هل نبشر أم ننفر؟!

عيسى الغيث

TT

حينما أكتب هذه الكلمات، فلست أعني سوى من يقرؤها ليتمعن فيها ويؤمن بها ويقتفي أثرها، لأنها مضاءة بنور الوحي «وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا».

إننا جميعا نقرأ القرآن ونتدبره ونمر بقوله تعالى: «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ»، فليس التهديد والوعيد والغلظة والشدة من الرحمة في شيء «وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا»، وربنا وإلهنا هو الذي أمر بذلك «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ».

فلو قلبنا النظر فيمن حولنا، فهل نجد منهم أحدا أظلم من فرعون، ومع ذلك يقول الله لموسى وأخيه هارون: «اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى»، فهل ما نراه من بعض إخوتنا في بلادنا العربية والإسلامية يوافق هذا التوجيه الإلهي باللين والشفقة، وترك العنف والشدة، وإن كنا نقوم بدورنا قربة لربنا فلا سبيل لنا سوى الالتزام بهديه وأمره «قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ».

ومن باب النقد الذاتي لا الانتقاد السلبي، لنسأل أنفسنا عما نراه فيمن حولنا، فهل نجد إلا جوابا واحدا يتردد صداه هنا وهناك قائلا: إن الغلظة والحدة هما الغالبان، ولا صوت يعلو فوق صوت الغلو والتشديد، وكأنهم يتقربون إلى الله بمعصيته «وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا».

كنت أتأمل قول حبيبنا المصطفى - صلى الله عليه وآله وسلم - حين قال: «يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا»، فقلت في نفسي أين هؤلاء القوم من هذا التوجيه النبوي الرقيق؟ حيث إننا نرى ونسمع ونقرأ صباحا ومساء فتاوى التعسير وبيانات التنفير، وغابت في زحمة الغلاة كل دعوة إلى التيسير والتبشير.

فحينما أستمع إلى أحدهم يتحدث في بلد إسلامي خالص، وتراه قد بالغ وغلا، وكرر في كلامه عشرات المرات الكفر والكافرين والنفاق والمنافقين والضلال والضالين، حتى يتراءى للواحد منا أننا قد أوشكنا على الغرق من الفساد والمفسدين، ولكن ما إن تعيد البصر إلى البصيرة فلا تجد سوى مساجد يذكر فيها اسمه وجوامع يرفع فيها ذكره وحلق للقرآن تحفظ فيها آياته ومحاضن للعلم تدرس فيها هدايته، وهنا لا تجد مصداقا لهذا التطرف في الخطاب إلا قول رسولنا - صلى الله عليه وآله وسلم: «إذا قال الرجل هلك الناس فهو أهلكهم»، بفتح الكاف هو المهلك لهم وبضمها هو الأكثر هلاكا، وقد يجتمعان.

فماذا يعني توالي صدور الفتاوى المعسرة والبيانات المنفرة، إلا عصيانا للتوجيه الإلهي والهدي النبوي، ومع ذلك تجد الاستخفاف والغلو إلى حد لا يمكن تصوره في إطلاق مصطلح النفاق، فبمجرد أن يخالفهم أحد من الناس حتى يصموه بالنفاق وأنه من المنافقين.

وأما إخوتنا الإعلاميون فلهم النصيب الأوفر في تلقي هذه العطايا الجزلة، حتى بدا للواحد منا أن الإعلام كله من قعر جهنم، مع أنهم مؤمنون بالله ورسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - ومحققون لمعنى الأخوة والنصيحة، فتراهم يخدمون أمتهم ويدافعون عن أوطانهم ويحمون مجتمعاتهم ويطيعون ولاتهم، وحتى في حال وقوع أحدهم في الخطأ فلا يجوز التعميم، ويجب النصح بالسر واللطف، والتيسير والتبشير، لا التعسير والتنفير.

ولا أود أن أقلب المعادلة حينما أقول: بما أن النفاق ظاهر وباطن، والباطن علمه عند الله، والظاهر لا يحتاج إلى وحي، فلو نظرنا إلى من يدعون التقوى ويقعون في عرض إخوانهم عبر ما يقولونه بألسنتهم ويخطونه بأقلامهم وهو مخالف لهدي ربهم وسنة نبيهم - صلى الله عليه وآله وسلم - إذن من هو الذي خالف تطبيقه تنظيره، ومن الذي خالف فعله قوله، وإذن لو عاملنا أولئك القوم بنفس المعاملة ووزناهم بنفس الميزان وكلناهم بنفس المكيال لرأينا التناقض عليهم من باب أولى، ولكن ليس هذا هو التوجيه الرباني والهدي النبوي، فالرمي بالنفاق شأنه خطير ووزره كبير، فالإسلام ليس طقوسا تمارس ولا كلمات تكرر ولا مزاعم تدعى، وإنما هو ما آمن به الجنان وقال به اللسان وعملت به الأركان، بكل اقتداء واهتداء، بلا حيف ولا شطط.

ولننظر ماذا فعل الفاروق عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فهو مع جلالة قدره وعظم منزلته لم يكن يحكم على الناس بالنفاق، بل إنه سأل صاحب سر رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - هل عده الرسول من المنافقين، وهنا نخرج بدرسين: أولهما أن الفاروق على مكانته لم يكن يعرف المنافقين وبالتالي لا يجزم بأحد منهم، وثانيهما أنه مع علو شأنه فإنه من خشيته على نفسه سأل حذيفة ذلك السؤال، في حين أننا لو رأينا واقعنا اليوم لرأينا بعض الناس يبرئ نفسه من النفاق ويرمي هذه الصفة على غيره، فأين هم من فعل الفاروق، فلا هو برأ نفسه، فضلا عن أن يغتر بها، لأنه يخشى الله والدار الآخرة، ولا هو رمى غيره بذلك من باب أولى، وبعض إخوتنا يقومون مقام حذيفة بالزور والبهتان ويخالفون سنة عمر بالغرور والمكابرة.

فيا من كنا ننتظر منهم القدوة الحسنة والدعوة المباركة، لا تتهموا غيركم ولا تزكوا أنفسكم «ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ»، وحسبكم قول ربكم: «وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ»، وهل نسيتم أن الله قد بعث رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - بشيرا ونذيرا «وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ»، فالتبشير يعني التخلق بما يستدعي الاستئناس والارتياح، والتحبب والتلطف، وبث الأمل في القلوب، والتبشير، والبعد عن التصنيف والتطفيف، والبراءة من التكفير والتنفير. والله الهادي إلى سواء السبيل.

* القاضي بالمحكمة الجزائية بالرياض