هيئة علمية تركية تعيد قراءة الحديث النبوي الشريف لفهمه في سياق معطيات العصر وعلماء دين يحذرون من المشروع ويطالبون بعرضه على المجامع الفقهية

35 عالما دينيا وأستاذا من جامعة أنقرة يعملون على إنجازه

بعض المساجد بنيت مآذنها على شكل صواريخ فضاء للدلالة على عدم وجود تعارض بين الدين الإسلامي والعلوم العصرية
TT

لأسباب جغرافية وتاريخية وسياسية كانت تركيا نقطة تماس بين الإسلام وبين الحضارة الغربية. والاحتكاك تحول إلى بؤرة ساخنة ومتفجرة مع انتقال السلطة إلى حزب العدالة والتنمية، ذي الخلفية الإسلامية، الذي نجح منذ عدة سنوات في نزع فتائل انفجارات عدة محورها قضايا إسلامية في دولة من الناحية الرسمية هي دولة علمانية، وتمكن من التعايش مع طبقة عسكرية نافذة وفاعلة في الحياة السياسية وتعتبر نفسها حامية النظام الذي أرساه أتاتورك قبل أكثر من ثمانين عاما. وإضافة إلى السبب الداخلي وجدت تركيا نفسها أمام تحديات سافرة من أوروبا العلمانية وهي تدافع عن ملفها للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي بكل ما فيه من شروط اقتصادية وسياسية وثقافية.

وعلى هذه الخلفية انطلقت في تركيا منذ مطلع عام 2006 ورشة عمل لمراجعة الحديث النبوي الشريف بمبادرة من جامعة أنقرة. وقد اقتربت هيئة دينية من إنهاء مشروع يهدف إلى إعادة قراءة ما ورد في الحديث النبوي الشريف، لتوضيحه وفهمه في سياق معطيات العصر وتفسيره بما يتلاءم مع المشكلات الاجتماعية المعاصرة. ويدعو المشروع إلى مراجعة الأحاديث النبوية، وإعادة تفسير قيم الشريعة الإسلامية على أساس عصري.

وقد أثار هذا المشروع ردود فعل واسعة ومتباينة في العالم الإسلامي بين مؤيد بتحفظ ومعارض محاذر من تلك الخطوة. وتحاول «الشرق الأوسط» عرض هذا المشروع التركي من وجهة نظر بعض القائمين عليه، ونشر ردود الفعل المختلفة في كثير من الدول الإسلامية.

من ضمن ردود الفعل التي حصلت عليها «الشرق الأوسط»، عن المشروع التركي لمراجعة الأحاديث النبوية لفهمها في سياق معطيات العصر، من بعض المشايخ في عدد من الدول الإسلامية، كان حديث الشيخ عبد الله بن المنيع عضو هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية، الذي قال فيه إنه يرى جواز الأمر، على أن يكون التفسير «يتفق مع مقاصد الشريعة، بحيث لا يكون هناك تعسف بالنص، ولا يخالف الشريعة، ولا يخالف النص في كتاب الله، وليس يخالف الإجماع». لكنه قال مستدركا «وإن كان التفسير لن يراعي ذلك، فأرى عدم الجواز».

أما الشيخ يوسف القرضاوي رئيس المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث ورئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، فقد اتفق مع ما ذهب إليه ابن منيع، وقال لـ«الشرق الأوسط»: «لا أجد ضيرا في هذا الأمر»، مؤكدا أهمية صحة النهج، وسلامة الغاية، وهو أن يكون المقصد، كما قال «الوصول إلى الإسلام الصحيح، من دون أن يكون مقصدنا أن نجري وراء الآخرين وأن نجعل أنفسنا جزءا منهم.. نمشي وراءهم شبرا بشبر وذراعا بذراع ـ كما جاء في الحديث ـ «تتبعون سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه».

وشدد الداعية الإسلامي المعروف، على ضرورة أن تحتفظ الأمة بأصالتها، وألا تكون تابعة. وقال «لا نريد الأمة أن تكون ذيلا وقد خلقها الله رأسا». وأضاف قائلا: «نحن لا نريد أن نحجر على العقول أن تحسن الفهم في النصوص الدينية». لكنه أكد أهمية «الاستضاءة بالوحي، ومع ما قاله السلف، والاستنارة بما عند الأمة من تراث»، مشددا على ضرورة عدم المبالغة بالاستخفاف بتراث السلف، وألا يرمى هذا التراث في «سلة المهملات».

