مصطفى محمود.. إيمان بلا شك

TT

كانت مفاجأة لها وقع الصاعقة حزينة غير سارة أن تطالعنا الأخبار بأن ذلك القلم السيال والعلم المهطال د. مصطفى محمود غادر دنيانا عند الساعة السابعة والنصف من صباح السبت 31 / 10 / 2009 م عن عمر ناهز 88 عاما. لقد حرك هذا الخبر الوجدان والأشجان، وجرني مجبرا إلى النظر بمنتهى التأني للنظر والتأمل في جذور ضربت وفروع بسقت وثمار ذات زمن أغدقت. لا يستطيع المراقب اليوم للساحة العربية الثقافية إلا أن يعجب من وفرة إمكانياتها التكنولوجية والمادية وفقر إنتاجها وفقدان تأثيرها، ويأخذه الأسف لخلوها من أسماء ورموز يشار إليها ومحطات يتوقف عندها، ومبادئ ومدارس يخوض في بحوثها وفكرها، الحال الثقافي العربي اليوم للأسف ما بين كتاب وصحافة ومسرح وموسيقى وفنون كثير وغزير، لكنه بلا لون ولا طعم ولا رائحة. إننا إذا ما قارنا حال اليوم بما فيه من بحبوحة العيش ورخاء الظروف عموما بتلك الظروف المؤلمة العصيبة التي عاشتها البلاد العربية وهي ترزح تحت استعمارات أوروبية مختلفة تقطع الرؤوس وتكمم الأفواه وتدوس بصلف على الأرزاق والأعناق، ايطاليا تجثم بكلكلها على ليبيا، وفرنسا وإسبانيا تعيثان في المغرب فسادا، وفرنسا منفردة بالجزائر وتونس والشام، وبريطانيا تبيع فلسطين وتخنق مصر وتقمع السودان وتنكل بالعراق والخليج الذي تشاركها في بعضه هولندا، والعرب أمة مستعمرة فقيرة جائعة تفتقر إلى كل شيء المدارس والصناعة والمستشفيات والبنى التحتية وكل شيء، ولا وجود فيها إلا للعوز والفقر والفاقة، فلا إنتاج تستفيد منه ولا حول لها ولا قوة، وما عليها إلا أن تسخر كل أرضها وإنسانها للأجنبي الضارب بأطنابه على أركانها وأكمامها يمص دمها كأنه أسطورة دراكولا.

لكننا قبالة كل هذه الظروف السلبية والتربة الطاردة سنجد نهضة ثقافية عربية أصيلة تنمو في مصر قوية صلبة لتفرض وجودها واحترامها على عصرها، وإلى يومنا تمثلت في طائفة من الكتاب والمفكرين والأدباء ممن يمكن لنا أن نحسبهم رواداً في المدارس الأدبية العربية المعاصرة وعلامات بارزة في مجال الأفكار العديدة التي اعتنقوها، مع الأخذ بالاعتبار أن أوائل القرن العشرين كان فيه الإلحاد هو التيار الثقافي الأشهر، مما ترك بصماته على بعض وليس كل من سنذكرهم، منهم: هيكل صاحب رواية زينب وهو غير محمد حسنين هيكل الصحافي المعاصر، مصطفى العقاد، طه حسين صاحب كتاب «في الشعر الجاهلي» بما فيه من مرفوضات دينية، الرافعي، مصطفى لطفي المنفلوطي، نجيب محفوظ، محمد عبد الحليم عبد الله، محمد فريد أبو حديد، توفيق الحكيم. ولد مصطفى محمود في المنوفية سنة 1921 م، وتلقى تعليمه الأول في طنطا مجاورا لمسجد سيدي أحمد البدوي، الأمر الذي سنجده يترك أثره الواضح صوفيا على أفكاره وتوجهاته في خاتمة سيره بأخذه للطريقة الصوفية النقشبندية ثم درس الطب في القاهرة، لكنه تركه ليعمل في الصحافة مفضلا صحفا ومجلات ذات توجه يساري واضح يتزامن بل يتكامل مع سيطرة الفكر المادي السائد في الستينات، وانتشار الفلسفة الوجودية على يد الفرنسيين جان بول سارتر ومدام سيمون دي بورفوار. وتتشعب دراسات د. مصطفى محمود لتواكب معاناته الفكرية والبحثية وبصراحة تامة وشجاعة أبطال الأساطير الخالدين كان يكتب كل شيء كل خاطرة وشاردة وواردة ورأي ورد وينشره على الملأ، لقد كان ينسخ ذاته وجودا وفكرا وتطورا على صفحات كتبه، نحن لم نكن نشتري من أرفف المكتبة كتابا لمصطفى محمود صدر حديثا، بل كنا نشتري مصطفى محمود نفسه بشحمه ولحمه في آخر طبعة له، هكذا كان الأمر يبدو لي ولا يزال.

