ماذا حدث في الجزائر؟

د. عائض القرني

TT

لما زرت الجزائر اكتشفت أننا نستطيع أن نحل مشكلاتنا دون أن نتناطح تناطح الكباش أو أن نتناقر تناقر الديوك، وذلك بأن نقدم الإسلام الصحيح المعتدل الوسطي، وأن نقدم الخطاب التصالحي التسامحي، وأن نتكلم بلغة العفو، والرحمة، والرفق، واللين.

واكتشفت أن الشعب الجزائري بكل طبقاته ومستوياته يريد الإسلام، ويعشق منهج النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وأنه حرر أرضه ليحافظ على هويته الإسلامية البعيدة عن الشعارات والأحزاب والطوائف، واكتشفت أن الإنسان لا يسكن ولا يهدأ ولا يطمئن إلا بالإيمان والعمل الصالح؛ اجمع ما شئت من المال، واحصل على ما أردت من الثروة، واشتهر كما تشاء، وتسلط كما تحب، ثم تخرج من الجميع صفراً، ويبقى ما معك من زاد تلقى به ربك.

في الجزائر جلسنا مع الجماعات الإسلامية بخطاب توفيقي تصالحي يدعو إلى المنهج الأول، منهج إمام الأمة والمعصوم النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، جمعونا في الجزائر بأكثر من خمس مئة إمام وخطيب، فتكلمنا عن يسر الشريعة، وسماحة الدين، والرحمة بالناس، ودعونا إلى التبشير لا إلى التنفير، وإلى الرفق لا إلى العنف، وإلى الرحمة لا إلى التعذيب، ولتسهيل العبارة والخطاب، والبعد عن التشنج والتعسير، والانتقام، والاقتصاص، ومحاكمة الضمائر، ونصب محاكم التفتيش لنيات الناس، جلسنا مع العسكر الجزائريين فإذا هم يريدون الإسلام، ويريد كل واحد منهم أن ينجو من غضب الله وعذابه، وليس فيهم أحد يريد النار وغضب الجبار.

جلسنا مع شيوخ المالكية، وهو مذهب الجزائر، فتذاكرنا كلام إمامهم إمام دار الهجرة (مالك بن أنس) حيث يقول: (ما منا إلا رادّ ومردود عليه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وحرصنا جميعاً على أن نردَّ الأمة إلى الدليل كتاباً وسنة، وليس لآراء الرجال. جلسنا مع أساتذة الجامعات والمثقفين، وتكلمنا عن وجوب المحافظة على هوية الأمة ورسالتها المحمدية الخالدة؛ لأن أمم الأرض تحرص على مبادئها ومعتقداتها ولو كانت ضالة، فكيف بالدين الصحيح؟ جلسنا مع شيوخ الصوفية، واتفقنا على أن كلامنا وكلامهم ليس بحجة، وإنما الحجة في الكتاب والسنة، كما قال تعالى: «فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً».

جلسنا في (ولاية عنابة) مع قادة الإدارات والمؤسسات والجمعيات والهيئات الخيرية، وتكلمنا عن الأمانة في العمل، والإتقان، ومراقبة الله، وحسن التعامل مع الناس، ونفع الآخرين. وكانت في الجزائر محاضرات خاصة بالنساء، فتحدثنا عن دور المرأة الجزائرية الصابرة المؤمنة المحتسبة. وعن وجوب تعلمها العلم النافع، وقيامها بدورها، وحملها لمسؤولياتها، ومكانتها في الإسلام، وحقوقها وواجباتها. جلسنا في مقر جريدة «الشروق» اليومية مع المسلّحين التائبين الذين نزلوا من الجبال وألقوا السلاح، وذكروا أنهم تأثروا بالمراجعات التي تمت بالسعودية مع (الخضيري، والفهد، والخالدي) بعدما تأسفوا وندموا وتراجعوا، تلك المراجعات التي بثها التلفزيون السعودي وغيره.

وكان الخطاب العام للشعب الجزائري بأنهم أمة الصبر، وصُنَّاع النصر، فنحن وهم نحمل وصية: «وَالْعَصْرِ«1» إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ«2» إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ«3»»، وكان النداء من الاستاد الرياضي بالجزائر لكل الجزائريين أن يرفعوا شعار (عفا الله عما سلف)، ودعوناهم إلى العفو عما صار، ونسيان الماضي، وتضميد الجراح، وجمع الكلمة، ولمّ الشمل، مع المصالحة الوطنية التي دعا إليها الرئيس (عبد العزيز بوتفليقة)، ثم كان الهتاف إلى حملة السلاح في الجبال: ألقوا السلاح، ألقوا السلاح، ألقوا السلاح، يقول رسولنا صلى الله عليه وسلم: «من حمل علينا السلاح فليس منا»، وذكرنا أن الإسلام يسر ولكن بعضنا عسّره، وبسيط ولكن بعضنا عقّده، وجميل ولكن بعضنا شوّهه، وعالمي ولكن بعضنا احتكره، ولسنا أوصياء على الإسلام، ولكننا خدام له، ولسنا قضاة على الناس، لكن دعاة رحمة.

واكتشفت في الجزائر بعد الجلوس مع المذاهب والأحزاب والتوجهات كافة أن الناس جميعاً سوف يقبلون منك الإسلام الصحيح، المعتدل، إسلام الرحمة والرفق واللين، إذا لم تعرضه أنت بحزبيتك أو طائفيتك أو نفسيتك؛ لأن بعضهم شَكَّل الإسلام حسب نفسيته، ولوّن الدين حسب مزاجه، وقدّم الملة حسب فهمه، نريد الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم بنصوصه سليماً من التشويه والإضافة والزيادة ببرهان قوله تعالى:«الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً».

وفي الجزائر وجدتُ أن على الإنسان أن يكون على طبيعته وسجيته ولا يتقمّص شخصية غيره؛ لأنه في جامعة الأمير عبد القادر الجزائري بقسنطينة طُلب مني في المحاضرة أن أكون على طريقة الأكاديميين مترسلا فحاولت أن أكون مفكراً فدبَّ النعاس في الناس:«وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ»، ولكني في جامعة مانتوري بعدها بساعات انطلقتُ في محاضرتي على سجيتي فحضرت السيرة والأدب والقصة والقافية والنكتة، فاهتز المكان وانتشى الحضور وحسنت المطارحة وطاب الوقت ووجدتُ نفسي هناك، فكن على سجيتك وطبعك واحذر المحاكاة والتقليد، فأنت إنسان آخر لا تشبه أحداً من الناس.