د. مسفر القحطاني: أزمة الوعي الديني سببها ضعف الوعي بفقه الدين ومفاهيمه

أستاذ الدراسات الإسلامية لـ «الشرق الأوسط» : أنا على خلاف مع طروحات أركون ونصر حامد أبو زيد

TT

أكد الدكتور مسفر القحطاني، رئيس قسم الدراسات الإسلامية والعربية بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن في الظهران، أن سبب أزمة الوعي الديني في السعودية هو نتيجة ضعف الوعي بفقه الدين ومفاهيمه الحياتية والأخروية، إضافة إلى وجود خلل في فقه التدين والامتثال من خلال عدم وجود قناعات راسخة بالعمل والالتزام بالدين وأحكامه العملية. وأضاف القحطاني في حوار مع «الشرق الأوسط» في الدمام، أن ثورة الاتصالات والإنترنت والقنوات الفضائية ساهمت في خلق حراك فكري لأطروحات متعددة لم يعرفها مجتمعنا الشرعي وبالتالي نتجت عن ذلك مواقف متباينة إزاء هذه الآراء كالأطروحات التكفيرية أو التنظيرات العصرانية أو الليبرالية الإسلامية مقابل التيارات الحركية والمذهبية والطائفية التي تنامت واستقطبت جماهير جديدة بفعل أدوات التأثير الإعلامية.

> تحدثتَ عن أزمة وعي ديني في السعودية. ما هو سبب هذه الأزمة؟

ـ يعود سبب الأزمة الدينية المحلية عند البعض لضعف الوعي بفقه الدين ومفاهيمه الحياتية والأخروية، وكذلك لوجود خلل في فقه التدين والامتثال من خلال عدم وجود قناعات راسخة بالعمل والالتزام بالدين وأحكامه العملية، كل هذا أدى إلى ما نحن عليه من أزمة.

> وكيف برزت أزمة الوعي الديني؟

ـ تعتبر السعودية من حصون الإسلام وحماة معالمه والداعية إليه في وقتنا المعاصر، والشعب السعودي انطبع على حب الدين والتمسك به. فأصبحت شعائر الدين مظاهر واضحة لهذا البلد وتميزه عن بقية بلاد العالم. ومع الامتثال برزت أزمة الوعي، لأن الوعي مرحلة أبعد من المحاكاة الفطرية للتدين وأكثر تأثيرا على الإنسان من مجرد الممارسات الدينية التلقائية التي يقوم بها الفرد كعادة أو مظهر اجتماعي ينقصها الإدراك التام بأهميتها ومقاصدها وفعاليتها في حياته.

> كيف تلخص مظاهر أزمة التطرف في السعودية؟

ـ لعل من مظاهر أزمة التطرف الغياب في فهم الشرع وفقه التدين، والذي أدى إلى بروز ظاهرة التطرف لدى البعض من شبابنا مع علمهم بالشريعة وحفظهم لأحكامها؛ ولكن لغياب مقاصد التنزيل لأحكامها المستجدة، وعدم التعلّم من خلال نقد ومراجعة وترجيح الآراء الفقهية المتنوعة، والتأدب للاختلاف، والسعة عند الحوار، وعدم التعجل في الإقصاء أو الممانعة المسبقة لكل طرح جديد، أو فقه معتبر مخالف للسائد في البلاد. كل ذلك وغيره قد ولّد عقليات متشنجة ومتعصبة لرؤية أحادية لا تنظر للشرع أو للواقع إلا من خلالها ثم تربط بهذه الرؤية الناقصة الحق الذي لا يحيد عنه إلا هالك. كما يمثل غياب الربط بين مقاصد الشريعة وأحكامها خلل في الأولويات والموازنات بين مصالح العمل الفردي ومصالح الدولة والجماعة، أو بين مصالح تطبيق سنة شرعية على حساب مقصد الوحدة والائتلاف بين المسلمين، أو بين درء مفسدة خاصة بفئة لكنها جلب لمنافع عظيمة للعباد والبلاد أو العكس، كأن تكون مصلحة خاصة بفئة تُفرض ولو كانت مفسدة عامة للناس. بالإضافة إلى الخلل في إعمال دلالات الشريعة في النهوض والتقدم والشهود الحضاري على الناس، وأعتقد أن تلك الأطروحات شبه غائبة في الخطاب الشرعي المحلي.