يصف د. مصطفى محمود معاناته تلك الفترة فيقول: احتاج الأمر إلى ثلاثين سنة من الغرق في الكتب، وآلاف الليالي من الخلوة والتأمل مع النفس، وتقليب الفكر على كل وجه لأقطع الطرق الشائكة، من الله والإنسان إلى لغز الحياة والموت، إلى ما أكتب اليوم على درب اليقين. نستطيع أن نؤرخ ثقافيا لمنعطف تاريخي هام جدا ابتدأ يظهر منذ سنة 1969م تقريبا معلنا عودة الفكر العربي الصحافي النشط الملتزم إلى أصوله وجذوره بعد رحلة غربة استغرقت ما يزيد عن نصف قرن، ويكون الدكتور مصطفى محمود على موعد معه، بل من علاماته فتجده يترجم هذا التوجه الجديد القديم سنة 1979م بشراء قطعة أرض بحي المهندسين بالقاهرة من عائدات كتابه المستحيل، لينشئ بها جامع محمود نسبة لأبيه، وإن كان اشتهر باسم جامع مصطفى محمود، ويؤسس به ثلاثة مراكز طبية لعلاج ذوي الدخل المحدود ومستشفى وأربعة مراصد فلكية ‏ومتحفا ‏جيولوجيا‏ متاحة كلها للباحثين والدارسين، ‏ويشكل‏ ‏قوافل‏ الرحمة‏ ‏التي تتكون من‏ 16 ‏طبيباً لعلاج المحتاجين من فقراء ومعوزين في ‏أماكنهم.

لقد تعرفت على هذا العملاق المفكر والطبيب والكاتب والأديب منذ أن كنت تلميذا في الإعدادية، إذ كنت أتابع كل إصداراته التي بلغت 89 كتابا ما استطعت، فلم أترك بحمد الله ولا كتاب منها بأسلوبه المتميز بالعمق واليسر إلا وقرأته، جل مؤلفاته قرأتها ودرستها. العلمية والدينية والفلسفية والاجتماعية والسياسية والحكايات والمسرحيات وقصص الرحلات وكتب الخيال العلمي والوجودية والإلحادية، خصوصا ما ناقش الوجودية والإلحادية منها ككتب: رحلتي من الشك إلى الإيمان، وحوار مع صديقي الملحد، والماركسية والإسلام، ولماذا رفضت الماركسية، وأكذوبة اليسار الإسلامي، ثم تلك الدفقات الإيمانية العطرة ككتاب القرآن محاولة لفهم عصري، والطريق إلى الكعبة، والإسلام ما هو؟ ورأيت الله، والسر الأعظم، ومن أسرار القرآن التي ختم بها رحلته الطويلة من الشك إلى الإيمان التي استغرقت عمره كله، ولم يجد في النهاية سفينة نجاة سوى القرآن الكريم، وإن كان ليس المسافر الوحيد على متنها، فقد ارتحل معه يراقبه ويتعلم منه جيل كامل من أمة العرب كنت أحدهم. وحيث إن القنوات الفضائية الساتلايت لم تكن قد ظهرت بعد، ولم تكن متاحة إلا قناة التلفزيون الليبي التي كانت تحرص على بث برنامجه الشهير «العلم والإيمان»، فقد زاد هذا من معرفتنا بالرجل والنظر إليه عن كثب، لقد كنا نستمتع بما يقدمه كل الاستمتاع ونستفيد منه علما وإيمانا تماما كما أسماه صاحبه، ورغم أنني لم أر كل الأربعمائة حلقة التي سجلت من هذا البرنامج الكبير، إلا أنني حرصت على مشاهدة ما أمكنني منها. لماذا،،، لأنني كنت أراه يفتتح عبر برنامجه هذا عصرا جديدا يمكننا أن نسميه عصر التفسير العلمي التجريبي المتغير للنص الديني المعصوم الثابت ببحثهما معا مستفيدا من المخترعات والاكتشافات العلمية، ورغم أن جمعيات قامت على هذه الفكرة تحت عنوان الإعجاز العلمي للقرآن الكريم إلا أن الرجل سبقها بزمن ووفق دونها إلى حد بعيد.