ولفت القرضاوي إلى «ضرورة جمع خيرة العلماء، وألا يتولى مهمة إعادة الشرح علماء ليس لهم علاقة بعلم الشرع، وألا يشرحوا الحديث على ضوء علم الاجتماع أو اللسانيات».

وأضاف الشيخ يوسف القرضاوي، أن إعادة شرح النصوص الدينية، معمول به في كثير من بلدان العالم الإسلامي، وليس في تركيا وحدها، مؤكدا أهمية «أن يعمل في هذا الإطار على أن يبنى اللاحق على ما أسسه السابق، على اعتبار أن العلم تراكمي. فليس من المعقول أن أترك القديم وأبدأ من جديد»، على حد قوله.

ولتوضيح فكرة المشروع والغاية منه يقول محمد غورميز نائب مدير «ديانات»، وهي سلطة الشؤون الدينية في تركيا التي تشرف على المشروع: «إن الفكرة الرئيسية هي جعل الحديث النبوي مفهوما أكثر بالنسبة للمسلم في القرن الواحد والعشرين، بإعادة تفسيره، وهو التعبير المناسب لما نقوم به». وأوضح أن خمسة وثلاثين عالما دينيا وأستاذا من جامعة أنقرة للعلوم الدينية يعملون على إنجاز هذا المشروع منذ أكثر من عامين حيث يتوقع لهم أن ينجزوا عملهم في نهاية العام الحالي.

ولفت غورميز إلى أنها المرة الثانية التي تعمد فيها السلطات الدينية التركية إلى قراءة النص المقدس للسنة النبوية الشريفة بعد أن سبق للبرلمان التركي أن ناقش المسألة عام 1923 مع تأسيس الجمهورية التركية الحديثة على أنقاض الخلافة العثمانية.

والحديث النبوي، كما يفهم منه الغرب عند ترجمة النص، يعني ما قاله أو ما نطق به الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم)، إلا انه يعني أيضا كل ما صدر عن الرسول الكريم من قول وفعل وإقرار، أثبت بها حقائق معينة وأرسى أحكاما محددة أو أبطل غيرها من شؤون المعاملات البشرية.

ولا يشك أحد من المسلمين بصوابية وقدسية ما جاء على لسان الرسول الأكرم (صلى الله عليه وسلم)، ومن هنا تأتي الإشكالية في أي بحث حول الحديث النبوي الشريف، إذ ما الذي يعنيه القول بإعادة النظر في بعض الأحاديث كما يقول المسؤولون الأتراك؟

يقول غورميز: إن بعض المفاهيم تخضع لشروطها الموضوعية، وهي ليست أحكاما مطلقة بل جزء من التنظيم الاجتماعي الذي يتأثر بالتطور الاقتصادي والسياسي والفكري للإنسان والمجتمعات. ويعطي غورميز مثلا على ذلك ببعض الأحكام التي حرمت سفر المرأة من دون رفقة محرم، إذ كان السفر يستغرق ثلاثة أيام أو أكثر. ويقول إن التحريم هنا ليس أمرا دينيا ولكنه تحريم اجتماعي، ذلك أن السفر في زمن الرسول وفي الفترات اللاحقة القريبة منه لم يكن آمنا بالنسبة للمرأة عندما تكون وحدها، فالانتقال في الصحارى أو بين الحواضر المتباعدة وانعدام وسائل الاتصال والمراقبة وعدم القدرة على فرض الأمن الذي نفهمه في العصر الحديث.. كل ذلك جعل السفر مغامرة محفوفة بالمخاطر على المرأة خصوصا، إلا أن ذلك ـ كما يقول الباحث التركي ـ كان في عصر مضى وانقضى، والضرورات التي أوجبها على السلوك ليست ثابتة، بل إن بعض الناس جعلوا المؤقت دائما، ومن حكم الضرورة حكما عاما، وتبعا لهذا الفهم فإن المنع كان وسيلة لتأمين حماية المرأة وأمنها في ظروف محددة، فإذا ما تأمنت هذه الحماية وهذا الأمن بوسائل أخرى فإنه لا شيء يمنع من سفر المرأة وحركتها كما تشاء.