> ومن المتسبب في حدوث الأزمة؟

ـ لا يمكن أن نحكم على شخص أو جهة بعينها أنها سبب حدوث تلك الأزمة أو غيرها. وذلك أن تنامي الأزمة وتراكمها في مجتمع ما، هو نتيجة تداخل وتراكب أسباب عديدة لها علاقة بطبيعة الفرد وبيئته المحدودة لعقود من الزمن قبل الانفتاح الكبير الذي يعيشه الآن.

ولعل الثورة الاتصالاتية والإنترنت والقنوات الفضائية ساهمت في خلق حراك فكري لأطروحات متعددة لم يعرفها مجتمعنا الشرعي، وبالتالي نتج عن ذلك مواقف متباينة إزاء هذه الآراء كالأطروحات التكفيرية أو التنظيرات العصرانية أو اليبرالية الإسلامية مقابل التيارات الحركية والمذهبية والطائفية التي تنامت واستقطبت جماهير جديدة بفعل أدوات التأثير الإعلامية.

> كيف ترى دور المؤسسات الشرعية والدعوية في تحصين الشباب من التطرف؟

ـ بعض الشباب له قابلية للتأثر بأفكار متطرفة والغلو في الدين والخروج عن ثوابت الدين القطعية، وهي مسؤولية مؤسساتنا الشرعية والدعوية في التحصين والتربية الواعية وتنمية منهجية النقد والتفكير الموضوعي. والتقصير الذي نتج عن المؤسسات الشرعية ـ من وجهة نظري ـ أثمر عن وجود هذه النتوءات والمفارقات لتيارات متباينة داخل مجتمع واحد ومذهب واحد ومنهجية فقهية واحدة.

> وكيف ترى مشهد الحراك الثقافي الديني اليوم في السعودية؟

ـ هناك تيارات اتخذت موقفا صارما مع السائد الفقهي في المجتمع، سواء كانوا من المتطرفين غلواً أو تحرراً من ثوابت الشريعة، وربما كانت بينهما أطياف فكرية تحمل رؤى تجديدية وإصلاحية وتختلف في قضايا الواقع وشؤون التغيير والإصلاح. وأعتقد أن اختلاف هذه الأطياف الفكرية ينبغي أن يقود إلى ائتلاف ما دام أنهم يقفون عند الثوابث الشرعية من نصوص وإجماعات، واختلافهم حينئذ في الفروع وأولويات التغيير ووسائل الدعوة ينبغي أن يكون تنوعا وتبادلا للأدوار وتعاونا على تحقيق الصالح العام للوطن والمواطن.

> ماذا تقصد بالائتلاف الذي تنشده في ظل التباين الفكري بين التيارات والأطياف في السعودية؟

ـ بمعنى أنه إذا لم تُدرك تلك الأطياف أهمية مراعاة الثوابت الدينية والوطنية فإن الحراك الديني قد يؤدي إلى حزبية وجزر متباعدة داخل الوطن الواحد قد تكون سببا كبيرا لتنامي وتيرة الحراك السياسي والتشرذم الخطير لفئات المجتمع. ونحن ندرك بشكل أكيد أن تصاعد الخطاب الفئوي والحزبي سيخرج من تحت أرض المنازعات الأخرى والعصبيات النائمة من طوائف وقبائل وعنصريات وإقليميات، كلها أخطار حقيقية على وحدة الوطن وانسجام مواطنيه وحفظ مكتسباته.

> من خلال رأيك، هل يسير الحراك الثقافي في السعودية نحو التشدد أو الاعتدال؟

ـ أتصور أن الحراك الإيجابي لا يلغي حق الآخر في إبداء وجهة نظره ولا يصادر حقوق الأفكار المقبولة والنافعة والصالحة للدين والمجتمع. وانحراف الحراك نحو الحظوظ الخاصة جماهيرية أو جهوية أو مادية سيعيد الفتن والنزاعات والقلاقل على حساب الشرع والوحدة والأمن والتنمية.

