تخصيص البيئات العدلية أم تأميمها

ياسر صالح البلوي

TT

شيء رائع حقا أن أطل من شرفة المحكمة على مقابر قديمة اكتظت بالقبور فأُغلقت وفتحت مقابر أخرى في مناطق ريفية بعيدة. أجواء شاعرية بالفعل، مقبرة رائعة يختبئ بها بعض الفارين من المجهولين الذين يبيعون القات على أبواب المحكمة.

لقد حكمت يوما ما حكما بديلا عن جزء من المحكومية على أحد الشباب بأن يساهم مع رجال مكافحة المخدرات في القبض على هؤلاء المجهولين، وأشرت إليهم من النافذة؛ معك سنة للقبض على عشرة من هؤلاء المروجين الوديعين لتخفيف الحكم إلى الحد الأدنى من العقوبة. إنهم مروجون للقات وديعون يبادرونك بتسليم أيديهم لتضع فيها الكلبشات ليتم تسفيرهم على حساب الجوازات إلى بلدانهم.

وبالفعل ساهم بالكشف عن ثلاثة مروجين للقات بصورة رائعة وباحترافية. وتوقف عند الرابع بسبب انتشار الخبر عن طريق الإعلاميين المشاكسين الذين سربوا الأخبار من خلف الحيطان. إن الوطن خسر الكثير بسبب انتشار خبر هذا الحكم في الإعلام وهو تحت الإجراء القضائي مما فرغه من مضمون السرية.

أراد هذا الشاب المواصلة إلى أقصى حد، وسيف وقف التنفيذ المؤقت يلاحقه لتخفيف الحكم ولكنه أراد المواصلة في منطقة أخرى من المملكة. وبالفعل ساهم في القبض على شخص في مدينة بعيدة جدا ليصبح مجموع الجهد أربعة مروجين ساهم في كشفهم هذا الشاب التائب من الإدمان.

إنها مساومة عدلية نظيفة مستقلة لإثبات التوبة للقاضي بجهود إصلاحية ظاهرية لم تتطرق لها ثغرة عدلية بتدخل أي جهة بالحصول عليها، مساومة فردية بين القاضي والمدمن بالبحث عن أسباب الجرائم، حيث وجدت أن هذا المدمن للقات يحصل عليه من الأسوار الخلفية لهذه المقبرة وبكل يسر.

إنها مقبرة محاطة بالأسوار من كل جهة لا تستطيع رؤية ما بداخلها ولكني من الدور الرابع من المحكمة أستطيع رؤية ما بداخلها.

لقد أُسكنت المقبرة كثيرا من الأسلاف الصالحين الذين كثير منهم لم يعرفوا شيئا اسمه المحكمة.

هذه مقالة معاناة (Article suffering) (كربلائية) ولعلها تهز وترا حساسا ذا نغمات حشرجية يعلمها أهل جيزان لأنها منطلقة من واقعهم ومن تحت أشعة الشمس لجعل بشرة الجسد برونزية على سواحل جيزان الطينية.

حديثي في هذه المقالة عن المؤسسة العدلية بعمومها لا أخص جهة دون جهة أو فردا دون فرد، كلنا شركاء في المسؤولية. والحديث موجه لنفسي قبل غيري.

هذه المقبرة العتيقة جعلتني أفكر في مفهوم تأميم المؤسسة العدلية في أقصى لحظات ردات الفعل اليائسة من حال المراجعين والمواطنين، وأحاول حينا أن ألطفها وأغلفها بأسلوب حضاري، وأقول الطريق إلى التخصيص والطريق لنظام B.O.T ونظام B.O.O.T لإبعاد الإدارة المركزية عن المزيد من الانخفاض بالواقع العدلي.

أستشرف الأفكار العظيمة لتحقيق طموح خادم الحرمين الشريفين في تطوير هذا المرفق المهم.

الشريعة الإسلامية السمحة تقر نقل المصالح العامة والإدارات العامة إلى القطاع الخاص استنادا إلى عموم الإباحة العامة والمصالح المرسلة المفيدة للأمة وقياسا على عدة أدلة ترجع هذه المفاهيم إلى الفكرة الأصيلة وهي نقل ملكية المال العام، منها قوله تعالى «هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا» وأيضا ما ورد عن بلال بن الحارث: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ من المعادن القبلية الصدقة، وأنه أقطع بلال بن الحارث العقيق أجمع، فلما كان عمر رضي الله عنه قال لبلال، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقطعك لتحجره عن الناس، لم يقطعك إلا لتعمل. قال فأقطع عمر بن الخطاب للناس العقيق».

