نحيّيكم من (أديس أبابا)

د. عائض القرني

TT

انتهينا من رحلة دعوية إلى أديس بابا عاصمة أثيوبيا (الحبشة) أرض الهجرة الأولى لأصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم الفارين من أذى المشركين في مكة، والآن أدركت سر اختيار الرسول صلى الله عليه وسلم للحبشة لتكون ملاذا آمنا لأصحابه في جوار ملك مسيحي هو النجاشي ولكنه عادل لا يظلم أحدا، وكان الذين طردوا الصحابة هم من المشركين العرب فلم تنفع الصحابة القومية العربية بل كفر بها دعاتها فعذب القريب قريبه حتى فارق وطنه، مكثنا في أديس أبابا سبعة أيام وكانت الحكومة هناك حكومة مسيحية عاقلة تؤمن بالحوار والتعايش السلمي ففتحت المجال للغالبية المسلمة التي تمثل (70%) من سكان أثيوبيا البالغين (80) مليونا، وكان علماء وعقلاء المسلمين هناك من الحكمة واللياقة ما جعلهم يستثمرون هذا الانفتاح من الحكومة وفتح باب حرية المعتقد ما نفع المسلمين نفعا عظيما، وقد قمنا مع ثلة من طلبة العلم من السعودية بإلقاء بعض المحاضرات التي حضرها علماؤهم وعامتهم حتى جاء اليوم الموعود والموقف المشهود يوم الجمعة، حيث كانت الخطبة في جامع الأنوار وهو أكبر جامع في أفريقيا وحضر الخطبة مفتي أثيوبيا ورئيس المجلس الإسلامي الأعلى الشيخ عمر إدريس وإمام الجامع الشيخ طه، وارتجلت الخطبة عن تاريخ الحبشة الإسلامي أرض الهجرة الأولى ومذكرات مؤذن الإسلام الأول (بلال بن رباح) وأهمية حسن الخلق والرفق بالناس وكيفية التعامل مع الآخر وقيم التعايش السلمي ومد جسور الحوار وجميل التواصل مع أتباع الأديان الأخرى، ولما انتهت الصلاة أردنا الخروج من المسجد وسط بحر هائج من البشر، فلما خرجنا من المسجد وجدنا الطرق والشوارع مكتظة بالمصلين الذين جاء بعضهم من خارج العاصمة، وصدقوني أنني لم أشاهد في حياتي جمعا حضرته أكبر من هذا الجمع، إلا في الحج، وبعضهم عانقني والبعض صافح ومن لم يستطع مسح الرأس ومشى، ومن لم يستطع أشّر من بعيد وقبّل يده وكبرّ، وخفنا على أنفسنا من الزحام حتى تدخل بعض رجالهم لفض الزحمة، ومن شك فليسأل وهي معنا مسجلة بـالـ(سي دي)، وبعد الصلاة اتصلت الحكومة بعلماء أثيوبيا تشكرهم على الخطبة والمناداة للتعايش السلمي وحسن التعامل، وبالمناسبة فإني أوجه الرجاء لخادم الحرمين الشريفين أن يجعل مؤتمر حوار الأديان القادم في (أديس أبابا) لأنها أول بلد رحب بالإسلام ونصر أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم وآمن بالحوار والتعايش السلمي بين أهل الأديان من بداية فجر الدعوة المحمدية، وأنت إذا خالطت أهل الحبشة انهالت عليك الذكريات والشجون وانتقلت بذاكرتك إلى تاريخ الدعوة النبوية وأيام البعثة الشريفة، فهلَّت الدموع وتعاظم الحنين وكثر الشوق ولفت نظري في أثيوبيا أمران، الأول: لطف أهلها وحسن عشرتهم وقربهم من الوافد وتواضعهم ومسكنتهم ولذلك أعطوا حق اللجوء السياسي لأصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، الثاني: كثرة الخيرات في هذا البلد ومزارعه وحقوله وغدرانه وأنهاره وبحيراته وأشجاره وثرواته الحيوانية، وأنت تتمشى بين الحقول تشاهد آلاف الأبقار والأغنام ومساحات هائلة ممتدة من البساتين المثمرة والحقول المنتجة، مع رخص في الأسعار ولطافة في الجو وكثرة أمطار، لقد عدنا من أثيوبيا محملين بالتحايا، مضمخين بعطور الطبيعة الخلابة، مسرورين بما شاهدناه من حسن ضيافة وجميل رفادة، وأنا أعلن من هنا أن الحكومة العاقلة العادلة إسلامية وغير إسلامية تستحق الاحترام والتحية والتبجيل، ولهذا أنظر إلى النجاشي مليكهم في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كيف أثنى عليه صلى الله عليه وسلم بالعدل واختار أرضه دارا لسكن أصحابه الفارين من جبروت الجاهلية بمن فيهم ابن عمه جعفر بن أبي طالب وعثمان بن عفان، ولم تنفع عند هذا الملك العادل شفاعات وهدايا مشركي مكة لاسترداد الصحابة من عند هذا الملك، بل إنه استمع للرأي الآخر وأنصت لجعفر بن أبي طالب فقرأ عليه في مجلسه مع القساوسة سورة مريم، فبكى النجاشي ومن معه وأعلن إسلامه واتباعه للرسول صلى الله عليه وسلم، ولما مات صلى عليه رسولنا صلى الله عليه وسلم صلاة الغائب، فبالحوار والإقناع واللين والرفق نصل إلى القلوب مباشرة وينصت لنا العالم ويحترمنا الكل.