محمد عابد الجابري والانشغال بالفكر الإسلامي والعربي

رضوان السيد

TT

ما انشغل محمد عابد الجابري، منذ بدأ الكتابة أواخر الستينات من القرن الماضي، إلا بالفكر الإسلامي، قديمه وحديثه. لكنه آثر منذ البداية أن يسمي الأمر كله مصطلحيا بالفكر العربي. وهذا المصطلح مبرر في الحقب الحديثة. لكنه يحتاج إلى تسويغ إذا تعلق الأمر بالفكر في الأزمنة الإسلامية الوسيطة. وقد كان تبريره منذ كتابه «نحن والتراث» ثم «تكوين العقل العربي» بأن هذا الفكر مكتوب كله تقريبا، في قرونه الثمانية الأولى باللغة العربية. واللغة في أي ثقافة وحضارة ليست أداة للفكر وحسب؛ بل هي أساسية في بنية الفكر ذاته. وقد أدرك ذلك العلماء الكبار منذ الفترة الأولى، وليس اللغويين وحسب؛ فقرر الشافعي في «الرسالة» التي كتبها في أواخر القرن الثاني الهجري أنه ليست في القرآن مفردة غير عربية. وهذا مخالف لآراء العلماء الذين كتبوا في «لغات القرآن» منذ القرن الثالث الهجري. لكن الشافعي كان يقصد أن المفردات غير العربية، التي دخلت إلى العربية في الاستعمال، ثم إلى لغة القرآن ما تعربت وحسب؛ بل صارت أيضا جزءا من نظام الخطاب العربي. والخطاب الثقافي المكتوب عند الجابري يتكون من بنى لغوية وشعورية ومادية واجتماعية. وأيا تكن وجاهة هذه الحجة؛ فإن الجابري انصرف طوال حياته الثقافية للكتابة عن العقل العربي والفكر العربي في حقبتيه الكلاسيكية والمعاصرة.

في الحقبة الكلاسيكية قسم الجابري الفكر العربي إلى ثلاثة أنظمة أو خطابات أو عقول: العقل البياني، والعقل العرفاني، والعقل البرهاني. والجابري يرى أن النظام البياني يوشك أن يكون إبداعا عربيا خالصا. وهو يقصد به ذلك النوع من التفكير الذي تسيطر عليه قواعد الخطاب اللغوي واللساني، فتصنع بنيته وتسهم في تحديد مضامينه إلى حد كبير. وقد بدا ذلك بالطبع في النتاجات اللغوية واللسانية الخالصة مثل المعاجم وكتب ورسائل التفسير القرآني، والنتاجات الفقهية، والرسائل الأولى في علم الكلام. بيد أن النظامين أو الخطابين الآخرين العرفاني والبرهاني سرعان ما برزا إلى جانب العقل البياني، وصارا جزءا بنيويا في نظام الخطاب. وكلا العقلين متأثران بمصادر واردة. أما العقل العرفاني، فهو متأثر بالثقافات القديمة بالمشرق، ذات الطابع الروحاني والباطني والهرمسي. وقد دخل هذا العقل مع أصوله الموروثة في جوانب شتى من نتاجات الفرق الإسلامية الباطنية وشبه الباطنية، وفي التصوف، وأعمال الفلاسفة الروحانيين أو الذين سموا أنفسهم فلاسفة الحكمة أو الحكماء أو أرباب الحكمة المشرقية. بينما بزغ العقل البرهاني من أصول يونانية (أرسطية على الخصوص) من خلال الترجمات والنقول عن اليونانية مباشرة أو بتوسط السريانية. وقد تجلى العقل البرهاني (أو العقلاني هذا) على وجه الخصوص في أعمال الكندي والفارابي وتيارهما في الفلسفة الوسيطة، وبلغ ذلك العقل أو العقلانية البرهانية ذروة التألق في الفكر المغربي والأندلسي، وعلى وجه الخصوص في أعمال ابن رشد، سواء منها ما كان شارحا لأرسطو (بل وأفلاطون مثل: الجمهورية) أو ما كان مستقلا ويتعلق بالمسائل الكلامية أو الفقهية. وانتشرت «ظلاميات» العرفانية بالمشرق مخترقة أعمال المنتجين في حقل البيان أو حتى البرهان، فأفسدت أعمال ابن سينا والغزالي على سبيل المثال. بينما انتشرت إشعاعات العقل البرهاني بالمغرب فما اقتصرت على ابن رشد، بل خالطت أعمال الفلاسفة الآخرين مثل ابن باجة وابن طفيل. ووصلت إلى أعمال المؤرخين والفقهاء مثل ابن خلدون (الذي كتب عنه الجابري مثل الكثيرين من زملائه المغاربة كتابه الأول أو أطروحته للدكتوراه بعنوان: «العصبية والدولة»)، والشاطبي (صاحب كتاب «الموافقات في أصول الشريعة»، الذي طور فيه فقه المقاصد)؛ وقبلهما ابن حزم الظاهري (صاحب «المحلى» في الاجتهاد الفقهي، و«التقريب لحد المنطق»، و«الفصل في الملل والنحل»).

