رئيس لجنة الفتوى في سراييفو: ازدياد الطلب على الفتوى في البوسنة.. ومنطقة البلقان

زياد لياكوفيتش لـ «الشرق الأوسط» : عودة الكثير من المسلمين لدينهم وراء اتساع دور الفتوى

زياد لياكوفيتش رئيس لجنة الفتوى في سراييفو («الشرق الأوسط»)
TT

كان لمؤسسة الفتوى والقائمين عليها في البوسنة ومنطقة البلقان دور كبير، ذو أهمية بالغة، وتأثير قوي على مجريات الأحداث في المنطقة التي عرفت بتعدد أعراقها وثقافاتها. والتي كثيرا ما مثلت مركز اهتمام العالم، بسبب الصراعات التي عرفت بها المنطقة، حتى أطلق عليها برميل بارود العالم. إذ أن الحرب العالمية الأولى انطلقت منها، والحرب العالمية الثانية لم تكن بعيدة عن تداعياتها الدولية. وكانت أهم المراحل التاريخية التي تركت فيها الفتوى آثارها السياسية والثقافية، وفق رئيس لجنة الفتوى في سراييفو، الدكتور زياد لياكوفيتش، في القرون الثامن عشر والتاسع عشر والعشرين. ولذلك «عملت سلطات الاحتلال النمساوية للبلقان، ثم اليوغوسلافية بشقيها الملكي والشيوعي على وضع مؤسسة الفتوى والمفتين تحت سيطرة الدولة ومؤسساتها من خلال ترتيبات قانونية وإدارية». وكانت المؤسسة الدينية ولا سيما في عهد الاحتلال النمساوي تمثل الارادة السياسية للمسلمين في منطقة غرب البلقان، كما تعبر عن تطلعاتهم نحو حياة أفضل وأكثر استقلالية، ولو على مستوى الأحوال الشخصية. ويضرب الدكتور أنس لياكوفيتش مثالا على ذلك بفتوى مفتي توزلا في ذلك الحين الشيخ محمد توفيق أزاباغيتش، التي أصدرها عام 1884، حول حكم هجرة المسلمين من البلقان بعد انحسار ظل الخلافة العثمانية، ووقوع أراضيهم تحت نير الاحتلال النمساوي «فقد» أفتى بعدم جواز الهجرة من بلاد المسلمين الواقعة تحت الاحتلال، وأكد الشيخ محمد رشيد رضا مضمون الفتوى «وكانت الفتوى ردا على ظاهرة الهجرة التي هددت الوجود الديمغرافي للمسلمين في منطقة البلقان، بعد هجرة الكثير منهم (9.5 مليون نسمة) إلى تركيا ودول اسلامية أخرى، «بناء على فتوى قديمة، تحرم العيش تحت حكم الكفار». وقد أثرت فتوى تحريم الهجرة، في تلك الحقبة، تأثيرا ايجابيا على حركة الهجرة وقلصتها إلى أبعد الحدود. وأشار الدكتور أنس لياكوفيتش إلى أن «مؤسسة الفتوى لها تاريخ طويل، يعود لبدايات الفتح العثماني حيث كان العلماء العثمانيون يتولون الرد على أسئلة المسلمين الجدد في القرن الخامس عشر، وحتى بداية القرن السادس عشر، وبعد ذلك تكونت أجيال من العلماء المحليين في شرق أوروبا، ولا سيما في نهاية القرن السادس عشر وما تلاه، وكان من بينهم أئمة الجيش العثماني وقضاته العسكريين الذين كانوا يفصلون في نزاعات الجنود». وقد برز عدة علماء محليين من بينهم، «الشيخ كافي بروتشياك، وله مؤلفات في الفقه وأصول الحكم، قدمها للديوان السلطاني. كما أسس مدرسة اسلامية في بروتاس أقهار (دوني واقف، شمال غربي البوسنة حاليا). وكانت مقرا للقاضي، ومن طلبته من أصبح مفتيا مثل، مصطفى بروتشاك، أحد مفتي ترافنيك سابقا. كما اشتهر من تلاميذه الشيخ مصطفى أيوبي، الذي درس في اسطنبول وله مؤلفات كثيرة، وتولى الافتاء في موستار، وقد عرف بمصطفى الموستاري، وله أيضا مجموعة فتاوى بالتركية». وقد كان في كل مدينة