العلامات التنويرية في تفكير الشيخ محمد الطاهر بن عاشور

في ندوة التنوير عند علماء الزيتونة في النصف الأول من القرن العشرين

د. عبد الرزاق الحمامي أثناء مداخلته.. وفي الاطار الشيخ محمد الطاهر بن عاشور («الشرق الأوسط»)
TT

تعتبر المدرسة التونسية في مقاربة المسألة الإسلامية من أكثر المدارس الإسلامية اعتدالا وعقلانية وممارسة للاجتهاد. ولا شك أن هذه الخصائص هي نتاج عدة عوامل مجتمعة، أفرزت رؤية دينية خاصة تظهر في علاقة البعد الديني ببقية الأبعاد الأخرى المكوّنة للظاهرة الإنسانية الفردية والمجتمعية. وخلال النصف الأول من القرن المنصرم، عرف الفكر التونسي أعلاما تميّزوا بالفكر المستنير المرتبط بأفكار تنهل من التنمية والتقدم والمسألة الإرادية والفلسفة العقلانية.

وفي هذا السياق التقدمي والاستباقي، تندرج أطروحات الطاهر الحداد صاحب كتاب «امرأتنا في الشريعة والمجتمع»، وكذلك الشيخ عبد العزيز الثعالبي، والعلامة محمد الطاهر بن عاشور، وابنه محمد الفاضل بن عاشور، وهو ثاني شخصية تشغل منصب مفتي الجمهورية في بداية الستينات. وعندما نضيف إلى هذه العلامات التنويرية العامة لمسار الخطاب الديني في تونس، مسألة مجلة الأحوال الشخصية التي وقعت تزكيتها من طرف علماء دين تونسيّين من بينهم ابن عاشور، فإنّ كل هذه الاعتبارات، تؤكد ثبوت خاصية التنوير في الفكر الإسلامي التونسي.

في هذا الإطار العام، نظّم المعهد الأعلى للحضارة الإسلامية بتونس مؤخرا ندوة علمية دولية حول «التنوير عند علماء الزيتونة في النصف الأول من القرن العشرين»، ركّزت معظم المداولات اهتمامها على البعد التنويري في تفكير الشيخ محمد الطاهر بن عاشور (1879 ـ 1973)، وهو العالم الذي عرف بمشروعه المستفيض والمتعدد الأبعاد في خصوص مقاربته للمسألة الإسلامية من الزاوية الحضارية الفكرية، أي بوصفها أنموذجا ينظّم حياة الدنيا والآخرة. في هذه الورقة سنتوقّف عند مداخلتين: الأولى رصدت بعض علامات التنوير في مشروع الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، والثانية أولت عنايتها لمسألة المغايرة وحقّ الاختلاف في تفكير ابن عاشور.

الأستاذ الدكتور عبد الرزاق الحمامي أكد في مداخلته أن محمد الطاهر بن عاشور كان صاحب مشروع تنويريّ تميّز به عن سائر علماء عصره، نظرا إلى تسلّحه في كلّ أعماله بنزعة نقدية صريحة إلى جانب الإشادة بالعقل ودوره في الإصلاح والتنوير، وقد دعا في كل ما كتب إلى ضرورة الاجتهاد والاستنباط والنظر والاستدلال. فسعى إلى تنبيه المسلمين إلى ضرورة استعادة نهضتهم من خلال تحليل مقاصد الشريعة وأهدافها، وسلّط الضوء على النظام الاجتماعي في الإسلام وأصوله. وكان نزوعه التنويري مقترنا بدعوته إلى إصلاح العقيدة، وبناء إنسان جديد يتخذ التربية والتعليم وسيلة لتحقيق ذلك.

