البلقان: إقبال كبير على تسجيل أبناء المسلمين في المدارس الدينية

محرم عمرديتش لـ «الشرق الأوسط»: أولياء الأمور يرغبون في تحصين أبنائهم وبناتهم من الآفات الاجتماعية

TT

تشهد منطقة البلقان حركة ديناميكية في مختلف المجالات، ولا سيما العودة المتنامية للدين، بعد سقوط جدار برلين، ودخول نسائم الحرية للمنطقة التي ظلت عقودا طويلة أسيرة اختزال حقوق الإنسان في مجال الخدمات على أهميتها، دون حرية التعبير وحرية المعتقد، أهم معالم الحداثة بمفهومها الارتقائي، بل أهم ركائز الوجود الإنساني ذاته، حيث إن تحرير الفرد شرط لتحرير الأمم، وكسب احترام وتقدير الناس في العالم. ورغم أن عديد الوفيات أكثر من عديد المواليد فإن ذلك لم يمنع من ارتفاع نسبة الإقبال إلى 15 في المائة. وقال محرم عمرديتش مدير شؤون المدارس الإسلامية في سراييفو لـ«الشرق الأوسط» «كان بالإمكان أن يكون الإقبال أكبر لولا بعض العقبات، فالجيل الجديد هو الذي ولد بعد العدوان على المسلمين في المنطقة في تسعينات القرن الماضي، ووجود نحو نصف مليون نسمة في الخارج منهم 350 ألفا في الولايات المتحدة الأميركية».

وذكر عمرديتش أن من أسباب الإقبال على المدارس الإسلامية، مراسيم التسجيل والتكلفة «أولياء الأمور يدفعون أقل للمدارس الإسلامية مقارنة بالمدارس الأخرى، كما نقدم منحا لأبناء الشهداء والفقراء» ومن الأسباب أيضا، البرامج الإسلامية في مناهج المدارس الحكومية، والتي تحبب الكثير من الطلبة في دراسة إسلامية أكثر تخصصا. وأكد على أن «المنهج الدراسي المعتمد في المدارس الثانوية الإسلامية يؤهل الطلبة للالتحاق بمختلف الكليات العلمية، ولم تعد المدارس الثانوية الإسلامية تعد طلبتها ليكونوا أئمة وخطباء فحسب»، وحول ما إذا كان هناك تطوير مستمر في المناهج العلمية لمواكبة التطورات العالمية. أفاد عمرديتش بأن «آخر التعديلات التي تمت قبل فترة وجيزة، هي حمل الطلبة الراغبين في التخصص الديني المحض، على تعلم مهنة أخرى، وأن يكونوا مستعدين لشهادة الماجستير والدكتوراة للرفع من مستوى الأئمة والخطباء. أما الطلبة الذين يرغبون في الالتحاق بالكليات الأخرى فلهم ذلك مع استمرار التواصل». وأشار إلى أن طلبة المدارس الإسلامية موجودون حاليا في 27 جامعة حول العالم «حسب متابعتنا لطلبتنا في الخارج نجد أنهم يزاولون تعليمهم في 27 جامعة حول العالم، وفي جميع التخصصات مثل الطب والأحياء والفيزياء والاقتصاد والفلسفة وغيرها». وفي الوقت الذي يتوجه فيه خريجو المعاهد الثانوية الإسلامية للغرب لمواصلة تعليمهم الجامعي، فإن الراغبين في استئناف تحصيلهم العلمي الديني يؤلون وجوههم نحو الشرق، مصر، والمملكة العربية السعودية، وتركيا، وسورية، والأردن وقطر وغيرها».

وتوجد 8 مدارس ثانوية إسلامية في كل من البوسنة وكرواتيا والسنجق، وتستوعب المدرسة نحو 2000 طالب. ثلثهم يواصل تعليمه الديني بينما يختار الثلثان التوجه إلى الكليات الأخرى، حسب ما أكده عمرديتش. من خلال الإحصائيات التي تقوم بها المشيخة الإسلامية، والتي تتابع مسيرة طلبة المدارس الإسلامية في مراتب العرفان المختلفة. «لدينا اتصالات ونعقد اجتماعات دورية مع الخريجين، وهناك جمعيات للخريجين القدامى، وجمعيات تحمل أسماء «أصدقاء المدرسة» تسهم في دعم المدارس رمزيا، وأعضاؤها من خريجي مدارسنا.

