الاحتراز من التكفير

محمد عمارة

TT

يقول حجة الإسلام أبو حامد الغزالي (450 ـ 505هـ / 1058 ـ 1111م): «إن التكفير هو صنيع الجهال، ولا يسارع إلى التكفير إلا الجهلة، فينبغي الاحتراز من التكفير ما وجد الإنسان إلى ذلك سبيلا، فإن استباحة الدماء والأموال من المصلين إلى القبلة، المصرحين بقول: «لا إله إلا الله محمد رسول الله»، خطأ. والخطأ في ترك ألف كافر أهون من الخطأ في سفك محجمة من دم مسلم. والوصية: أن تكف لسانك عن أهل القبلة ما أمكنك، ما داموا قائلين «لا إله إلا الله محمد رسول الله»، غير مناقضين لها. والمناقضة: تجويزهم الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعذر أو غير عذر، فإن التكفير فيه خطر، والسكوت لا خطر فيه!».

ويقول الإمام محمد عبده (1265 ـ 1322هـ/ 1849 ـ 1905م): «إنه إذا صدر قول من قائل يحتمل الكفر من مائة وجه، ويحتمل الإيمان من وجه واحد، حُمل على الإيمان، ولا يجوز حمله على الكفر».

ولقد أجمع العلماء على أن التكفير يجب أن يقف عند «المقولة» دون «القائل» وعند «الفعل» دون «الفاعل»، إذ ربما كان للقائل والفاعل للكفر تأويل، حتى ولو كان تأويلاً فاسداً، فإنه شبهة، والحدود تدرأ بالشبهات، وبهذا بلغ الإسلام من السعة وأمانة المسؤولية ما لم يبلغه دين ولا فلسفة ولا نسق فكري خارج دائرة الإسلام.

وفي مواجهة البعض، الذين يتنكبون هذا المنهاج، بدعوى الاستناد إلى قول الله سبحانه وتعالى: «ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون» ـ المائدة: 44.. كتب الشيخ محمود شلتوت (1310 ـ 1383هـ / 1892 ـ 1963م) يقول: «إن الحكم الإسلامي نوعان:

1 ـ حكم لم يرد به قرآن ولا سنة، أو ورد به أحدهما، ولكن لم يكن الوارد به قطعيا فيه، بل محتملا له ولغيره، وكان بذلك محلا لاجتهاد الفقهاء والمشرعين، فاجتهدوا فيه، وكان لكل مجتهد رأيه، وأكثر الأحكام الإسلامية من هذا النوع الاجتهادي، والحكم في هذا النوع الاجتهادي لو جاء بما يخالف جميع الآراء والمذاهب الإسلامية، فإن الإسلام لا يمنعه ولا يمقته، فضلا عن أن يراه ردة يخرج بها القاضي عن الإسلام، ذلك أن الإسلام ليس له في هذا النوع حكم معين، وإنما حكمه هو ما يصل إليه المجتهد باجتهاده المبني على تحري المصلحة والعدل، فمتى وجد العدل والمصلحة فثم شرع الله وحكمه.

2 ـ وحكم هو القطعي المنصوص عليه في كتاب الله أو سنة رسوله الثابتة، التي لم يظهر فيها خصوصية الوقت أو الحال، والحكم بغيره إن كان مبنيا على اعتقاد أن غيره أفضل منه، وأنه هو لا يحقق العدل ولا المصلحة، ردة يخرج بها القاضي عن الإسلام، أما إذا كان القاضي الذي حكم بغيره مؤمنا بحكم الله، وأنه هو العدل والمصلحة دون سواه، لكنه في بلد غير إسلامي، أو بلد إسلامي مغلوب على أمره في الحكم والتشريع، واضطر أن يحكم بغير حكم الله لمعنى آخر وراء الجحود والإنكار، فإن الحكم في تلك الحالة لا يكون كفراً، إنما يكون معصية، وهو نظير من يتناول الخمر وهو يعتقد حرمتها، فيجب على القاضي المسلم أن يرد نفسه عن الحكم متى استطاع إلى ذلك سبيلا، وإذا لم يستطع أن يرد نفسه خوفا من ضرر فادح يلحقه أو يلحق جماعته فإن الإسلام يبيح له ذلك، ارتكابا لأخف الضررين، ما دام قلبه مطمئنا إلى حكم الله»..

هكذا كانت ـ وهكذا يجب ـ أن تكون الدقة في الإفتاء، والأمانة في الاجتهاد.