وأضاف الحمامي أن من الوسائل التي اهتدى إليها ابن عاشور لإصلاح العقيدة هو إصلاح الوازع النفسي في المسلمين. ولعل من أهم مواقفه التنويرية موقفه من الحرية ومن التسامح داخل سياج الإسلام السنّي، فضلا عن مشروعه التنويري لإصلاح «التعليم الزيتوني». ويقول صاحب المداخلة في هذا الصدد: «إن مشروع ابن عاشور توسّل لتحقيق أهدافه بكل فروع العلوم الإنسانية، ومختلف مصادر المعرفة كعلم الاجتماع، وعلم النفس، والتاريخ، والأدب، والاقتصاد، فكان أنموذجا للعالم المجتهد والمتنوّر في العصر الحديث». إصلاح الفرد.. إصلاح المجتمع: ومن علامات التنوير ذات الطابع الجوهري اعتبار ابن عاشور مسألة إصلاح المجتمع جوهرية، وكيف أنها متوقفة على إصلاح الأفراد. ويحتل موضوع الإصلاح مركز المشروع الفكري الإسلامي عند العلامة محمد الطاهر بن عاشور.

ويقول صاحب المداخلة حول هذه النقطة تحديدا إن إصلاح العقيدة يتصدر في برنامج ابن عاشور كل إصلاح. فالإسلام «لا يضارعه دين من الأديان في شدة الاهتمام بتوضيح العقيدة وتحديد معانيها والحرص على تلقينها وإقامة دلائلها». بل يقرر أن «العقيدة أساس التفكير»، ويميّز إصلاح التفكير عبر إصلاح العقيدة لأن العقيدة «تفكير مقدّس ومختصّ بموضوع معيّن..». أمّا إصلاح التفكير فهو ـ في هذا السياق ـ بما يرجع إلى الشؤون في الحياة العاجلة والآجلة لتحصيل العلم بما يجب سلوكه للنجاح في الحياتين.. والهدف من إصلاح التفكير نجاح المرء والجماعة في المجتمع.

والنواحي التي يتركّز عليها الإصلاح في الإسلام هي: تلقّي العقيدة وتلقّي الشريعة والعبادة وتحصيل النّجاة في الحالتين والحزم والمعاملة والأحوال العامة ومصادفة الحقّ في المعلومات. وإذا كانت الأمّة الإسلامية ذات دين يضمن لها «صحة التفكير في كلّ النواحي الدينية غير مشوبة بخليط الخطأ في فهمه حق فهمه، لتوقن بأنّ تراجعها القهقري له مزيد اتصال بنبذ هذا الأصل عندهم إلى الوراء». فأزمة المسلمين إذن تعود بالأساس في مقاربة ابن عاشور إلى تفريطهم في «أخلاقهم الدينية». ولا يختلف ابن عاشور في هذا المستوى عن سائر المفكّرين التقليديّين. فالأزمة روحية في الأصل لكنه عند ربط العمل بالمعتقدات والأفكار في الإسلام، يعالج جانبا من أدواء المجتمع الإسلامي كما يراها. فالجمهور أساء فهم معاني التوكل والرضى بالقضاء «وهما خصلتان من أعظم الأخلاق الإسلامية ووضعوها في غير موضعها.. وشاع سوء الوضع بينهم حتى صار كاليقين فكان ذلك سبب نكبات كثيرة». ولم يتردّد في نقد دلالة التوكّل المقترنة بالاستسلام والفشل والقعود عن العمل مستثنيا «التسمية الاصطلاحية» عند الصوفية مؤكدا أن العمل بحاجة إلى مواصفات ليحقّق أهدافه ومنها النّظام والتوقيت والدّوام وترك الكلفة والمبادرة والإتقان.

الوازع النفسي: ومن الوسائل الجديدة التي يقترحها ابن عاشور لإصلاح العقيدة اعتماده الوازع النفسي «فضعف هذا الوازع في المسلمين اليوم» كشف عمّا هم فيه «من انحطاط الأخلاق الدينيّة وضعف تنافسهم في الصالحات، ولهذا الوازع الأثر المباشر في الإصلاح الاجتماعي فضلا عن أثره في إصلاح الفرد الذي بصلاحه يصلح كامل المجتمع، إذ من وجوه إصلاح الفرد طلب العلم، والسّياق يوحي بأنّ العلم المقصود مقتصر على مجال الدّين ولا علاقة له بمفهوم العلم «Science» رغم وعيه بالفرق بين علوم الشريعة و»العلوم الزمنية».