كبيرة (كما هو الحال الآن بعد الاستقلال ) مفتيا يعود إليه الناس في معرفة الحكم الشرعي من المسائل الطارئة والمستجدة، وكذلك في ما يتعلق بالمسائل الدينية التي يحتاجها المسلم، في عباداته أو معاملاته أو علاقاته الكلية. لكن احتلال النمسا للبوسنة بناء على قرارات مؤتمر برلين 1878 غير الكثير على الأرض، «لم يكن المسلمون في البوسنة وبقية دول البلقان موافقين، على خضوعهم لحكم الكفار، وأبدوا استعدادا لمواجهة المحتل متحدين، وقاد مفتي بيالينا ومن ثم مفتي توزلا حركة المقاومة للمحتل النمساوي، ولكن تلك المقاومة كانت ضعيفة مقارنة بما لدى المحتل من قوة وعتاد وخطوط امداد لا يتوفر أي شيء منها للمقاومة». وقد عمل المسلمون على انقاذ ما يمكن انقاذه، بعد أن «أقدمت السلطات النمساوية على وضع ممتلكات الأوقاف الاسلامية ومؤسسة الافتاء والتعليم الاسلامي، تحت السيطرة التامة، وشعر المسلمون بأن انتماءهم الاسلامي مهدد، وهنا برز العلماء كطليعة قيادية منبثقة من الشعب ومعبرة عن مصالحه وخصوصياته، حيث ترأس مفتي موستار الشيخ فهمي جابيتش حركة شبه استقلالية تهدف لانتزاع الحكم الذاتي للمسلمين في البوسنة، ووقف تدخل سلطات الاحتلال في تعيين رئيس العلماء ووقف مصادرة الأوقاف التي منحت المسلمين نوعا من الاستقلالية في الكثير من شؤونهم الاجتماعية حيث كان ينفق منها على الفقراء والمحتاجين وطلبة العلم الشرعي والمتفرغين للبحث العلمي وغير ذلك». وقد توجه الشيخ فهمي جابيتش إلى اسطنبول للحصول على دعم الاستانة، وقد منعه الاحتلال النمساوي من العودة إلى البوسنة، ومع ذلك نجحت جهوده وجهود زملائه من الأئمة وأعيان المسلمين، في إصدار لائحة تنظيم الشؤون الدينية، وباشراف شيخ الاسلام في اسطنبول «في 1909 تم اقرار لائحة الحكم الذاتي، والاوقاف والتعليم الديني للمسلمين في البوسنة والمنطقة».

ويؤكد الدكتور أنس لياكوفيتش على أن فتوى مفتي توزلا بعدم جواز الهجرة، صدرت بعد تلك اللائحة. «بعد تثبيت وضع المسلمين وكفالة الحد الأدنى من الحرية الدينية لهم، حتى أن سلطات الاحتلال أبقت على المحاكم الشرعية، ومدرسة إعداد القضاة الشرعيين»، وكان لتلك اللائحة تأثير كبير على وضع المسلمين في منطقة البلقان «بموجب هذه اللائحة تم تعيين أول رئيس للعلماء عام 1892، ومهمته قيادة الادارة الدينية للمسلمين، وبموجب هذه اللائحة أصبح للمفتي مهام إضافية منها الاشراف على المدارس الاسلامية، وعلى المساجد والأئمة وتنفيذ المناهج الدراسية، والاشراف على الأوقاف ومراقبة عمل موظفي الاوقاف والوعاظ وتبصير الناس بأمور دينهم». وقد تكررت نفس المشاكل مع المملكة اليوغوسلافية، والتي كانت تسمى، المملكة الصربية الكرواتية السلوفينية، وبعد ذلك جمهورية يوغوسلافيا الاتحادية «حرصت الممكلة اليوغوسلافية على وضع يدها على المؤسسات الدينية للمسلمين، الاوقاف والتعليم ومؤسسة الفتوى، وبسبب هذه التدخلات قدم المفتي جمال الدين تشاوتشوفيتش استقالته احتجاجا على ممارسات ما يسمى بوزارة العدل، وقد كان يتمتع بشخصية قوية وأفكار اصلاحية، وكان حريصا على إدخال الفتيات للمدارس والمشاركة في الحياة العامة، وكان يؤكد على أن الحجاب وليس النقاب هو اللباس الشرعي