وأشاد عمرديتش بالدور التربوي الذي تضطلع به المدارس الإسلامية، مما يدفع أولياء الأمور إلى تسجيل أبنائهم فيها «أولياء الأمور الذين يرغبون في تحصين أبنائهم وبناتهم من الآفات الاجتماعية، مثل المخدرات والكحول والتدخين، ومن أصدقاء السوء، ومن اللامعنى، يسجلون أبناءهم في المدارس الإسلامية التي تقدم لهم تعليما حديثا وراقيا إضافة للجرعة الروحية لتحقيق التوازن بين الروح والمادة والاحتياجات المادية للإنسان وأشواقه الروحية». وقد تغيرت نظرة الناس للمدارس الإسلامية، بعد التغيير الجذري في مناهجها الدراسية «قبل العدوان كان التعليم الديني يهدف إلى تكوين كوادر للإمامة والخطابة في المساجد، ولكن الوضع اختلف تماما الآن، فأهدافها تكوين إنسان يحس بهويته الوجودية والحضارية بقطع النظر عن التخصص الذي اختاره»، ومن مظاهر التغيير في وجهة نظر الناس حيال المدارس الإسلامية، يشير عمرديتش إلى الفئات الاجتماعية التي ينحدر منها الطلبة في الوقت الحاضر مقارنة بالماضي «في السابق كان المسجلون في المدارس الإسلامية، هم أبناء الأئمة والفقراء وبعض المتدينين، أما اليوم فمن بينهم أبناء الجنرالات وكبار السياسيين والدبلوماسيين وغيرهم». و«لم يعد هدف المدارس تخريج موظفين يعملون في المشيخة وإنما تخريج أجيال تعرف دينها، يكون منهم الطبيب والمهندس، والصحافي، والجيولوجي، والفلكي وغير ذلك».

فضيلة أخرى للمدارس الإسلامية في البلقان، وهي قبول الطلبة المتفوقين في مجالات دون أخرى، حيث لا يشترط نبوغ الطالب في كل المواد. إذ يكفي أن يكون الطالب مميزا في مادة ليتم قبوله فورا، وتنمية تميزه. فكثيرا ما حرمت الأمم من كفاءات، بسب شرط النجاح في كل المواد أو الرسوب! وفي هذا الخصوص تقبل المدارس الإسلامية الثانوية 30 في المائة من الطلبة المتفوقين في مادة من المواد، وتقوم بمساعدتهم على الارتقاء في ذلك التخصص، وقد حققت هذه الفكرة نجاحا كبيرا، فهؤلاء الطلبة هم الأوائل في كلياتهم العلمية داخل البلقان وخارجه. وبخصوص كوادر هذه المدارس، قال عمرديتش «لدينا 117 مدرسا متفرغا و106 غير متفرغين يحملون درجة الدكتوراه والماجستير، ولدينا 61 مربيا ومشرفا و38 موظفا إداريا». ونوه بالنتائج الكبيرة التي حققتها المدارس الإسلامية حتى في ثوبها القديم، حيث هناك العشرات من الدبلوماسيين والسياسيين والكتاب والمثقفين وأساتذة الجامعات ممن تلقوا دراستهم الثانوية في المدارس الإسلامية. وقال إن المدارس الإسلامية تقوم بمراجعة مناهجها باستمرار. وعما إذا كانت هناك علاقة بين المدارس الإسلامية ونظيراتها في العالم الإسلامي، ذكر عمرديتش أن «المشيخة الإسلامية هي الجهة المخولة بترتيب هذه العلاقات، وهناك اتصالات بين المشيخة وعدد من المؤسسات التعليمية في العالم الإسلامي في مقدمتها الأزهر»، كما أشار إلى وجود دورات مستمرة للعاملين في مجال التربية والتعليم للارتقاء بمستواهم الذي يعد حيويا للتنمية بمفهومها الشامل. وقال زياد لياكوفيتش مدير مدرسة الغازي خسرف بك الثانوية في سراييفو لـ«الشرق الأوسط» «بين مثقفينا وعلمائنا من يؤكد علميا وعبر دراسات متخصصة بأن الروح الإسلامية في المنطقة مبنية على هذه المدرسة، وأن الحياة الإسلامية كاملة يعود الفضل فيها بعد الله، إلى هذه المدرسة. كما كانت المدرسة مرجعا أساسيا لمدارس أخرى، أنشئت بعدها، فمثلا قبل الحرب العالمية الثانية كانت هناك نحو 40 مدرسة إسلامية على نمط مدرسة الغازي خسرف بك في البوسنة لوحدها، في مناهجها ودراستها وطرقها البيداغوجية». وتابع «يمكن القول إن المواد التي كانت تدرس هنا، تدرس في الوقت نفسه في مدارس أخرى. ونحن على يقين بأن المدرسة ستظل محافظة على استقلاليتها وعلى سمتها العريقة والمعاصرة في مستقبل الأيام حفاظا على الهوية الإسلامية من خلال تخريج أجيال من الشباب الملم بدينه وما يقتضيه عصره من علوم ومعرفة. «نحن نعتقد وعلى يقين بأن الإسلام يجمع علوم الدين وتدبير أمر الدنيا أو دين ودنيا ومنهج حياة للأفراد والمجتمعات». وبين أن «الصلاة في المسجد والبيت عبادة فهي كذلك في الحقل والمختبر وقاعة الدراسة وخلف المقود والمنظار، ومن هذا المنطلق تركنا لطلبتنا حرية اختيار الكليات التي يرغبون في الالتحاق بها بعد التخرج. وقد زرعنا هذه الفكرة في طلبتنا، ليكونوا روحا تسري في الحياة العلمية، فهم يحملون الإسلام كأمر طبيعي فيهم».