إن مفهوم الخصخصة كمعنى نظري عام في العالم المعاصر لا يخلو من بعد آيديولوجي حين الحديث عن الفكر التنظيري المصاحب لهذه المفاهيم، بيد أن الجميع يتفق على أن محوره الاستناد على القطاع الخاص في التنمية بحيث يعني ذلك «الاعتماد على آلية السوق لتحديد سقوف الإنتاج وكيفية التوزيع وتحفيز الإنتاج، كما يعني إعادة الاعتبار إلى الليبرالية وتقديمها على الفكر الماركسي والتدخلي». عند الجدل الذي دار حول مصطلح Privatization نحن كمسلمين لدينا من الضوابط والإطار المرجعي الأصيل الذي يعطينا المرونة في الأخذ بأحسن مما وجد في نظريات العلم ومحاولة توليفه لإبعاد الثغرات الشرعية. ثراء الحضارات العالمية يحفزنا للمواكبة والإبداع وإكساب العلم التجريبي رونق التعبد والأخلاق والمصلحية السماوية.

وقد عرف التخصيص كمفهوم تنظيمي أولي بأنه: «عمل من أعمال السيادة، ومظهر من مظاهرها، تختص بإجرائه السلطة التنظيمية وحدها، وهي عملية يراد منها نقل ملكية المشروعات العامة المملوكة للدولة كلها أو بعضها إلى الملكية الخاصة ممثلة في أشخاص طبيعية أو أشخاص اعتبارية، وذلك لتحقيق ضرورات اجتماعية وتنمية اقتصادية وسياسية. وتعيين المشروع محل الخصخصة وتحديد عناصره يرجع فيه للنظام مباشرة. وتكون الخصخصة إما كاملة، أي خصخصة الأصول والإدارة، أو جزئية».

ونتيجة هذا التنظيم أن تتنوع على الأرض تطبيقات الخصخصة من نقل ملكية القطاع العام كليا أو جزئيا إلى القطاع الخاص. فالنقل الكلي يفيد البيع حكما وقانونا، أما النقل الجزئي فيفيد حقوق الإجارة من بناء وتشغيل وإدارة واستفادة وإعارة، ثم التحويل إلى القطاع العام بعد فترة زمنية محددة. ويشمل أيضا تخصيص الإدارة، أو البيع الجزئي، أو نقل الملكية إلى الإدارة والعمال، أو الاكتتاب. وتتنوع أيضا بمقدار التوسع في مدى شمولية الإجارة خلال الفترة الزمنية مثل الإجارة Lease، البناء والتشغيل والتحويل B.O.T، والبناء والتشغيل والتملك والتحويل B.O.O.T تعتبر الخصخصة الآن في عالم الاقتصاد وسيلة من وسائل الالتحاق بالدول الصناعية المتقدمة، ولذا تكتسب أهمية خاصة بسبب أنها تؤدي: لتخفيف الأعباء المالية على ميزانية الدولة، والأمر المهم هو ضمان وجود الدعم المالي لإدارة المصلحة، حيث إن الدولة قد توجه الميزانيات لمصالح طارئة أو أحيانا تسعى لتقليص الإنفاق مما يؤثر على مصلحة الخدمة. وأيضا ستؤدي إلى حفز العامل على العمل والإنتاج، نظرا لدخول مفاهيم روح الفريق وتحسن إدارة الجودة ولمحاسبة الدولة للشركات على سوء الخدمة.

ومن فوائده الحصول على السلع والخدمات بجودة أكبر وبسعر أقل وتنوع أكبر نتيجة زيادة المنافسة؛ وذلك لأن عنصر المنافسة لا يؤثر أثره المطلوب في القطاعات العامة؛ لأن الذي يقوم بالعمل في الشركات العامة لا تعنيه جودة الإنتاج بقدر ما يعنيه حصوله على مقرره الشهري الذي سيصله سواء كان عمله من الجودة بمكان أو لم يكن.

