أثر غياب ثقافة الحوار في النزاعات القضائية

علي بن محمد العشبان*

TT

أول ما يلتحق المرء بالسلك القضائي يصاب بالذهول عندما تمر به قضايا أطرافها والد وولده أو أخ وأخوه أو ذوو رحم، ويفاجأ من صداقة تنقلب عداوة بين عشية وضحاها، ومن علاقة حميمة يفجرها نزاع يمكن حله، ومن خلافات زوجية لا تحل إلا في أروقة المحاكم، ومن رحم قطعها خلاف كامن.

ولكن ما يلبث مدة يسيرة إلا ويجد أنها صور متكررة، ومشهد لا ينقطع، فيتبلد الإحساس على هذا النحو، ويصبح أمرا مألوفا بعد أن كان شيئا غريبا ومدهشا.

إن غياب ثقافة الحوار ولد تعنتا بين المختلفين، وهجرا بين المتحابين، وقطيعة بين المتآخين، وتدابرا بين المتنازعين.

وإن عدم إدراك بعضنا لأهمية الحوار في حل كثير من الخلافات أدى إلى نشوب كثير من النزاعات واستمرارها وتكررها بصور مختلفة، كما أن فقدان أبجديات الحوار جعل التراشق اللفظي وقودا يؤججها، ويصعد من حدتها، ويعقد تفاصيلها، ويشحن النفوس على بعضها، إن لم تصل إلى أبعد من ذلك.

ويزداد العجب عندما تعلم أن أصل النزاع في بعضها شيء يسير يمكن القضاء عليه في مهده، لكن التدابر وعامل الزمن، وتراكم القيل والقال، وتعطيل الحقوق في وقتها فاقم من الأزمة، وأدى إلى وجود بعض الترسبات والتصورات السلبية، وعسرها بعد أن كانت يسيرة، وولد الكراهية، التي قد يتوارثها الجيل بعد الجيل.

ليست كل النزاعات والخصومات تندثر بالسكوت عنها وتركها، ولا كل الحقوق تنتهي بالتقادم والغفلة عنها، خاصة ما يتعلق بالتركات والميراث، كما أن ترك النار تحت الرماد قد يشعلها مرة أخرى، لذا ينبغي حسم النزاعات في حينها، وأداء الحقوق لأهلها في وقتها، وإلا فإن مصيرها غالبا غير محمود، وقد تنتقل من جيل إلى جيل، وبدلا من أن تكون القضية بين شخصين تصبح بين عائلتين أو أكثر.

إن كثيرا من النزاعات والاستحقاقات يمكن تسويتها قبل اللجوء إلى القضاء عبر الحوار البناء، وبعضها يحتم الرجوع إلى مرجعية في كل شيء بحسبه، وإذا لزم الأمر تحكيم خبير في محاسبة أو أمر هندسي أو تقني أو فني أو غيره فنبغي أن يكون المسلم حصيفا وكيسا فطنا يختار هو وخصمه خبيرا يتراضيان عليه يفصل بينهما، وليعلما أن الصلح خير.

وقد يستلزم الموضوع فقيها أو مفتيا أو عالما بالمواريث فلماذا لا يتفق الطرفان على الشخوص إلى فقيه أو مفت ليجيبهما حول ما أشكل؟! وفي نزاعات أخرى لا يتطلب الأمر فقيها أو مفتيا بقدر ما يتطلب من يدير الحوار بينهما، فليختارا حكيما يحسن ردء الصدع بين المتخالفين، وتقريب وجهات النظر بين المتنازعين، والخروج بهما إلى بر الوفاق والتراضي.

ومن الناس من أعطاه الله حنكة وحكمة، يحسن من خلالها جمع شتات الخلاف، ثم حصره وقصره، ثم حل عقده واحدة تلو الأخرى، ويحسن لم شمل المتفرق، واختصار المطول، وتوضيح العائم والمجمل.

وما أعظمها من صدقة!! قال الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي أيوب: «ألا أدلك على صدقة يحب الله موضعها؟! قال: قلت بلى، بأبي أنت وأمي، قال: تصلح بين الناس، فإنها صدقة يحب الله موضعها».

وفي نزاعات كثيرة لا يتطلب الأمر لا ذا ولا ذاك، وإنما يتطلب أن يكون الطرفان على قدر كاف من ثقافة الحوار، وإلمام بأبجدياته في حسن استماع وإنصات مع تسامح.

قال صلى الله عليه وسلم: «الصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحا حرم حلالا أو أحل حراما».

إن الخصومة وحب الغلبة والظهور وفرض الذات والاعتداد بالرأي والاستعلاء وحب الاستئثار قد تعمي وتصم، بل قد تحيل الباطل حقا والحق باطلا عند صاحبها، لذا فقد يكون في الحوار والاستشارة منفذا يدخل من خلاله نور يبصر الجاهل، ويذكر العالم، ويفتح نوافذ المعرفة، ويبصر المرء بطرائق وحلول لم تكن تخطر له على بال.

وإذا لجأ المرء فليجأ إلى مخلص ناصح لا إلى من يعينه في خصومته.