كان أول لقاء شخصي لي به في يوم الأربعاء 20 / 12 / 1995م في حفل عشاء أقامته الطريقة العزمية في مقرها بشارع مجلس الشعب بالقاهرة، لقد رأيته يومها يعاني من آلام المرض، يستعمل وسادة دائرية فارغة الوسط على شكل كعكة توضع له فوق الكرسي ليجلس فوقها، ومع كل هذا الإعياء البدني الظاهر لم يتوان عن تقديم محاضرة مختصرة رائعة تتكلم عن قيم التوحيد وأثرها في الأفراد والأمم اهتز لها الحاضرون إكبارا وإعجابا.

وكم كنت سعيدا وهو يقدم لي شخصيا بيده الكريمة جائزة الإمام المجدد محمد ماضي أبو العزائم التي منحت ذلك العام لبعض رواد العمل الإسلامي، كنت بفضل الله أنا وهو من ضمنهم. ثم ألقى الشيخ علاء الدين أبو العزائم كلمته، ثم ألقيت كلمتي التي كانت عن بعض جوانب إعجاز القرآن الكريم، وتكلم الصحافي رائد عطار، والأديب رفعت دنقل عضو مجلس الشعب المصري وابن عم الشاعر الكبير أمل دنقل، والصحافي صلاح عزام رئيس تحرير الأمة العربية، والصحافي أحمد بهجت، والداعية عبد الودود شلبي، ود. منصور حسب النبي رئيس جمعية الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، والداعية د. عبلة الكحلاوي، ومخرج الأفلام والمسلسلات الإسلامية أحمد طنطاوي، كان الموضوع الذي تكلم فيه الجميع هو ذلك العطاء العظيم في قيم الإسلام العظمى الذي يوجب علينا أمانة أن نوصله إلى أصقاع المعمورة ليعمها خيرا ونفعا.

لم أقل له يومها ولا بعدها شيئا عن جدالات وحوارات ومعارك فكرية كثيرا ما خضتها لأجله، أما الآن وقد انتقل إلى رحمة ربه فلا أخفي أنني كثيرا ما كنت أعجب من بعض من ينتقدونه قائلين باستعلاء لقد كان ملحدا ثم صار كذا ثم صار كذا وكنت أجيبهم بقولي: لا ينبغي لأحد أن ينتقد رجلا لأنه لعب بدمية يوما عندما كان صغيرا أو كسر قلم رصاص في مدرسته الابتدائية. إن الذم إنما يوجه لمن انتكس بعد علو، لا لمن ارتفع بعد سفل، بمعنى أن يرتد بعد الإيمان أو يجهل بعد علم، لكننا أمام رجل ارتقى وارتفع إلى ذروة بعد حضيض، فواجبنا إجلاله وتقديره. طالما قلت عنه: لقد كانت كتاباته صادقة تعبر عن ذاته ومعاناته الشخصية كإنسان، ولهذا كانت آراؤه الدينية محترمة عندي محل تقديري واحترامي لأنني أراها آراء الإنسان العالم وليست آراء العالم الإنسان وشتان بينهما.