ويُفهم من كلام غورميز أن الهدف من المحاولة التركية هو إيجاد الأرضية المختلفة للمجتمعات الإسلامية تمكنها من الدخول في التفاعل مع ما يعرف بالمجتمع الدولي في مرحلة الانفتاح والتفاعل الواسع الذي تشهده البشرية. وقال غورميز «إن المشروع يتبنى روح النص الإسلامي ويعيد صياغته بمنهجيات حديثة».

ووصف مصطفى أكيول أحد قياديي حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا، العملية بأنها «خطوة جريئة»، وقال في تصريح لصحيفة «الغارديان» البريطانية حول آلية عمل اللجنة «إن الهيئة المشرفة على مراجعة الحديث النبوي الشريف قد تعمد إلى وضع شروحات وهوامش توضح ضرورة فهم الحديث من منظور مختلف».

وتوقعت المصادر الغربية أن تثير هذه الخطوة جدلا واسعا في الأوساط الإسلامية، في تركيا وفي بقية الدول الإسلامية.

ولا يخفي القائمون على المشروع صعوبة ما يقومون به ويشددون على أن الهدف هو فصل القيم الجوهرية التي بشر بها الرسول (صلى الله عليه وسلم)، عن الموروثات الثقافية والاجتماعية للشعوب المسلمة، إذ أن عناصر كثيرة من التقاليد الاجتماعية تسربت إلى النص الديني وباتت تعيق رؤيته وتكبل حركته.

ويقول غورميز: «نريد أن ننقل للعالم غير المسلم سماحة الإسلام وصلاحيته لكل زمان ومكان، والذي يعزز الخصوصية الفردية وحقوق الإنسان والعدالة والقيم الأخلاقية وحقوق المرأة واحترام الآخر»، مضيفا أنه يجب ألا نتوقع تغييرات هائلة في مجالات تفصيلية محددة كالحجاب مثلا، فالعمل «دراسة أكاديمية.. ولن يكون محاولة لجعل الإسلام مسايرا لمفاهيم العالم الغربي».

إنه باختصار كما يقول أحد المحللين مشروع نموذجي لكي نفهم الدور الذي تقوم به تركيا العلمانية والتي يحكمها حزب إسلامي المنشأ بطريقة واقعية. ووضع الحديث النبوي أمام مفاهيم حديثة في مسائل تخص المرأة والأخلاق وعلاقة الإنسان بالطبيعة، يثير السؤال عما إذا كانت هذه الخطوة تلقى الاستجابة من مجتمعات ودول إسلامية أخرى، خصوصا أن تركيا لا يبدو أنها نسقت جهودها مع منظمات إسلامية ومرجعيات دينية عريقة في العالمين العربي والإسلامي.

وقد تزامن هذا المشروع الذي تناقلته وسائل الإعلام المختلفة أخيرا مع الإعلان عن مشروع آخر يصب في الاتجاه نفسه طرحه الكاتب الإسلامي المصري جمال البنا تحت اسم «مشروع الإحياء الإسلامي». وبين المشروعين عصب فكري مشترك، فالمشروع التركي والمتوقع الانتهاء منه هذا العام، يستهدف إيجاد تفسير جديد لتعاليم الإسلام. ويسعى مشروع البنا أيضا إلى تنقية السنة النبوية وضبطها والعمل بالأحاديث الصحيحة فقط، خاصة التي تتفق مع القرآن الكريم، وتخليص السنة من الأحاديث الضعيفة والموضوعة، والعودة إلى القرآن الكريم ككتاب هداية واستبعاد كل التفاسير الغريبة لإثبات حقائق كانت تناسب عصرهم.

