحنين واليرموك والقادسية وعين جالوت، مع الشكر للشاعر الفيلسوف العالمي محمد إقبال، وهو يحيي التاريخ الإسلامي في المشرق، حيث يقول مخاطباً ربّه عز وجل:

إذا الإيمان ضاع فلا أمان

ولا دنيا لمن لم يحي دينا

ومن رضي الحياة بغير دين

فقد جعل الفناء لها قرينـا

فيا صاحب الجمرك، لا تتأمرك، وأحذّرك من مزدك، وفوّض إلى الله أمرك، واعرف قدرك، ووحّد الله ولا تشرك.