في الإسلام والحداثة وما يجمعهما

محمد حلمي عبد الوهاب

TT

على الرغم من كثرة الجدل حول علاقة الإسلام بالحداثة وما بعدها، فإن أغلب المقاربات الموجودة على الساحة الثقافية العربية الآن تشي بنوع من الخلل المزدوج: إما في فهم الحداثة ومقولاتها من جهة، أو في فهم الإسلام وعلائقه من جهة أخرى! ونتيجة لذلك؛ يتجاهل أغلب المشاركين في هذا الجدل (ممن يخفون توجهاتهم، أو يصرحون بآيديولوجياتهم) مجموعة كبيرة من التساؤلات المفصلية - التي لا ينبغي تجاهلها بحال من الأحوال - نظرا لشدة ارتباطها بمجموعة من الاعتبارات المنهاجية والموضوعية. ويأتي في مقدمة تلك التساؤلات التساؤل الأكبر حول مدى صحة ومشروعية ربط الإسلام (كدين) بمنظومات فكرية عالمية كالاشتراكية والليبرالية... إلخ؟ يتبعه تساؤل آخر حول حدود الفصل والوصل التي تربط (أو تفصل) ما بين «صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان» وعمليات التوفيق والمواءمة المستمرة بينه وبين تلك المنظومات الفكرية والعقائد الآيديولوجية؟! وبطبيعة الحال؛ هنالك من يرفض التعليق على هذه التساؤلات: إما لأنه يرفض بعض المقولات التي تأسست عليها تلك التساؤلات (كفكرة صلاحية الإسلام وملاءمته لكل زمان ومكان)، وإما لرفضه الطرف الآخر من المعادلة (الحداثة في حالتنا هذه) رفضا قطعيا بحجة عدم تماشي مقولاتها مع شريعة الإسلام! لكن، وبغض النظر عن وجهة نظر المتعصبين من هذا الفريق أو ذاك، سرعان ما نصادف مجموعة أخرى من التساؤلات الجادة التي يتحتم على المنشغلين بتلك القضية محاولة الإجابة عن بعضها. تنطلق تلك التساؤلات من قاعدة التشكيك في «منهاجية المقاربات» بحد ذاتها، وليس بقصد التشكيك في «مبدأ جدواها». وعلى ذلك، فإنها تتوجه لكلا الطرفين بتساؤلات من مثل: ألم يكن الإسلام حتى وقت قريب اشتراكيا محضا وإذا بكم الآن تلبسونه رداء الليبرالية المحضة أيضا؟ وإذا أقررنا معكم بخطأ المقاربة الأولى التي واءمت عن عمد بينه وبين الاشتراكية، فما هي الضمانة الحقيقية التي تحول دون تكرار نفس الخطأ بالنسبة إلى المقاربات الجارية حاليا؟! ألا يكمن الإشكال أصلا في طبيعة المنهج الذي تتبعه تلك المقاربات بالأساس؟ أليس من الأجدى – والحال هذه - أن نبحث في عموم المشترك من دون أن نلوي عنق النصوص الدينية والأحداث التاريخية حتى يتلاءم الإسلام مع أفكار ومنظومات قد تكون في حقيقتها بعيدة كل البعد عن جوهره؟

الواقع أن عجلة التساؤلات الكبرى والصغرى لن تكف أبدا عن الدوران، لذا نرى من الأنسب أن نحدد أولا ماهية الطابع العام الذي يغلب على هذه المقاربات، بغض النظر عن طبيعة الطرف الآخر من المعادلة، وخاصة أن إبراز هذا الطابع العام يكشف عن الخلل المنهاجي الذي يسود أغلب المقاربات الموجودة على الساحة الآن. وعلى كل؛ يمكن القول إن ثمة اتجاهات ثلاثة متمايزة تتبلور عن أية مناقشات - هزيلة الطابع أو حتى جادة - تحاول ربط الإسلام بمنظومة فكرية ما، ألا وهي: الاتجاه الأول: ينظر للمنظومة الفكرية موضع المقاربة (الحداثة وما بعدها في حالتنا هذه) نظرة نقدية لاستكشاف القيم الإيجابية التي تتضمنها، دون إغفال الجوانب السلبية كذلك. الاتجاه الثاني: يحاول التوفيق والموائمة ما بين الإسلام وموضوع المقاربة الذي يُنظَرُ إليه نظرة متوازنة عادة، مع تفضيل الأنموذج الإسلامي (كالشورى بدلا من الديمقراطية على سبيل المثال). الاتجاه الثالث: وعادة ما يتبناه الإسلاميون الحركيون بصفة خاصة (أقصد أصحاب المشاريع السياسية الدينية)، يرفض موضوع المقاربة رفضا تاما، ويرجع أسبابَ الفشل على المستويات كافة إلى الابتعاد عن تطبيق الأنموذج الإسلامي.