وعندما نتحدث عن أهمية دخول هذه البيئة التخصيصية إلى المؤسسة العدلية فإن هدفنا هو رفع الكفاءة للمؤسسة العدلية العتيقة والخروج من ثقافة استئجار العزب وشقق العزاب لتحويلها إلى محاكم، إلى مفهوم البيئة العدلية اللائقة بسمعة المملكة العربية السعودية، وتخفيف الأعباء المالية عن الدولة لتوجيهها في بنى تحتية عدلية هائلة، واجتذاب رؤوس الأموال المحلية (الهاربة) أو الأجنبية، وخلق وتشجيع المنافسة الفعلية بما فيها العمل بناء على قوى السوق.

الحاجة ماسة لإتمام هذا التخصيص إلى التنسيق بين القطاعين العام والخاص في وضع أولويات اختيار المشروعات العدلية والوحدات للخصخصة، مع الجمع بين مصلحة الفرد والمجتمع. أو الإثقال على المواطن بتكاليف مرهقة. وألا تؤدي إلى البطالة وخسارة موظفي العدل لوظائفهم بدعاوى تقليص النفقات ونحوها. ووضع ضوابط لمنع قيام المستثمر بمزاولة أي نشاط يتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية. أو يؤدي للاحتكار، امتثالا لقوله صلى الله عليه وسلم «من احتكر فهو خاطئ». وحصر صلاحية تدخل الوزارة العدلية بقدر الحاجة مع عدم التعسف في استخدام هذا الحق، حيث يقول ابن تيمية نقلا عن الإمام الشافعي «إن الناس مسلطون على أموالهم، ليس لأحد أن يأخذها أو شيئا منها بغير طيب أنفسهم إلا في المواضع التي تلزمهم» والاهتمام بالاستثمارات الأجنبية التي تدعم المصالح الوطنية مع الحد من سيطرة المال الأجنبي.

وإلزام المستثمر بالمحافظة الأخلاقية على البيئة المحيطة بالعدل مصداقا لقوله تعالى «وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ» والتحذير من استغلال النفوذ في سبيل الحصول على ملكية أو منفعة خاصة أو التدخل في استقلالية القضاء.

وفرض احترام الدين الإسلامي دين الدولة وحق المجتمع بمرجعية الكتاب والسنة في المادة الأولى من النظام الأساسي للحكم. ومراعاة مشاعر المسلمين وأعرافهم وتقاليدهم، كتوفير أوقات وأماكن لأداء الصلوات وخلق البيئات الشرعية الراقية المراعية للخصوصيات، والمحافظة على الطابع الثقافي العام بمنع بنائها بطريقة لا تمثل الاحترام الواجب تقديمه للحرم القضائي، فمن غير المقبول بناء محكمة على هيئة ملهى ليلي أو كقاعة أفراح أو على هيئة مركز تجاري أو مخيم بري أو نصب مشنقة أمام المحكمة بدلا من العلم بدعوى التخويف.

نستطيع أن نجني الكثير من إيجابيات الخصخصة المتاحة لاستغلالنا، والتي تمكننا من تحويل ضعف القطاع العام إلى قوة تعود على المجتمع بأسره بالفوائد الجمة.

هل لنا في المؤسسة العدلية استراتيجية واقعية وعملية لتحسين واقع الناس مع العدل، حقيقة كقاض سعودي منهمك في عمله برد السلام على المراجعين، لا أعرف شيئا أُعلن عن استراتيجية بهذا الشأن، أسمع كما يسمع الناس وعودا وتباشير الفجر القادم، بينما الليل قد طال والفجر الكاذب لم يظهر بعد حتى يظهر الفجر الصادق. المواطنون بشغف لرؤية واقعهم العدلي يحقق طموح خادم الحرمين الشريفين.

المؤسسة العدلية لم تغفل الرؤية الاستراتيجية ولكن بطريقة «المعنى موجود ببطن الشاعر» وعلى طريقة وصف بعض الأصوليين بتعريف الاستحسان عندما يعرفونه كمصطلح وفن «بأنه دليل ينقدح في نفس المجتهد ويعسر علة التعبير عنه» ومن العجيب الطريف تعامل ابن حزم والشوكاني مع تعريف كهذا عندما وصفوه بالهذيان.

* القاضي بمحكمة سامطة