إنّ إعادة الاعتبار للقيم الإسلامية كانت مسألة شديدة الوضوح في مواقف محمد الطاهر بن عاشور وذلك لشدّة اقتناعه بأنّ أزمة المسلمين ذات أصل عقدي ديني. وأنّه لا سبيل إلى الخروج من المأزق ما لم يقع الرجوع إلى تطبيق ما نادت به الشريعة في إطار الاتحاد والتكتّل على أساس الدين، وقد استعرض فوائد الاتّحاد ومظاهر المواساة بين المسلمين في العهد الرسالي، وحلّل مختلف أنواعها (الزكاة، الصدقة.. الخ). لعلّه من الطّريف الإشارة إلى عنايته بقيمة الحريّة ودورها في استعادة المسلمين مكانتهم المرموقة، فإذا به يحلّل مدلول الكلمة وكيف كان وكيف تطوّر بداية من الثورة الفرنسيّة باحثا عن مرادفه بالعربية، مقارنا النظام الإقطاعي في الغرب بالرقّ في الإسلام». وفي تحليله «للمعنى المتداول (للحرية) في هذا العصر يقول العلامة محمد الطاهر ابن عاشور «يتداخل الفلسفي بالديني: تنقسم الحرية إلى حريّة اعتقاد وحريّة تفكير وحرية قول وحرية فعل، وكلّ هذه الحريات الأربع محدودة في نظام الاجتماع الإسلامي ما حدّدت شريعة الإسلام أعمال الأمّة الإسلامية في تصرفاتهم الفردية والجماعيّة...» لا للتكفير: ومن علامات التنوير عند ابن عاشور أنّه يبدي تسامحا في حريّة الاعتقاد لكن داخل سياج الإسلام السنّي: «فللمسلم أن يكون سنيّا سلفيا، أو أشعريا (...) وقواعد العلوم وصحّة المناظرة تميّز ما في هذه النّحل من مقادير الصّواب والخطأ أو الحقّ والباطل. ولا نكفّر أحدا من أهل القبلة».

وهو بهذا الرأي يحاول وضع حدّ لما عرفه المسلمون من فتن على امتداد تاريخهم بسبب الانتماءات المذهبية والاختلافات بين الفرق، كالصراع بين السنة والشيعة أو الخلاف بين المعتزلة والخوارج. ويؤكد مفهوم التسامح باعتباره قيمة من القيم التي تأسست عليها الرسالة الإسلامية. وإذا كانت فكرة انغلاق باب الاجتهاد سائدة عند أغلب المتأخّرين، فإنّ ابن عاشور على خلافهم يذهب إلى وجوب الاجتهاد لحاجة الأمة الإسلامية إلى علماء في فقه الشريعة للإمداد بالمعالجة الشرعية، ويعتبر العالم آثما إن انصرف عن هذا الواجب والعامة آثمة في سكوتها عن المطالبة بذلك. واقترح على علماء «هذا العصر» أن يكوّنوا مجمعا علميا يضمّ «أكبر العلماء بالعلوم الشرعية» في كلّ قطر على اختلاف مذاهب المسلمين في الأقطار، ويبسطوا بينهم حاجات الأمّة، ويصدروا فيها عن وفاق فيما يتعيّن عمل الأمّة عليه، ويُعلموا أقطار الإسلام بمقرّراتهم..». ولعله بمثل هذا الرأي يؤكد ضرورة سدّ الفجوة بين النصّ والواقع، ويعتبر بما يحصل في التاريخ من تطوّرات وتحوّلات بضرورة استنباط أحكام لما يحدث وتجذّر منهج الإصلاح والتدارك.