وما أنتج الجابري هذه الخطاطة التفصيلية للفكر الإسلامي في حقبته القديمة فحسب (والتي تتناول بشكل رئيسي كتبه الخمسة: «نحن والتراث»، و«تكوين العقل العربي»، و«بنية العقل العربي»، و«العقل السياسي العربي»، و«العقل الأخلاقي العربي»، وكتابه عن ابن خلدون، وأعماله عن ابن رشد)؛ بل وأنجز عشرات الدراسات والرسائل في الخطابات العربية المعاصرة، وهي التي تتناول النصوص الآيديولوجية والثقافية، كما تتناول المشكلات العربية الرئيسية، والانشغالات المستجدة ذات الطابع الإسلامي في الوعي والممارسة.

إن هذه المنظومة الفكرية والثقافية الشاسعة والضخمة تستدعي التأمل وتستدعي النقد، بسبب جديتها، ولأنها في تقديري ستبقى في التداول إلى الحقبة الحاضرة والقادمة. فليس مقنعا هذا المصير والإصرار على مصطلح الفكر العربي للأزمنة الوسيطة، لأن انشغالات الفكر كلها إسلامية. وإذا قيل إن بنى الخطاب «عربية»، فما معنى العربية هنا، إذا كان الجابري يقر بأن العقلين العرفاني والبرهاني ذوَا بنى موروثة من عصور ما قبل الإسلام، بين فارس القديمة (للعرفاني)، واليونان القديمة (للبرهاني)؟ ثم إذا كان من الممكن التعامل مع أي فكر على أساس البنى المفترضة أو المشخصة على أساس «الاستقراء»، فأين ذهبت انشغالات ذلك الفكر، التي جرى التعامل معها جميعا على أساس تصنيفي وانتقائي. ولماذا تكون نتاجات العقل البياني متواضعة وواقعة بين العقل واللاعقل، وتكون نتاجات ما سماه الجابري العقل العرفاني فاسدة كلها، بينما تظل نتاجات «العقل البرهاني» المفترض أيضا عقلانية كلها، وعصية على الاختراق؟! إن علينا أن نقرر هنا أن المشروع الجابري في زمنيه القديم والجديد، هو مشروع آيديولوجي، وهو ذو هم معاصر غير منكور ولا مستنكَر. فالجابري يقرر منذ البداية أنه يسعى لنهوض عربي، والسبيل لذلك بافتراض وجود تيار عقلاني قوي ومستمر منذ الإغريق وعبر العصور الإسلامية الوسيطة وإلى الزمن الأوروبي فالعالمي الراهن. وإذا أردنا المشاركة بفعالية في هذا العصر - بعد أن صار الموروث الإسلامي مشكلة - فإن علينا في نظر الجابري أن نمارس انتقائية تؤهلنا لتلك المشاركة، وهي تتمثل بالعقل العقلاني الإغريقي/الرشدي، الذي انفرد به في المجال الإسلامي الوسيط الأندلسيون والمغاربة، وصدروه إلى أوروبا الوسيطة فوقع في أصل نهضتها. وإذا أقبلنا على حضارة الزمن الحديث، فلا ينبغي أن نعتبرها واردة أو غزوا ثقافيا، لأننا نحن العرب – وبخاصة المغارب الإسلامية - نقع في أصلها! ونقطة أخيرة لا ينبغي تجاهلها في التقييم الأولي لعمل الجابري رحمه الله. فهو كان قد قال في مقدمته على «تكوين العقل العربي»، وفي مقالات له بمجلة «فكر ونقد» إن تقسيماته للعقل العربي لن تشمل القرآن الكريم، لأنه ليس