اللافت للنظر في هذا السياق، هو أن التعاطي مع المواقف الحدية رفضا أو قبولا، سلبا أو إيجابا، لم يتح الفرصة المناسبة أمام الاتجاه التوفيقي - الذي استغرق بدوره وقتا طويلا في التعاطي سلبا مع الموقفين المتطرفيْن - ليتم مسألة التوفيق وينهي عملية المواءمة بشكل نهائي! ومن ثم، بقيت جهوده محصورة في الرد على أحد الاتجاهين أو كلاهما من جهة، ووضع قواعد عامة للتعاطي مع الآخر من جهة أخرى، دون أن يبلور موقفه هذا في نظرية تامة متكاملة. ولهذا يصح القول: إن ثمة تواترات ظلت حية طوال تاريخ الإسلام من دون أن يحسم الجدل بشأنها، يأتي في مقدمتها جدالات: الدين والدولة، الأصالة والمعاصرة، الهوية والمواطنة، الإسلام وحقوق الإنسان...إلخ.

على أن الأدلجة تبلغ ذروتها فيما يخص مسألة الإسلام وقضايا العصر. فعلى سبيل المثال، يركز الحداثيون في مناقشاتهم على إبراز الجوانب الإيجابية للحداثة مع إغفال تام لبعض سلبياتها. ومن هنا يمكن تفسير المنحى الأصولي عند الفريقين؛ ففيما يعيب الحداثيون على الإسلاميين كثرة اجترارهم لمقولات سلفية ماضوية (أو ظلامية بحسب تعبيرهم)، لا يأخذون بعين الاعتبار أنهم يقعون بدورهم في الفخ ذاته حين يكثرون من اجترار مقولات العقلانية وعصر الأنوار وبعث رموزه من قبورهم! وفيما يرفض البعض مقولات الحداثة استنادا لتاريخ الغرب الاستعماري، يحاول فريق آخر الرجوع بمقولات الحداثة ذاتها إلى جذور إسلامية فيستبدل بعقلانية عصر الأنوار عقلانية المعتزلة، وبالديمقراطية السياسية الشورى الإسلامية، وبالعلمانية فتح الاجتهاد والتركيز على مقاصد الشريعة. وما بين هذا وذاك؛ ثمة فريق آخر يؤكد أن الغرب الإمبريالي لم يأت لربوعنا من أجل أن ينشر حداثته المزعومة، ولا ديمقراطيته الموهومة، وإنما جاء ليسيطر على مواردنا النفطية، وعائداتنا الربحية، ويتحكم في مقدراتنا الحالية والمستقبلية.

وفي هذا السياق، يستحضر الفريق الأخير مقولة لأحد الشيوخ الجزائريين ممن قيل لهم: إن القوات الفرنسية إنما جاءت لنشر الحضارة الغربية الحديثة،‏ فما كان منه سوى أن أجاب مستنكرا: ولم أحضروا كل هذا البارود إذن؟! وهو الموقف ذاته الذي أعاده فيما بعد بطل رائعة الطيب صالح «موسم الهجرة إلي الشمال» حين قال‏: «‏إنني أسمع صليل سيوف الرومان في قرطاج‏،‏ وقعقعة سنابك الخيل وهي تطأ أرض القدس‏. ‏البواخر مخرت عرض النيل أول مرة تحمل المدافع لا الخبز‏،‏ وسكك حديد أنشئت أصلا لنقل الجنود، وقد أنشأوا المدارس ليعلمونا كيف نقول نعم بلغتهم»!

* كاتب مصري