> تطرح من خلال كتاباتك وأبحاثك، أن من أحد أسباب وجود التطرف أو «الإرهاب» تغييب العقل، كيف يكون ذلك؟

ـ المقصود من تغييب العقل هو الخلل في بناء العقلية العلمية التي قررها القرآن في كثير من المواضع التي لا حصر لها مثل: رفض الظن في موضع اليقين كما وصف القرآن الضالين في قوله تعالى: «وما يتّبع أكثرهم إلا ظناً وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً»، ومثلها رفض الأهواء والعواطف والحماسات في مجال العلم كقوله تعالى «أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم»، وكذلك رفض القرآن التقليد الأعمى للآباء والأسلاف بمعنى الجمود والتسليم المطلق من دون تمحيص الحق منه، لهذا كانت أغلب دعوات الأنبياء هي في مواجهة تلك العقلية الجامدة والتقليدية. كما أن التعبد بالنظر العقلي موجود في أكثر من صورة ومنحى في القرآن. وهذا يؤكد أن العقل معتبر في فهم الشرع والعمل بأحكامه. فإعمال العقل المسدّد بالشرع المطهّر يقي المسلم آفة التحجّر والغلو في الأشخاص والآراء ويؤمن القدرة على التجدّد والمواكبة لتغيرات العصر.

> وكيف نوافق بين العقل والنصوص الدينية؟

ـ أوجد بعض المفكرين معركة موهومة بين العقل والنص، وهما صنوان: العبادة والعمارة، وكما ذكرت أن من الاستحالة العقلية أن يكون العقل مناط التكليف وآلة الاجتهاد والاستنباط، ثم يكون مغيبا في الشرع، أو تعطى للعقل هيمنة التفسير المطلق للنص مع تباين العقول وتأثرّها بالأهواء والمعتقدات السابقة. فالعقل حينئذ أسير ومكبل بتلك القيود، فكيف يطلب منه أن يكون حاكما أوحد للنص المقرر وغير المحرّف والذي أثبت صلاحيته مع متغيرات الظروف الزمانية والمكانية؟

ثم إن إهمال النصوص الصحيحة بسبب نظرات عقلية قاصرة أدخل المسلم في شتات ديني وانحراف عقدي منذ أيام المعتزلة. كما أن إهمال العقل الصريح بسبب دلالات نصية ظنية كانت سببا للتخلف العمراني والنهوض المادي للأمة وسيطرة المعتقدات المنحرفة التي وجدت في مناخ التقليد الأعمى فرصتها لجر الشعوب للخرافات والخمول والبعد عن التفاعل مع المجتمعات الأخرى.

> هل أنت مع الذين يطالبون بإعادة النظر في تفسير النصوص القرآنية من خلال العقل الفلسفي، وعدم الوقوف عند الأحاديث والروايات؟

ـ العقل الفلسفي ـ من أرسطو حتى اليوم ـ متذبذب في النظريات وتحديد الماهيات، أولها ماهية العقل وحدوده ومدى سيطرته على الواقع. والنص الشرعي لا يخضع لمثل هذه التناقضات التي ولدتها حركة العقل عبر العصور، لذلك كانت منهجية تفسير النص التي قررها علماء الشريعة باعتماد تفسير النصوص من خلال النصوص ذاتها التي تبين المجمل وتوضح المشكِّل وتخصص العموم أو تنسخ المتقدم، ثم اعتبار السنة الصحيحة في تبيين القرآن وكذلك إجماعات السلف وتفسيراتهم وفهمهم الأوعى لمراد الشرع كونهم أعرف الناس بالتنزيل وأفهمهم للتأويل. وهذه الآليات الصحيحة والرائدة بما فيها من تمحيص دقيق للروايات وضبط للمعاني من أهم مفاخر الأمة التي يجب أن تحافظ عليها ولا تجعلها مرتعا للفهوم القاصرة والآراء العمياء البعيدة عن الواقع، فضلا عن أبجديات المنهجية العلمية الصحيحة كما يفعل بعض المعاصرين أمثال أركون والشرفي وشحرور ونصر حامد أبو زيد وغيرهم. وأنا أعجب من السؤال أن أكون من دعاة إعادة تفسير النص من خلال العقل الفلسفي وأنا من أكثر الناقدين لهم. > كيف تقرأ المناهج الدينية في السعودية؟ ـ في الحقيقة، كثر الجدل حول مناهجنا الدينية في السعودية ولعلها دخلت ضمن جدل بين بعض التيارات والأفكار الدينية في السعودية. وأجد أن تلك المناهج الدينية كانت لها ميزة فريدة وهي كونها صافية ونقية من الانحرافات والأخطاء العقائدية. ولكن اعتبارها سببا رئيسا في التطرف والغلو، أعتقد أنه مجانبة واضحة للأسباب المتكاملة في صناعة التطرف في السعودية. وهذه المناهج حتى لو تمت تبرئتها من هذه التهمة فيجب المبادرة الدائمة للتحديث والتطوير خصوصا أننا نمر في مرحلة انفتاح لم يسبق على المجتمع السعودي ان مرّ بها. لذا نحتاج إلى تعميق الوعي الديني والتأكيد على ربط الأحكام بمقاصدها وتنمية المنهجية الفاحصة والناقدة لما يخالف ثوابت الدين من شبهات أو شهوات. وتعميق البناء الفكري بواجب المرحلة من النهوض الحضاري والانتماء الوطني والتعايش مع الآخر سواء كان من أهل البلاد أو من خارجها.