للمرأة المسلمة». وعن الفرق بين مهمام المفتين في العهد العثماني وما تلاه من عهود وجد المسلمون أنفسهم تحت الاحتلال قال الدكتور أنس لياكوفيتش «كانت مهمة المفتين في الدولة العثمانية إصدار الفتاوى وبيان الحكم الشرعي في الوقائع وإلقاء الدروس في المساجد والمدارس، وبعد انحسار ظل الخلافة ازدادت أهمية المفتين الاجتماعية والسياسية، وهنا تأتي فتوى مفتي سراييفو مصطفى حلمي حاجي عمروفيتش، الذي أجاز فيها الخدمة في الجيش النمساوي، ودعا المسلمين للانخراط في الجيش النمساوي لتطبيع وضعهم وتسهيل أمورهم. ومن بين العلماء الذين اكتسبوا شهرة واشعاع شعبي، يذكر الدكتور أنس لياكوفيتش «في الفترة ما بين الحربين العالميتين برز الكثير من العلماء الذين درسوا في الأزهر ومراكز التعليم الكبرى في العالم الاسلامي منهم محمد خانجيتش، وحسن جوزو وقاسم دوبراتشا، وكامل عبديتش، وهناك من تخرج من المعهد الأعلى للشريعة في البوسنة، وقد حوصر هؤلاء وأمثالهم وأبعدوا عن الحياة العامة واقتصر نشاطهم في المساجد» و«في هذه الفترة الحرجة والصعبة جدا على المسلمين كان حسين جوزو مستشارا لرئيس العلماء نعيم حاجي عبديتش وكان له دور بارز في الحفاظ على الهوية الدينية للمسلمين في الحقبة الشيوعية المظلمة». ويعتبر حسين جوزو من أتباع المدرسة الاصلاحية التي قادها جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، ورشيد رضا، وكان يبشر بأفكارهم الاصلاحية بين المسلمين في البلقان. و«قد طبعت فتاويه في مجلدين ضخمين منذ عدة سنوات. وهو من أشهر المفتين في القرن العشرين». وفي الحقبة الشيوعية كان هناك دار إفتاء واحدة لكل من صربيا والجبل الاسود وكوسوفو ومقدونيا وكرواتيا وسلوفينيا والبوسنة. وقد أصبحت أكثر من دار إفتاء في المنطقة بعد الاستقلال، والتنسيق بينها في حاجة لتعضيد أكبر. وفي 1993 تم انتخاب الدكتور مصطفى تسيريتش، رئيسا للعلماء وتتبع إدارته كل من البوسنة والسنجق وكرواتيا وسلوفينيا. وهناك محاولات لجمع دول غرب البلقان في إدارة دينية واحدة للمسلمين والجهود لا تزال مستمرة. في أثناء العدوان الذي تعرض له المسلمون في البوسنة وكوسوفو، كان دور المفتين بارزا فقد انخرط الكثير منهم في حركة المقاومة ومنهم من سجل آيات البطولة في الملحمة البوسنية منهم مفتي بيهاتش الشيخ حسن سمايكيتش، وكان قد تعرض للاعتقال في معسكرات التشتنيك الصربية، كما اعتقل مفتي ترافنيك نصرت عبدو بيغوفيتش، وقد تمكن الثاني الذي كان قائدا عسكريا من فك أسر الاول في عملية تبادل للأسرى حيث وقع تبادله بضابط صربي كبير. وقد تنوعت موضوعات الفتوى في الوقت الراهن، لتشمل «مشروعية العمل في البنوك الربوية، وشركات التأمين والاستقراض، والاوقاف، والقضايا الادارية، والسياسية، والتصويت في الانتخابات والعمل في سلك القضاء». وقد اتسع دور الفتوى، وهو ما تدل عليه كثرة المواقع الالكترونية، والبرامج الاعلامية، وصفحات الجرائد المخصصة للفتوى. «وذلك يعود بالدرجة الاولى لانتشار الصحوة الاسلامية، وعودة الكثير من المسلمين لدينهم الذي كسب أعضاء جدد من الشباب ومن كل التخصصات العلمية كالاقتصاد والفلك وعلوم البحار والجيولوجيا وعلم الاجتماع والفلسفة، وغير ذلك».