المغايرة والاختلاف: من جهته بيّن الباحث جمال دراويل الذي عالج في دراسته المغايرة وحقّ الاختلاف في تفكير محمّد الطاهر بن عاشور، بيّن كيف تصدّى ابن عاشور لمقولة التكفير التي اتخذت سلاحا في وجه المخالفين، وتبريرا لإشهار السيف في وجوههم استنادا إلى ذرائع ظاهرها ديني، وباطنها سياسيّ عشائري نفسيّ، فـ«التكفير» ـ في رأيه ـ قولة ناشئة عن قلّة تأمّل وإحاطة بموارد الشريعة وإغضاء عن غرضها». وإنّ التوسّل بهذه المقالة لدليل قاطع على «ضعف حجة أصحابها وقصورهم عن إقامة الحق»، إذ تنطوي في حقيقتها وجوهرها على انتصار للذات لا للدّين. كما أنّها تسوّغ الاعتداء والظلم وتلبسه لبوس الدين، وتعطي للاستبداد طابع الشرعية وتحوّل مجال الحوار إلى مجال تنابز، وتنقل الاختلاف الفكري إلى صراع وتقاتل، وتصبح فئات المجتمع مشحونة ضدّ بعضها بعضا، فتنقلب قوى المجتمع وطاقاته إلى عوامل تآكل داخلي بدل أن تكون عامل قوّة ومنعة. وذلك أبرز عامل من عوامل الضعف والانهيار.

ورأى الباحث أن مفتاح مشروع ابن عاشور، إدراكه أنّ الحضارة العربية الإسلامية تشكّلت وازدهرت على أساس الانفتاح والتواصل مع الآخر، بعيدا عن وهم الاستعلاء والاستئثار بالحقائق واحتكار الفضائل. وانطلق من الحقيقة التاريخية والاجتماعية التي أفادت أن حالة الجمود الفكري والانغلاق الثقافي دليل على البدائية والتوحّش. فقد «كانت أحوال الجماعات البشريّة في أول عهود الحضارة، حالات عكوف على عوائد وتقاليد بسيطة.. ولم يكن لإحدى الجماعات شعور بما يجري لدى جماعة أخرى، فضلا عن التفكير في اقتباس إحداها ممّا يجري لدى غيرها.. وكان التباعد بين الجماعات في المواطن مع مشقّة التواصل، وما يعرض في ذلك من الأخطار، حائلا عن أن يصادفهم ما يوجب اقتباس الأمم بعضها عن بعض، وشعور بعضها بأخلاق بعض».

وأمكن ـ كما بيّن ابن عاشور ـ للمجتمعات الإنسانية منذ القرن الرابع الميلادي أن «تتقابس وتتمازج في الأخلاق والعوائد والنظم».

وأبرز الباحث دراويل أنه لم يغب عن ابن عاشور التقدم العلمي الصناعي الذي حقّقه العلم الحديث في مجال النقل والاتصال، وحوّل العالم الذي كان مترامي الأطراف في الوعي القديم، إلى ما يشبه القطر الواحد في العصر الحديث، وهو ما جعل مصالح الأمم والشعوب تتداخل وتتشابك، ومجال التمازج والتقابس يتّسع ويتضاعف، على نحو جعل التواصل والتثاقف وتبادل المصالح من الضرورات. فقال في هذا الإطار: «نحن اليوم في عصر صار فيه المجتمع الإنساني بمنزلة ما كان لقطر خاصّ، وتغلغلت حاجات الأمم ومصالحها بعضها في بعض، فأصبح تقارب الثقافة ضربة لازب، وصار ما كان يعدّ تكملة في عداد الواجب».

وكذا يتبيّن أن التحاور مع الآخر المختلف والتثاقف معه سنّة حضارية ماضية، وأنّ الإنصاف للمخالفين والأخذ منهم دليل على الثقة في النفس وعلى الرغبة في الاستزادة من العلم والحكمة والمنفعة وليس دليل نقص في العقل أو ضعف في الدّين، كما صوّرت ذلك بعض التيّارات في تاريخ الفكر العربي الإسلامي، توهّما منها أنّ الانكفاء على الذات وغلق سبل التواصل مع الآخر هما «قارب النجاة» على قاعدة «أنّ اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم». ويعكس موقف ابن عاشور إدراكه أنّ إعمار الأرض وبناء العالم وإعلاء صرح الحضارة الإنسانيّة مسؤولية مشتركة وإنجاز جماعيّ، كما يعبّر عن إحساس حادّ بأنّ الوعي التاريخي يستوجب من المسلمين أن يدخلوا في معترك العصر دونما قطيعة أو صراع مع الآخر الديني والثقافي فتحا لبوّابات المستقبل الواعد أمام المجتمعات العربية الإسلامية لا عودة بها إلى الماضي.