نصا عاديا أو تاريخيا في اعتقاد المسلمين، ولأنه لا يمارس الإصلاح الديني ولا يهدف لإنشاء علم كلام جديد. لكنه في الأعوام الخمسة أو الستة الأخيرة، اتجه دونما تسويغ قوي لتفسير القرآن. وصدرت له في الوقت نفسه مقدمات منهجية في «فهم القرآن»، وثلاثة مجلدات سماها التفسير الواضح للقرآن على أساس «ترتيب النزول». ولست آخذ عليه هنا - رحمه الله - أنه خالف خطته الأولى، ولا أنه توصل إلى آراء اجتهادية كثيرة سواء في مقدماته في تكوين القرآن وتركيبه أو في تأويلاته التفصيلية في بعض الأحكام والمسائل - بل إن ما آخذه على منهجه أنه اعتمد فيه «ترتيب النزول»، وليس «البنى» التي سادت في فكره كله. ومعلوماتنا عن ترتيب النزول مأخوذة من الكتب الكلاسيكية في التفسير وعلوم القرآن. فالمؤلفون القدامى يقولون عند كل سورة أو آية إنها مكية أو مدنية، وإنها نزلت بسبب كذا أو بمناسبة كذا أو بعدما حصل هذا أو ذاك. لكنهم جميعا يعتبرون القرآن بالطبع نصا واحدا شعائريا وقراءة وتفسيرا ولا يشرذمون النص ليفهموه استنادا إلى المعلومات عن تاريخ النزول أو سببه. وجل ما يفعلونه عند الفهم أو الإفهام أن يقرنوا آية بأخرى تتفق معها في الموضوع، ليفهموا أكثر من خلال مقارنة المتشابهات لفظا أو موضوعا. أما الأستاذ الجابري فقد تجاهل مسائل البنية والنص تماما، وانصرف لتركيب القرآن من جديد بحسب المعلومات الواردة عن ترتيب النزول أو أسبابه أو من دون اعتبار لذلك، وأنا هنا مرة أخرى لا أتهم الأستاذ الجابري بتحريف القرآن؛ بل بتكسير النص، وضرب سياقاته في التأويل. وسنده في الأمر كله المضمون أو المضامين الحاضرة والمفترضة. وهذا أمر غير معهود في القراءات الحديثة والمعاصرة للنصوص الأدبية والتاريخية، فكيف بالنص القرآني المتوحد بحسب تكوينه وجمعه أيام النبي (ص) وأصحابه - ويضاف لذلك تلك الوحدة الشعائرية والشعرية والشعورية الثابتة والمزدهرة والحية عبر العصور. ولست أفهم سببا لاعتماد الأستاذ الجابري هذا الأسلوب مع القرآن بالذات. هل لأنه أراد تجنب مسألة البنى حتى لا يضطر لاعتبار القرآن نصا بيانيا أو برهانيا أو عرفانيا أو عقلانيا أو غير عقلاني، بحسب منهجه في فهم «العقل العربي» الوسيط؟ أي إنه ما أراد أن يسلك سلوك المستشرقين، ولا سلوك أصحاب القراءات التاريخية والأدبية، حتى لا يرفض تفسيره منذ البداية من جانب الجمهور، أو يختلَف عليه، كما حصل مع غيره؟ ويشجع على هذا الاعتقاد أن الجابري طور أسلوبه أو نهج تفكيره منذ التسعينات من القرن الماضي إلى نهج توفيقي، بعيد عن الحلول والمعالجات الراديكالية؛ وبخاصة عند معالجة الموضوعات التي تهم الأجيال العربية المسلمة الشابة من مثل مسائل الدين والدولة، وتطبيق الشريعة، وقضايا الموروث الإسلامي.