وأضاف «نحن مؤمنون بأن الإنسان مفطور على حب الخير، ولذلك فهو في حاجة لنماذج تذكره بأصله الفطري. ونحن نسعى لأن يكون طلبتنا قدوة لغيرهم من الطلبة في الكليات التي يلتحقون بها. ونحن نعد طلبتنا لهذه الظروف ونعتقد بأننا نؤدي وظيفة تربوية ودينية وإنسانية في هذا الصدد، وهذا هو الإسلام كما نفهمه». وعما إذا كانوا قد حققوا أهدافهم قال «يبدو أننا حققنا هذه الأهداف، ولا يمكن أن نزكي أنفسنا ولا بد من ترك الحكم للآخرين، ولكن يمكن القول إننا حققنا الكثير. ويسعدنا أن يكون من خريجي مدرستنا أطباء ومهندسون وخبراء ومحافظون على الأمن ومدافعون عن حياض الوطن، وفي الوقت نفسه متدينون يقدمون المثل الجيد عن المسلم الجيد وتكون لهم القدرة على الدعوة إلى الله من خلال تخصصاتهم العلمية فهم طلبة علم في المقام الأول».

وقال محمد شاما، طالب الدراسات الإسلامية لـ«الشرق الأوسط» إنه درس لمدة سنتين في كلية الطب ثم غير مسيرة حياته حفاظا على تقاليد العائلة حيث يعمل والده إماما في مقدونيا، وهو حافظ للقرآن الكريم كذلك. وقال شاما (السنة الرابعة في الدراسات الإسلامية) «نحن بيت علم ودين، وقد قررت بعد تفكير طويل المحافظة على هذا الإرث وضحيت بدراسة الطب». وعما إذا كانت هناك عوامل أخرى ساهمت في تغيير مساره، قال «لديّ رغبة في مساعدة الآخرين على فهم أفضل للإسلام، وحتى يكون الإنسان في هذا المستوى عليه البحث والدراسة في هذا المجال، في وقت يعود فيه الدين للحياة العامة بقوة، وهناك إجماع على أن القرن 21 هو قرن الدين والتدين ولا بد أن يكون الإنسان ملما بهذه التعاليم». وعن مستقبله المهني أوضح أنه يفضل العمل في سلك التعليم سواء كان ذلك في مقدونيا أو البوسنة أو كرواتيا أو أي بلد آخر.