وأقول، إن كل الكبار تعرضوا للانتقادات والانتقاصات، لكن « أما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض». اتهمه بعض السياسيين بأنَّ أفكاره وآراءه السياسية متضاربة، واتهمه بعض الفقهاء بأنه غير متخصص في علوم الدين؛ إلا أن كلاهم لم يفهموا ـ في نظري ـ حقيقة الرجل الذي كانت اعترافاته على صفحات كتبه أسمى ضروب الشجاعة وأنبل مظاهر مواجهة النفس ونقد الذات، وليت كل من أمسك القلم كانت له شجاعته واعترف بخطئه بلا غرور ولا مكابرة ليرجع من اعتنق رأيه إلى الصواب. وأقول: يوم تحاكم الأمة صاحب الفكر المستنير الفذ، ويهدد بالسجن كأنه مجرم زنيم فقل: على الدنيا السلام، هذا هو حكمي عليك يا أمة قدمت د. مصطفى محمود للمحاكمة بسبب كتابه (الله والإنسان)، بل ويصل الأمر إلى أن يطلب عبد الناصر بنفسه تقديمه للمحاكمة استجابة لطلب الأزهر باعتبارها قضية كفر، وتكتفي المحكمة الوصمة في جبين الأمة بمصادرة الكتاب، ولأن الفكر النير يأبى إلا أن يشع رغم القيود والجحود، فإن الرئيس السادات يتصل فيما بعد بد. مصطفى محمود شخصيا ليقول له: أنه معجب بالكتاب وأنه قرر إعادة طبعه، بل يعرض عليه تولي الوزارة، فيرفض الرجل لأن العلم عطاء وحرية وانطلاق، والسياسة مصالح وقيود.

وتصل الحرب إلى ذروتها بعد إصداره كتاب الشفاعة، ورغم أنني أخالفه الرأي بزاوية 90 درجة، وأقول وأعتقد في شفاعة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بكل تفاصيلها، إلا أنني رفضت الحرب الضروس التي أعلنت عليه لتصل إلى إصدار 14 كتابا للرد عليه، فضلا عما كتب في الصحف والمجلات. كنت أراه رأيا ليس معصوما يجب مناقشته بهدوء وإنصاف لا بالسب واللعن والشتم والسلخ والتكفير وحيا الله الدكتور المفتي نصر فريد واصل الذي أنصفه في تلك المعمعة وقال: د. مصطفى محمود رجل علم وفضل ومشهود له بالفصاحة والفهم وسعة الاطلاع والغيرة على الإسلام، فما أكثر المواقف التي أشهر قلمه فيها للدفاع عن الإسلام والمسلمين والذود عن حياض الدين، وكم عمل على تنقية الشريعة الإسلاميّة من الشوائب التي علقت بها، وشهدت له المحافل التي صال فيها وجال دفاعا عن الدين.ا,هـ لقد كان مؤلما لنا أشد الإيلام أن يعتزل هذا العملاق الكتابة بعد هذا الجحود والعقوق الذي طاله بعد كتابه عن الشفاعة من أمة طالما أغدق عليها خالص وداده، فهجر الناس وانتهى به الأمر أن أصيب بجلطة في مخه عام 2003 م، وليعيش منعزلا وحيدا يعاني المرض والسرطان ما بين منزله الملاصق لمسجده أو غرفة على سطح المسجد نفسه. وشيع جثمانه من مسجده، وترك وراءه ثروة طائلة من البحث العميق والفكر الأصيل، ستستغرق وقتا طويلا قبل أن تصل إلى كل مستحقيها من وراثه.

*داعية إسلامي ليبي