قراءة في خطاب خادم الحرمين الشريفين للعلماء

TT

سطرت في هذا المكان يوم الثلاثاء 20/4/2010 مقالا عن «تجريم التمويل الفكري للإرهاب»، وذلك على ضوء ما نشرته هذه الصحيفة في 13/4/2010 عن صدور قرار من هيئة كبار العلماء السعودية بتجريم تمويل الإرهاب، ثم نشرت هذه الصحيفة في يوم السبت الماضي 8/5/2010 خطاب خادم الحرمين الشريفين إلى سماحة رئيس الهيئة المفتي العام للمملكة؛ الجوابي على ما رفعه إليه رفق قرار الهيئة، والوارد نصه ضمنه، وقد وجدت في خطاب جلالته الكثير مما يجب الوقوف عليه وقراءته، ومع قصر نصه وقلة كلماته، فإنها جزلة في مبانيها وغنية في معانيها وواسعة في مراميها، لأن ما ورد في الخطاب ينبغي تأمله العميق، لما فيه خير الدين والمجتمع والوطن، ولا ينبغي عدم التركيز فيه، وقراءة سطوره، ومعاني ما وراء كلماته، من حكمة رزينة، وعقلانية رشيدة، بحفاوة الوحي المطهر، والهدي السماوي.

حيث ورد فيه تثمين قرار الهيئة بتجريم تمويل الإرهاب، لما فيه من الإفساد، وزعزعة الأمن، والجناية على الأنفس والأموال، والممتلكات الخاصة والعامة، وأشار جلالته إلى كون قرار الحكم الشرعي ليس تشريعا بذاته وإنما لغيره من الأدلة النقلية والعقلية بالدليل والتعليل، وهذه الإشارة ذات مدلول عميق، لكون جميع العلماء على مر العصور لا يستدل بقولهم، وإنما يستدل لقولهم، فهم أدوات لتوصيل الحكم الشرعي من الكتاب والسنة، وفي هذا مغزى، كونه ذا مرجع شرعي سماوي بطهارة الوحي، وتأكيد جلالته على كون هذه الجريمة (تمويل الإرهاب) نكراء، وتقف مع الإرهاب في خندق واحد، بل هي التي تغذيه، فلولاها - بعد الله - لما قامت تلك الجرائم، لكون المال عصب العملية الإرهابية، ومن أهم أدواتها المحققة لأهدافها، وأركانها التي تقوم عليها، وما فعلهم هذا إلا مجرد «محاولة» للإفساد في الأرض، بعد أن صلحت البلاد وعم الدين وفشا العدل وطبقت الشريعة وتوحدت القلوب، مع محاولة هذه الفئة زعزعة أمننا، لأنه ركن حياتنا وإيماننا، ومع استهدافها لمقدراتنا الدينية والدنيوية، والنيل من منهجنا الوسطي المعتدل، الذي ورثناه من حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم، وعملا بقوله تعالى «وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس، ويكون الرسول عليكم شهيدا»، وفي هذه الإشارة من ولي الأمر رسالة للجميع بأن منهج هذه الدولة هو الوسطية والاعتدال، فلا إفراط الغلاة، ولا تفريط المنحلين، وإنما هي منهجية ربانية جاء بها خير الخلق لتكون خيرا لنا في ديننا ودنيانا، ونحمد الله على أن أمكن من هذه الفئة الباغية المعتدية، بعد أن كشف الله ضلالها، بفكرها وممارستها، وجعل هذا الوطن عن بكرة أبيه على كلمة سواء ضدها، كما هو حاله منذ قرون بعد دعوة التجديد التي قادها الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، وهي على محجة بيضاء، لا يمكن تلويثها وتدنيسها، ولا التدليس فيها والمزايدة عليها، ولا الغش معها والمشاغبة حولها، فليلها كنهارها، ولا يزيغ عنها حينئذ؛ إلا هالك، ولأنه كذلك فيسعى لإهلاك غيره، من أخوته وأهله ومجتمعه ووطنه كله، ولكن البصائر لم تغب، والبصيرة قد هديت بنور الوحي، «هذا بصائر للناس، وهدى ورحمة لقوم يوقنون»، فبها هدينا وتراحمنا وأيقنا بأن الوسطية هي الهدى والسبيل المستقيم، وليس هذا بتحكم وتعسف، وإنما هو الحق بدليله، فالدليل هو السائق والقائد، ولم ولن نكون كالفئة الضالة حين ساقت الأدلة بدلا من أن تنساق إليها، ولوت أعناقها لتسير مع ضلالها، ولذا سمونا بأقوالنا كما سمونا بأعمالنا، فلا تجد في القول إلا كريما، ولا في العمل إلا رحيما، وهذا هو سبيل الحق والهدى والرشاد الذي سار عليه ولي الأمر ومضى بأمته نحو الاعتدال، يوم أن تخطفتنا تيارات يمينية حرمت بلا مُحَرِّم وكفَّرت بلا مكفر، ويسارية حللت بلا محلل وانحلت بلا تحليل.