> هل يعني أننا بحاجة إلى تحديث مناهجنا التعليمية وتطويرها؟ ـ سبق أن أجبت أن الحاجة لتطوير المناهج وتفاعلها مع حاجات الواقع بات أمرا ضروريا لمجتمعنا وينبغي أن يكون مستمرا لا يتوقف عند حدّ، مادام هذا التواصل والترابط العالمي يزداد يوما بعد يوم. كما ينبغي ألا يخضع لردود الفعل أو الضغوطات الخارجية والانسياق مع الدعوات المغرضة المتحاملة على مكتسباتنا الدينية وثوابتنا الفكرية.

> وما المعايير التي يجب أن تتبع في وضع المناهج؟

ـ هو تحديد الأهداف من المناهج وخلق الأهداف للطالب وتحديد مساراته في الحياة والغايات المطلوبة منه. وعلى المناهج أن تغطي هذا الاحتياج، كما أن دور المعلم ليس كما هو حاله في السابق من إعطاء المعلومة الجديدة وتوضيح المعارف البعيدة؛ فدوره الصحيح يجب ان يكون أشبه بالمدير للمعرفة وكيف ينظمها في عقل الطالب ويفاعلها مع واقعه وذلك لغلبة الثراء المعرفي مع الوسائط التقنية الجديدة. كما ينبغي ان تحوي المناهج الجديدة تنمية القدرات التفكيرية والعملية للطالب، وتعميق الحس بالمسؤولية وتنمية الوازع الديني والقيمي للطالب والتأكيد على أخلاقياته وسلوكه بالنماذج العملية.

> كيف تقرأ الخطاب الديني المعاصر اليوم، والجدل الدائر بين رجال الدين والمثقفين؟ ـ الخطاب الديني في السعودية من أقوى الخطابات المؤثرة في الساحة الإسلامية، فهو يملك العديد من القنوات والمجلات. ودوره المركزي والريادي السابق جعله مكمن تأثير قوي على أغلب المجتمعات المعاصرة، وهذا التشريف يزيده تكليفا وتبعيةً كبرى للمحافظة على هذا الدور والإبقاء على هذه المكانة من خلال خطاب معتدل متفاعل مع قضايا العصر ومتواكب مع تغيراته ومستفيد من معطيات التقنية، ولا يتمحور حول خصوصيات بيئته في مقابل عالميته المفروضة اليوم.

وأعتقد أن هذه الريادة للخطاب الديني أيقظت منافسيه من المثقفين أو من مفكري الأطياف الأخرى، مما جعل أغلب النتاج الثقافي لكثير من المفكرين هو نقد الأفكار الدينية والشخصيات الإسلامية والمشروعات الحركية، وأعتقد أن هذه الحملات المنظمة من قبل التيارات الليبرالية وغيرها هو من قبيل النعي لدورها الريادي السابق والبكاء على أطلال البروز الفكري والمجتمعي قبل عصر الصحوة الإسلامية.