فهذا أبو سلمة بن عبد الرحمن، كانت بينه وبين أناس خصومة في أرض، فدخل على عائشة رضي الله عنها يستشيرها، فقالت له: «يا أبا سلمة، اجتنب الأرض، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من ظلم قيد شبر طوقه من سبع أرضين)».

وفي المقابل: قال صلى الله عليه وسلم: «من أعان على خصومة بظلم أو يعين على ظلم لم يزل في سخط الله حتى ينزع».

وليعلم المسلم أن تحكيم الشريعة ليس قاصرا على المحاكم فقط، بل يجب عليك أن تحكم الشريعة في نفسك وأهلك وفي نزاعاتك وخلافاتك ولو لم تصل إلى المحاكم.

عندما يتحاور المتخاصمان وتحضر ثقافة الحوار، ويملكان أدواته، ويتحليان بالتسامح، وكل منهما يعتقد أنه لا يملك الحق والحقيقة لوحده، وأن الحق في الخصومة قد يتجزأ، جزء لك، وجزء عليك، ويوازنان بين المصالح والمفاسد، ويستشعران قوله تعالى: «وأن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم»، ويستحضران حق الجوار وحق الرحم وحق الصداقة والأخوة وغيرها من الحقوق، فلا أظنهما إلا سيخرجان بنتيجة مرضية لهما.

ولكن الاستنكاف والتكبر والأنفة المعوجة سولت لكل واحد منهما أن لا يبادر لطلب الجلوس والحوار، مع أن بعضهم يتطلع لذلك، لكنه لا يريد أن يبادر من تلقاء نفسه، وإنما يأمل أن تكون المبادرة من الآخر، وإذا أصر كل منهما مكثا على هذه الحال دهرا، حتى يأتي ذلك اليوم الذي ينفجر فيه ذلك الاحتقان الذي تشكل من ترسبات الماضي، لذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان: فيعرض هذا، ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام»، ولا شك أن المبادر هو السابق لهذه الخيرية.

قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «رحم الله عبدا سمحا إذا باع، سمحا إذا اشترى، سمحا إذا قضى، سمحا إذا اقتضى»، وقال صلى الله عليه وسلم: «أفضل الإيمان الصبر والسماحة». وقال: «من أقال مسلما أقاله الله عثرته».

ومن المفترض قبل الخوض في الحوار مع الآخر أن يجري المسلم حوارا مع الذات يستفتي فيه قلبه، ويحتكم إلى ضميره مستشعرا تقوى الله ومخافته وحساب الآخرة كي ينصف الناس من نفسه.

قال عمار بن ياسر رضي الله عنه: «ثلاث من جمعهن فقد جمع الإيمان: الإنصاف من نفسك، وبذل السلام للعالم، والإنفاق من الإقتار».

وفي الحديث: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم قسما أقبل رجل فأكب عليه فطعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرجون كان معه فجرح وجهه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تعال فاستقد (اقتص)، فقال: بل عفوت يا رسول الله».

وعن أسيد بن حضير قال: بينما هو يحدث القوم، وكان فيه مزاح، بينا يضحكهم، فطعنه النبي صلى الله عليه وسلم في خاصرته بعود، فقال: «أصبرني» - طلب القصاص - فقال: «اصطبر». قال: «إن عليك قميصا وليس علي قميص»، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم عن قميصه، فاحتضنه وجعل يقبل كشحه، قال: «إنما أردت هذا يا رسول الله».

إن الضمير الحي والقلب الذي يخاف الله ويرجوه قد يكون حكما عدلا وقولا فصلا في قضية قد يعجز الحكام عنها.

أما الشح في التعاطي مع النزاعات، والرعونة في نقاش الخلافات، والتطاول في العبارات والألفاظ فإنها لا تنتج إلا مزيدا من الاحتقان والشحن النفسي، بل قد يتولد من القضية الواحدة عدة قضايا.

جاء رجلان من الأنصار يختصمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواريث بينهما قد درست، ليس عندهما بينة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنكم تختصمون إلي، وإنما أنا بشر، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضي بينكم على نحو مما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه ؛ فإنما أقطع له قطعة من النار»، فبكى الرجلان وقال كل منهما: «حقي لأخي». فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما إذ قلتما فاذهبا فاقتسما، ثم توخيا الحق بينكما، ثم استهما، ثم ليحلل كل واحد منكما صاحبه».

وإذا كان بعض المتنازعين قد تجرد من الظلم، وكل منهم في قرارة نفسه يعتقد أنه محق، فلا أظنهما أو أحدهما قد سلم من الشح، فمن سلم من الظلم لم يسلم من الشح إلا في بعض القضايا الظاهرة.

ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «اتقوا الظلم. فإن الظلم ظلمات يوم القيامة. واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم. حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم».

وقال: «إياكم والشح فإنما هلك من كان قبلكم بالشح، أمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالفجور ففجروا».

وقال: «لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في جوف عبد أبدا، ولا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبدا».

يقول تعالى: «إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى».

فالعدل مطلب حتى مع من تكره، «وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى»، والإحسان أعلى منه درجة، وإذا كان مع القريب فله وقع أكبر.

وليحتسب المرء عند الله ما سمحت به نفسه وعفا عنه، فـ«ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله».

قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله عفو يحب العفو»، وقال تعالى: «وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم».

* القاضي بالمحكمة العامة بالرياض