وفيما أثار المشروعان جدلا موسعا بين علماء الدين قال البنا في اتصال هاتفي لـ«الشرق الأوسط» إنه يرحب بالمشروع التركي ويصفه بأنه مشروع تجديدي يؤسس لفهم جديد لمعاني الأحاديث في سياق معطيات العصر, مؤكدا أن هذا المشروع يستند إلى أفكار بناءة يؤمن بها هو شخصيا. وأضاف البنا أن مشروع الإحياء الذي يتبناه يتطابق فى كثير من ركائزه مع الأفكار الأساسية للمشروع التركي لتنقية السنة وتطبيق مفهوم الإسلام الحديث، لافتا إلى أن مشروع الإحياء الإسلامي الذي يتبناه قد أخذ الآن شكلا منظما بالتعاون مع مجموعة من المفكرين والمثقفين المسلمين، بهدف العمل على إعادة تجديد الفكر الإسلامي، وضبط السنة بمعايير قرآنية، بخاصة أن أوضاع المسلمين تزداد الآن سوءا بسبب التمسك بأفكار قديمة. وفي تعليقه على المشروعين يقول الدكتور سيد عبد العزيز السيلي عميد أكاديمية فقهاء الشريعة بأميركا الأستاذ بجامعة الأزهر: إن الإسلام دين التجديد وإنه يحث المسلمين دائما على الاجتهاد والأخذ بكل جديد. لكن هذا التجديد يجب ألا يخرج عن اطار ثوابت الإسلام الأساسية. وأضاف السيلي: إن السنة هي المصدر الثاني للتشريع بعد القرآن الكريم وهي جاءت شارحة ومبينة لما جاء في القرآن الكريم لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه»، وبالتالي فإن الطعن في السنة هو طعن في القرآن.

وتابع السيلي بقوله: «إن الدعوة إلى تجديد فهم الإسلام وتنقية السنة النبوية ليست جديدة لكننا نريد ان نعرف الهدف والمقصد من وراء هذه المشروعات المطروحة الآن، هل هو غربلة السنة وتنقيتها من الأحاديث الموضوعة وكل ما هو دخيل وبيان صحيحها من سقيمها؟ فإن كان هذا هو الهدف فقد سبق أن قام بهذه المهمة علماء أفذاذ وتصدى الأقدمون والمحدثون لهذه المهمة، وتم وضع العديد من المصنفات وأمهات الكتب الصحاح في هذا الشأن، فضلا عن تأسيس أقسام لعلم الحديث فى كثير من الجامعات الإسلامية وفي مقدمتها جامعة الأزهر. وبالتالي فإن مثل هذه الموضوعات تكون قد قتلت بحثا وأصبح الحديث فيها لا يأتي صاحبه بجديد.

أما إن كان مقصد أصحاب هذه المشاريع حذف الأحاديث الصحيحة أو تأويلها تأويلا فاسدا وتشويه السنة النبوية والعبث بها لتطويعها لخدمة أهداف معينة فهذا يعد منزلقا خطيرا لا نوافق عليه». ويواصل الدكتور السيلي حديثه قائلا: «وفيما يخص التجديد الذي يقصده أصحاب هذه المشاريع خاصة ما يعبرون عنه بتجديد السنة لتتلاءم مع واقع هذا العصر، فإذا كانوا يقصدون تجديد تفسيرهم للحديث، أي تجديد المعنى وتوضيحه، فهذا جائز كأن يفسر معنى اللفظ بتفسير حديث بشرط ألا يختلف عن المعنى الأساسي الذي وضع له، أما أن يفسر الحديث عن طريق إخراج اللفظ عما وضع له بلا دليل فهذا يعد تأويلا فاسدا». ويخلص الدكتور السيلي إلى أن التفسير العصري الذي نرحب به يجب ألا يتعارض مع الثوابت لأن الدين الإسلامي جاء صالحا لكل زمان ومكان وأن الله عز وجل قد أتم رسالة الإسلام «اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا».

وبهذا النص الحكيم ليس الإسلام بحاجة إلى إتمام أو تعديل في ثوابته، لكن الإسلام حث على مواصلة الاجتهاد والتجديد فى ضوء الثوابت الأساسية. وبالتالي فإن الدعوة تكون إلى تطبيق فقه العصر وفقه الواقع وفقه النوازل وليس لتجديد وتبديل ثوابت الدين لتطويعها لأغراض وأهواء الناس بحجة تجديد الدين ليتناسب مع روح العصر. فالشريعة الإسلامية من خصائصها الأساسية أنها تتميز بالمرونة وهذا ما يؤكد صلاحية الاسلام لكل عصر.