وحينما يدعو خادم الحرمين الشريفين الله بأن يبارك في العلماء ليزكوا علمهم ويقوموا بواجبهم، دون طلب ولا استشارة ولا استفتاء، وإنما بمبادرة أوجبتها الشريعة الإسلامية، ببيان الحق وعدم كتمانه، والبيان لا يؤخر عن وقت الحاجة، وإذا تفشى في مكان وزمان تطرف وغلو أو تحلل وانحلال، وجب على العلماء من عند أنفسهم أن يبادروا بواجبهم، فكلاهما منكر يجب إنكاره، فلا نطفف ولا نغير الموازين، وكما نقف في وجه الانحلال، فيجب أن نقف في وجه الغلو، ولو خشينا الناس، فالله أحق أن نخشاه، ومهما طالت بنا الحياة فسننتقل إلى الرفيق الأعلى، وهو الذي سيحاسبنا، وليس سلطة العامة والجماهير، فالعمل من أجل الناس شرك، وتركه من أجلهم رياء، بل حينما نتكلم بما لا يقبله البعض، ونكتب ما لا يرضى عنه البعض، فذلك إرضاء لله دون سواه وتطبيقا لأمره دون غيره، ولو لقينا من اللدد والفجور ما نلقى، فإنما هو في سبيل الله، ومهما أساء الغلاة التفسير ورموا المقاصد وطعنوا في النيات، فالله هو العالم بالسرائر وإليه نعود، وعنده دون سواه الحساب.

ثم ذكَّر جلالته بواجب أساسي في تبليغ الرسالة وبيان الحجة وحماية الأمة، حيث دعا الله أن يعين العلماء على التصدي لأفكار الفئة الضالة، لأن الفكر هو الأخطر، وهو المشرع والمنتج للتمويل المالي والبشري، ومن دونه لن تجد تمويلا ولا بشرا يسارعون في الإرهاب، وهذه الجملة يجب ألا تمر مرور الكرام، فعلينا أن ندرك أن التصدي للأفكار هو الأهم، وما تخصيص ولي الأمر به وتركيزه عليه في خطابه ونشره للأمة إلا رسالة تعميمية للجميع في خطورة الفكر والتنظير له على بقية أركان جريمة الإرهاب، وأكد حفظه الله على بيان كلمة الحق في هذه الفئة وأفكارها المنتشرة اليوم في بلادنا العربية والإسلامية والعالم أجمع، ولم يكتف جلالته بذلك وإنما نص على من ساند هذه الفئة وأفكارها المتطرفة ومنطلقاتها الضالة، وحينما دعا جلالته الله بالحفظ، فقد بدأ بالدين لأنه الأساس بلا مزايدة من أحد كائن من كان، من الـــــــــــذين أشبعوا الأمة شدة وغلظة وعنفا، ولم يقدموا لها أي خير في دينها ودنياها، وإنما شوهوا سمعة دينهم ومجتمعهم ووطنهم، بلا مراعاة للأصول والقواعد والمقاصد الشرعية، ومن ثم ثنى جلالته بالأمن الذي لن يستتب إذا فشى الغلو والتنظير له والدعوة إليه عبر وسائل شتى تقليدية وتقنية وحتى قنوات فضائية، وما أجمل وأحكم دعاءه حفظه الله حينما دعا الله أن يرينا الحق حقا، لأن هناك من يجادل بالجهل والتعالم، وبالتحكم والمكابرة، فكان هذا الدعاء له لهدايته للحق، وأن يرزقنا الله اتباع هذا الحق، الذي يعلوه النور بوسطيته واعتداله وتسامحه، وأن يرينا الباطل باطلا، من الغلو والتنطع ومن التحلل والانحلال، ويرزقنا اجتنابه وليس التمســــــــك به والمكابرة عليه والدعوة لمثله والمناصرة لأهله، أو مجرد السكوت عليه وهو يتفشى بين الناس، وحسبنا أن الله هو ولي ذلك دون سواه، والقادر عليه دون غيره، والله نسأل أن يوحدنا على الحق ويثبتنا عليه ويجمع قلوبنا على خير، للمحافظة على ديننا السماوي ومجتمعاتنــــــا وأوطاننا العربية والإسلامية، وأن نكون خيرا لأهلنا وأمتنا لما فيه تحقيق ديننا ودنيانا، فيكفي أمتنا ما فيها من بلاء وشدة، والله الهادي إلى سواء السبيل.

* القاضي بالمحكمة الجزائية بالرياض